قراءةٌ في نسبانويّة التّأويل

من نماذج التّأويل: ({وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (١). يقولُ السّيد (كمال الدّين الحيدري): فالألفاظ هي الشّيء المنزّل بقدرٍ معلوم لدينا بسقفها الصّوتي والكتبي، وأمّا الخزائن فهي الحقائق التكوينيّة الخارجيّة الّتي تُمثّل روح القرآن وحقيقته الّتي تجلّى الله تعالى فيها لخلقه ولكن لا يبصرون {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}(٢).  

وتلك الخزائن ثابتة غير مُتغيّرة، باقية غير فانية، وقد أُشيرَ إلى هذه النّكتة الشّريفة في آية الخزائن، حيثُ يقول تعالى: «عندنا خزائنه»، وما دام الشّيء عنده سبحانه فهو باقٍ: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (٣) (٤).  

نُلاحظ هنا أنّ الله تعالى قال: «وإنّ من شيء» ونحنُ لا نعلم ما هذا الشّيء بالتحديد؟ هل يشمل كلّ ما يُمكن أن يُطلَق عليه شيء فيدخل فيه كلّ ما سوى الله، أم لا؟ لا نعلم؛ ولكن أتى السّيد الحيدري فخصّص المعنى وعيّنه، ووضّحَ أنّ المرادَ به هو: الألفاظ بصوتها وصور كتابتها، وعنى بها في سياق حديثه ألفاظ القرآن الكريم الّتي أنزلها الله من خزائنه. هل حقًّا كان مراد الله تعالى من «وان من شيء» ما ذكره السّيد الحيدري؟ من يعلم؟! رُبّما يكون هو المراد وربّما لا يكون.

إنّ ما ذهب إليه الحيدري هو ما نَعنيه (بالتّأويل الكسبي)، وهو: مُحاولة توقّع مراد الله، والاتيان بحسَبِ الطّاقة البشريّة ما يقتربُ من المراد الكلّي أو الحقيقي، وإن كان ما يأتي به الإنسان مُطابقًا، فستبقى تلك المطابقة مجهولة وَفق هذا المستوى؛ لأنّه مستوى اجتهاد العقل لا مُستوى تحصّل الوهب.

هل هذا النّوع من التّأويل صحيح؟ تضامريًّا، نقول: (صحيح لا صحيح) نسبانويًّا بدلالة فعل التّأويل. فأمّا كونه (صحيح نسبانويًّا)؛ فلأنّه احتمال من احتمالاتِ التّأويل الّتي لا تتعارض مع صريح الرّسالة ولا مضامينها. أمّا كونه (لا صحيح نسبانويًّا)؛ فلأنّ هذا الاحتمَال لا يستغرق حقيقة المُراد بالآية، أو المراد الحقيقي كما يعلمه الله تَعالى منها. 

من جانب آخر، (صحيح لا صحيح) نسبانويًّا بدلالةِ فاعل التّأويل؛ أي: الشّخص المؤوّل. فأمّا كونه (صحيح نسبانويًّا)؛ فلأنّ المؤوّل اجتهد بقدر الطّاقة ووَفق منظور مُقرّر لديه ليأتيَ به. أمّا كونه (لا صحيح نسبانويًّا)؛ فلأنّ المؤوّل لم يكسر حتميّة التّعميم في تأويله، فبدا كأنّه يقولُ هذا هو المقصود الحقيقي بالآية، وهذا ما نعدّه مُصادرة على المطلوب، أو بتعبيرٍ أدقّ: مُصادرة على الموهوب؛ إذ يُمكن أن يأتي بهذا التّعميم صاحب التّأويل الوهبي، مثلما أتى بهِ العبدُ الصّالح مع مُوسى -سلام الله عليه-.

بالتّأكيد، فالفكرة ذاتها يُمكن أن نُكرّر ذكرها بشأن تأويله لمعنى (الخزائن)، ولأيّ تأويل يأتي به هو أو غيره، ضِمن مُحاولة فهم القرآن. نحنُ إن طرحنا الـ (لا صحيح نسبانويًّا) أو استخلصنا الـ (صحيح نسبانويًّا) فقط، فسيكون لدينا تأويلٌ سليمٌ مُستوفي لشُروط التّضامر التّكامليّة، عندئذٍ ستكون صياغة التّأويل –لهذه الآية مثلًا- على الوجهِ القائل:             

«فالألفاظ هي نسبانويًّا ذلك الشّيء المنزّل بقَدرٍ معلومٍ لدينا بسقفها الصّوتي والكتبي… إلخ».

أو: «فيحتمل أن تكون الألفاظ هي الشّيء المنزّل بقدرٍ معلومٍ لدينا بسقفها الصّوتي والكتبي… إلخ».  

في شقٍّ آخر من تأويل السيد الحيدري، وجدناه يقول:

«وأمّا الخزائن فهي الحقائق التكوينيّة الخارجيّة… ولكن لا يبصرون {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}». فقرّر هُنا، أنّ هناك تلك الحقائق التكوينيّة، وأنّها قابلة للرّؤية، والأهم أنّها المقصود الحقيقة الّذي تعنيه أو تتضمّنه لفظة الخزائن، وأنّ النّاس لا تبصرها إلا من رحمه الله بعزته ورحيميته.

التّساؤل ضمن حيثيّات هذا الشّق، هو: هل نزل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بشأن من لم يُبصر محتويات تلك الخزائن أم نزلت في شأنٍ آخر؟ حين نُراجع هذه الآية الكريمة؛ نجد أنها في سياقِ ما يحدُث في يوم الفصل، كما قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ. يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (٥). معناهَا الأساسي (التّفسير الكسبي). إنّ من يرحمه الله بعزته ورحيميته، يكون له مولى يُغنيه، فقد جاءَ في التّفاسير إنّ المؤمن تشفعُ له الأنبياءُ والملائكةُ… إلخ(٦) . وهذا يعني: أنّه لا صلة مُباشرة بين هذه الآية والمورد الّذي ساقها فيه الحيدري، فهل يصحّ ذلك؟

نقول: (يصحّ لا يصح) نسبانويًّا بدلالةِ التّأويل. أمّا وجه الصّحة، فلأنّ هذا النّوع من الرّبط أو التّكامل بين الآيات الّتي لا صلة مُباشرة بينهما، يُمكن أن يكون فعلًا تأويليًّا مُساعدًا على الاقتراب من المراد نسبانويًّا، وهو فعل تأويلي لأنّه بالإمكان استبدال هذه الآية بغيرها، فيبقى المقصد ذاته أو حتّى يتغير. فهذا غير مستشكل عندنا، وما يُمكن أن نستشكله، هو أن يتّخذ هذه الأفعال التّأويليّة كمصاديق لا كمفهومات، بمعنى: أنّها تأخذ عند المؤوّل موقع الجزم أو القطع، فهذا ما لا يصحّ نسبانويًّا من وجهةِ نظرنا؛ إذ يلزم -وكما قلنا-: طرحُ التّعميم.

هناك شطرٌ ثالثٌ في تأويل الحيدري، وهو قضيّة ثبات الخزائن وخلودها؛ لأنّها في عندية الله، إذ ما كان في عنديته لا ينفد أبدًا؛ لقوله تعالى: «ما عندكم ينفد وما عند الله باق». الحقُّ إنّ هذا يندرج ضمن ما يُسمّى (القرآن يُفسّر بعضه بعضًا)، إذ يُؤخذ ظاهر لفظ، ويُفهم لتصريح لمعنى هذا اللّفظ، أو مقصد الله منه في آيةٍ أخرى.

لكنّنا نتساءل: عندما نقرأ قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (٧)، نستطيع أن نقول بالمثل: إنّ المقصود هو أنّ الخزائن درجات؛ لأنّ ما عندَ الله درجات، ولا يُوجد ما يمنع ذلك، ولا يوجد تعارض أيضًا؛ ولكن دائرةُ الفهم تتّسع –كما ذكرنا سابقًا- من المصداق الى المفهوم، ومن الأحاديّة إلى التّعدديّة، ومن القبض إلى البسط… فلا تعود خزائن الله تُفهم على أنّها خالدة فحسْب، بل ودرجات، وفي كونها تتضمّن أرزاقًا، كما تُشير إلى ذلك الآية: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(٨).

يُمكن أنْ تكونَ الخزائنُ منازلَ للأبرارِ أيضًا، كما يُشير قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}(٩).

 إنّ الخزائن -وبسبب كونها في العنديّة- تتّصف بأنّها جامعة للأحكام والتّشابه؛ لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(١٠)… وإلى آخر الآيات الكريمة الّتي تنفتح على أيّ درجةٍ من درجاتِ معنى العندية. ما نقولهُ هنا: إنّ ما يُسمّى (تفسير القرآن بعضه بعضًا) الّذي استخدمهُ السّيد الحيدري، يندرجُ ضمن مُقترباتِ التّأويل الكسبي، وتنطبق عليه قواعد النّسبويّة الّتي سبق أن ذكرناها آنفًا.

على هذه الشّاكلة، وبهذا المنطق؛ نُحلل التّأويل والتّفسير، ونبني عليه رؤيتنا في نسبانويّة الفهم وتكامليّة المعنى. 


  1. [الحجر: 21].
  2. [الدخان: 42].
  3. [النحل: 96].
  4. طلال حسن، معرفة الله، من أبحاث السّيد كمال الحيدري، دار فرقد، إيران، ط1، 2007م، ج2 ص156.
  5. [الدّخان: 40 -42].
  6. تفسير الرّازي، مفاتيح الغيب أو التّفسير الكبير، ج27 ص663.
  7. [آل عمران: 163].
  8. [آل عمران: 37].
  9. [آل عمران: 198].
  10. [آل عمران: 7].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *