التّعازل واللاتعازل وحقُّ الإنسان في أن يُنسى

إنّها لقضيّةٌ مُثيرةٌ للانتباه بالتّأكيد؛ ربّما لأنّ فيها قدرًا من المتعةِ بقدرِ ما فيها من التّعقيد، ولعلّ مثل هكذا قضيّة استهوَت أهل السّفسطةِ من الّذينَ بمقدورِ أحدهم أن يُبرهنً على الرّأي ونقيضهِ ليُبقيك في حيرةٍ من أمرِك.

في الحقيقةِ؛ أنا أنظرُ إلى هذهِ القضيّة وأمثالها بمنظارٍ معرفيٍّ (أبستمولوجي) أكثر منه منظارٍ مجتزئٍ لقضيّةٍ بذاتها. البعدُ موطنُ التّساؤلِ عندي هنا، هو: هل الإنسانُ كائنٌ مُتعازل أم لا؟ وأعني بالمتعازل هو: امتلاكه لناصية التفرّد المطلق عن غيره من البشر، أم أنّه مُتمَاهٍ معهم بحيث لا يملك أدنى استقلالٍ لكينونتهِ عنهم؟

عندما نقولُ مثلًا: الحياُة حقٌّ مكفولٌ للجميعِ، أو الحريّةُ حقٌّ مكفولٌ للجميعِ، أو ما شابهَ ذلك، فهل هذا الحقُّ أصيلٌ أم مُكتسب؟ هل هو حقٌّ منتج بطبيعة التّكوين، أم أنّه متواضَع عليه بين النّاس؟ من الواضح إنّ مقولة (مكفول) تعني: أنّه متواضَع عليه بين النّاس؛ إذ رأوا أنّ من مصلحةِ الجميع أن يُثبت هذا الحقّ وكفالته، وإذا كانت هذه الحقوق نابعة من التّواصي الاجتماعي؛ فهذا يعني أنّ الإنسانَ كائنٌ غير مُتعازلٍ، إنّه جزءٌ من منظومةٍ مُتشابكة.

حسنًا، إن قُلنا إنّ الإنسان ليس بمتعازل، فهل يبقى للحقِّ الشّخصي من قيمةٍ؟ أنت ابن العموم، وحقّك ينبغي ألّا يتعارضَ مع حقِّ العموم، ومثل ذلك كمثل القانون والدّستور؛ إذِ القانون ينبغي ألّا يتجاوز الدّستور، وهذا يعني أنّ رفض المجتمع -أو حتّى بعضهِ- حقّك في أن تُنسى؛ لأنّ بعضهم ليس لديه مثل ما لديك من أشياء تُريدها أن تُنسى، فإنّ ذلك الرّفض كفيل بإبطال -أو في الأقلّ توقيف- هذا الحقّ حتّى يحصل القبول الجمعي.

لكن؛ ومن جهةٍ ثانية، هل نحنُ –حقًّا- لسنا بمُتعازلين؟ هل نحنُ مُتماهون في المجتمع؟ هل المجتمع مثالي إلى ذلك القدر الّذي يجعل اتّفاقاته مُتّسقة ولا إشكال حولها؟ هل بلغتِ الإنسانيّةُ النّضج الكافي لتُميِّز بوجهٍ لا لبس فيه، ما ينفعها وما يضرّها دون أيّ إشكال ولو من بعض أفرادها؟ وهل (أنا) لا وجود واقعي لي بمعزلٍ عن المجتمع، فإن ذهبتُ إلى جبلٍ أو غابةٍ فإنّ إنسانيّتي سوف تتلاشى؟ الإجابةُ عن هذه التّساؤلات بالنّفي يُعيدنا إلى المربّع الأوّل، ويجعل قضيّة الكفالة المجتمعيّة للحقوقِ مُجرّد حالةٍ مثاليّةٍ يُوهم المجتمع نفسه بامتلاك ناصيتها. وبتعبيرٍ أصرح: يبدو من هذه الزّاوية أنّ الإنسانَ لا يخلو من إمكانيّة التّعازل، ومن ثمّ فالحقّ الّذي يُقرّره المجتمع لا ينطبق على جميع أفرادهِ بالضّرورة، بل رُبّما يصحّ القول: ينطبق على أفراده بالقَبول أو التَّقبّل. من هُنا قد يُجادلُ من يُجادلُ في مُوازاةِ حقّهِ الشّخصيِّ مُقابل الحقّ المجتمعي.

ما يَنتج لنا من هذا التّقابل هو وجود أكثر من حقّ: حقّ مُجتمعي وحقّ تفردي، والسّؤال: هل يُمكن أن يتقبّل الجميع كفالة الحقّين معًا؟

إنْ قيل: لا حلّ لنا إلّا في كفالتهما معًا، فماذا سنقولُ لمن يُخالف قانونَ المرورِ لأنّه يعتقدُ أنّ من حقّهِ الشّخصيِّ ألّا يخضعَ لهذا القانون المجتمعي؟ سيُقال له: إذا لم تحترمْ هذا القانون (حقّ مجتمعي) فاخترْ طُرُقًا غير الطّرقِ الّتي وُضعت فيها علاماتُ المرورِ هذه، اخترْ طرقك المتفرّدة الخاصّة الخاليةِ من هذهِ القوانين ومارس حقّك الشّخصي على اختيارك.

إلى أينَ ستُوصلنا مثل هذه القراءة المتكافئة في الفعلِ وردِّ الفعل؟

حسنًا، ربّما تُوصلنا بالنّتيجة إلى حالةِ التّعادل الصّفري، ومن هنا قلتُ: إنّ علينا أن نَرتقي عن ذلك للنّظر في منظارٍ أبستمولوجي مُختلِف؛ إذْ هذا المنظار التّقليدي سيُبقينا نلفّ وندورُ حول أنفسنا، كما أظن.

في المنظومة الأبستمولوجيّة الّتي أتحدّثُ عنها، وهي: المنسوبة إلى قيمِ التّفكير التّضامري؛ فإنّ الإنسان -وبجرّة قلم واحدة- هو كائن (مُتعازل لا متعازل – نسبويًّا)، وفيها وبدلًا من أن تكون النّتيجة صفريّة إذا ما نظرنا إلى إلغاء أحد الشّطرين للآخر، يُمكن النّظر إلى حالةِ التّكامل فيما بينهما. كيف، أو ما الّذي يعنيه ذلك؟

إذا افترضنا مثلًا: أنّ التّوصيف المناسب لمثل هذه الحالة هو أنّ الإنسان كائن (شبه متعازل) لا هو متعازل فقط ولا هو غير متعازل كليًّا، هو منظومةٌ مُعقّدة من كليهما معًا، فعندئذٍ سيُمكننا القول ما يأتي:

للإنسان الحقّ النّسبوي في أنْ يُنسي، وهذا يعني: أنّه ليس لديه الحقّ النّسبوي في أن يُسنى.

إذا تقدّم شخصٌ وطلبَ من (جوجل) في أن تُنفّذ حقّه في أن يُنسى فهذا مقبول نسبويًّا، وعلى (جوجل) أن تستجيب لما نشره هو عن نفسه من معلوماتٍ أو بياناتٍ؛ ولكن ليس لـ (جوجل) أن تحذفَ المعلومات نفسها إذا نشرها غيره عنه؛ لأنّ حقّك في أن تُنسى، هو حقٌّ شخصيٌّ ذاتي، والذّاتي لا يشمل غيرك. بالتّأكيد، إنْ كانت المعلومات المنشورة من الآخر غير صحيحةٍ؛ فالحقّ القانون بالمقاضاة مكفول نسبويًّا؛ ولكن إن كانت المعلومات المنشورة عنك من الآخر صحيحة، وذلك الأخر لا يُريد أن ينساها؛ فهذا حقّه النّسبوي، لا حقّك أنت.

وَفْقًا للمذكور آنفًا، أعتقدُ أنّ الأولى تصحيح المنظومة القيميّة لتُصبح الحقوق المكفولة مجتمعيًّا أو دوليًّا حقوقًا نسبويّة وليست مُطلقة أو شاملة؛ لأنّ تعميمها على الوجهِ الّذي نعرفها عليه الآن، لا يخلو من وضعها في خانة المثاليّة الشّمولية، ونعلم أنّ مثل هكذا مثاليّة تكون بطبيعتها مُستبدة ولو بوجهٍ من أوجه الاستبداد. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *