القراءة المحصلاتية

بالاستناد الى مدرستي؛ الترادف واللاترادف، يمكن القول بأن فهم المصحف الشريف يندرج ضمن نمطين في القراءة: القراءة العمودية والقراءة الأفقية. والفرق الرئيس بينهما هو التركيز، فالقراءة العمودية تركز على التفاصيل والتداخلات الدقيقة داخل مجال محدد، وهذا ما يفعله رواد مدرسة (اللاترادف)، بينما القراءة الأفقية تركز على النظرة الشاملة والتحليل المقارن بين النصوص المختلفة، وهذا ما تبناه بالفعل أصحاب مدرسة (الترادف). ولتوضيح هذه المقاربة نأخذ المثال الآتي:

في مدرسة الترادف، لا فرق بين القرآن الكريم والكتاب المبين، كلاهما الحقيقة الموضوعية نفسها، والاختلاف في الفاظ التعبير عن تلك الحقيقية الواحدة في نفسها. فلفظة القرآن تدل على جمع الآيات في سور، وجمع السور في مصحف واحد، كما تدل على القراءة، وهي عندهم تعني التلاوة. أي النطق بالآيات آية تلو آية. وأما لفظة الكتاب فتعني الآيات نفسها التي خطت في الصحائف أو القراطيس وتلاها المؤمنون الأوائل كما سمعوها من النبي {صلى الله تعالى عليه وسلم}. فهنا نجد ان النظرة الترادفية تقرر بأن اللفظتين يترادفان في التعبير عن الشيء الموضوعي نفسه، فالقرآن هو الكتاب من حيث النطق، والكتاب هو القرآن من حيث التدوين، فالفرق بينهما في الشكل لا في المضمون.

وأمّا في مدرسة (اللاترادف) فالأمر مختلف، فالكتاب لفظ يدل على آيات نصية بعينها، وهي التي تتعلق بأحكام الشريعة وشعائرها، وكل ما يتعلق بالظاهر، وأما لفظة القرآن فتدل على شيء آخر تماما، لا علاقة له بالشريعة أو الشعائر، بل هي لفظة دالة على النبوة الهادية إلى وجود الله تعالى ووحدانيته وكل ما يتعلق بالإيمان بالغيب الباطن. فإذا كانت الآية تحكي عن حكم ديني تشريعي أو شعائري فهي من آيات الكتاب وليس القرآن، وأما أن كانت تحكي عن تفكر في ملكه سبحانه أو ملكوته فهي من آيات القرآن وليس الكتاب. وعلى هذا، فإن اتباع هذه المدرسة يرون ان ما بأيدينا هو المصحف الجامع لآيات الكتاب والقرآن وهما متداخلات مع بعضها البعض، وعلى العقل الاجتهاد في الفرز والتمييز بين الآيات.

فالترادفيين يقرأون ما أنزل على النبي محمد {صلى الله تعالى عليه وسلم} قراءة أفقية شاملة، في حين أن اللاتردفيين يقرؤونه قراءة عمودية تفصيلية.

وأما نحن، فنقرأ ما انزل على النبي محمد {صلى الله تعالى عليه وسلم} قراءة محصلاتية، ولك بالاستناد إلى نظريتنا في الترادف النسبانوي. والقراءة المحصلاتية هي القراءة التي التكاملية التي تتوسط المسافة بين الافقي والعمودي. وتفصيل هذه القراءة يتلخص في الآتي:

ان المشترك بين الكتاب والقرآن هو ان كليهما يتكون من آيات، فهذا الأصل هو الدلالة المحددة المشتركة بينهما،  وهذا يعني: لا فرق بين الكتاب والقرآن من حيث الأصل الوجودي وهو كونهما آيات منزلة. فإن أخذت المصحف وقلت: هذا الكتاب المبين أو قلت هذا القرآن الكريم، فلا فرق. ولكن إن أخذت المصحف من حيث الدور الوظيفي للآيات، فهنا يحصل تفصيل أو تفريع، فإن اردت وظيفة المصحف من حيث التشريع الذي يخاطب العقل والظاهر فالمصحف يكون بمثابة كتاب مبين يضمر الدلالة على القرآن. وإن أردت وظيفته من حيث التفكر الذي يخاطب القلب والباطن فالمصحف يكون بمثابة القرآن الكريم الذي يضمر الكتاب. فحيثما يظهر دور فإنه يضمر بوجوده الدور الآخر الذي لا يماثله.

بكلمات أوضح:

قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

هذه الآية تصنف حسب (اللاترادف) ضمن آيات الشعائر الدينية، وبالتالي فهي من آيات الكتاب، ولفظة  (كتب) واضحة في تقرير هذا التصنيف.

بحسب مدرسة (الترادف) فإن هذا التصنيف لا قيمة له، فهي من آيات القرآن، وذلك أنه لا فرق بينهما.

بحسب (نسبانوية الترادف)، هذه الآية تظهر الدلالة على أنها من آيات الكتاب بدلالة (اللاترادف) وبالتالي فهي بالضرورة تضمر الدلالة على أنها من آيات القرآن بدلالة (الترادف)، وعبارة (لعلكم تتقون) تشير إلى ذلك حيث إن التقوى من اعمال القلوب وليس الظاهر. يعني: الآية ظاهرها كتاب وباطنها قرآن. فإن أخذتها من حيث التطبيق الظاهري فأنت تتعامل مع آية كتاب، وإن أخذتها من حيث الأثر القلبي أو الأخروي الباطن فأنت تتعامل مع آية قرآن. غير ان المظهر أنها (آية كتاب تضمر قرآن).

في المقابل آية من قبيل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]، فهذه الآية تصنف على أنها من آيات القرآن وليس الكتاب، لأنها لا تتضمن حكما تشريعيا أو شعائريا، بل هي قصة عن حدث غيبي سابق، فضلا عن التصريح بلفظة (القرآن) فيها. والقصة تؤخذ منها العبرة العقلية أو الباطنة ﴿لَقَدْ كَانَ فِي ‌قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111] وليس الحكم الظاهر. وهذا يعني أنه مهما جاء في القصة من تعليمات أو توجيهات فلا يؤخذ منها احكام تتعلق بالظاهر، بل يقتصر ما يؤخذ منها على ما يهدي القلب، حيث إن تتمة الآية: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]، فالقصة غايتها الهدى والرحمة لقوم بعينهم، وهم المؤمنين، وليس الغاية منها استنباط احكام شرعية أو شعائرية.

كان هذا توجه (اللاترادف)، وأما التوجه (الترادفي) فلا يعير هذا الفهم بالا، فعنده أي نص يتضمن توجيها معينا يمكن ان يستنبط منه حكما تشريعيا.

بحسب (نسبانوية الترادف)، فإن هذه الآية تظهر الدلالة على القرآن وتضمر الدلالة على الكتاب، وبالتالي فحتى لو تضمنت حكما تشريعيا، فإن منزلة ذلك الحكم هو الاضمار لا الاظهار، أي لا يسقط على الواقع الخارجي الا من حيث الاختيار الفردي، لا الحكم الجماعي، الذي يعمم ليشمل جميع المؤمنين.

إذن: في القراءة المحصلاتية، لا يتم اتخاذ قرار مسبق بناء على منظور افقي أو عمودي، حيث يكون النص فيه مقيدا بقيود اللغة واحكامها، بدلا من ذلك يجري النظر في التفاعل بين إمكانات اللغة والواقع الخارجي، وما حصل معه التوائم أو التناسب بين اللغة والواقع، يرجح على ما سواه.