لكل شيء بداية وبدايات نسبانويا

 لم تزل “فلسفة التضامر” تعمل في تفكيري مثل عمل الشجرة المثمرة، ولئن شبهتها بالشجرة فعلي القول: هي بطبيعتها لا تماثل بقية الأشجار، إذ إذا كان لكل شجرة ثمارها الخاصة بها، فلا تتغير تلك الثمار ولا تتعدد، بل غايتها التجدد بتجدد موسم العطاء، فإن شجرة التضامر خلافا لذلك تعطي ثمارا متنوعة، ولم تزل تمنح جميع ثمارها على تنوعها واختلافها، بنكهتها الخاصة لها والمتمثلة بطعم النسبانوية.

واحدة من ثمارها الفكرية كانت فكرة (تضامر البداية)، فإذا كان وكما يقال: (لكل شيء بداية) فإن هذه المقولة تضمر الدلالة على واحدة من اهم الأفكار، وهي أنَّ (لكل شيء بدايات متجددات أو متنوعات).

كان يوم ولادتي يوم بدايتي في هذه الحياة؟ هل كانت هذه هي البداية الحقيقية لوجودي أم أن لي بداية سابقة، في عالم سابق؟ وهل ستكون لي بداية بعد انقضاء أجلي هنا، حيث أحيا في حياة أخرى أم لا؟

قد تكون الإجابة بمنطق الفلسفة المادية، قاطعة جازمة: لك بداية وحيدة ونهاية وحيدة. فلا سابق لها، ولا لاحق بعدها.

ولكن الإجابة في (فلسفة التضامر) هي: بل لي بدايات سابقة وأخرى لاحقة. وجدت سابقا بطريقة تتناسب مع طبيعة ذاك الوجود، وسأوجد لاحقا بطريقة تتناسب مع ما سيكون عليه الوجود، وشأني في تلك الوجودات كشأني الآن في هذا الوجود، فأنا فيه بطريقة تتناسب مع طبيعته المحسوسة هنا.

يتسق هذه الفهم، مع الطرح القرآني لهذا الموضوع، فالقرآن الكريم، ينبئ عن أن للأشياء ومنها الانسان، بدايات لا بداية واحده:

﴿إِنَّهُ ‌يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ [يونس: 4] 

﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ‌وَفِيهَا ‌نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55] 

﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ ‌مِنْ ‌قَبْلُ ‌وَلَمْ ‌تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9] 

﴿قُلِ اللَّهُ ‌يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [يونس: 34] 

كل إعادة فهي بداية، أصلا إن الطرح القرآني ينبئ عن هذه الاعادات لم تزل تحصل في  واقعنا المعيش يوميا، فكلما نامت نفس فإنها تدخل في  حالة الوفاة، فإما تمسك عليها وتموت أو ترجع من الوفاة إلى الحياة ﴿اللَّهُ ‌يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42] فكلما استيقظت نفس من نومة نامتها، فتلك بداية جديدة.

نعم، تنخدع النفس بظنها انها مستمرة بالحياة، وان شيئا جديدا لم يحصل، لكن واقع الحال، فقد نامت وقامت في  الحياة نفسها. ولكن الامر ذاته سيحصل حين تنام وتقوم في الآخرة، فأيضا سوف تظن ان شيئا جديدا لم يحصل، لأن قيماها في تلك الحياة بطبيعة تلك الحياة،  فلا تشعر باختلاف، ولو انها  تقوم في الآخرة بالطبيعة الوجودية لهذه الحياة لرأت الفرق الفارق.

أرأيت حين تقوم في عالم الاحلام وتعمل أشياء كثيرة، وأحيانا ينتابك قبس من وعي بأنك في الحلم، لكنك لا تتفاجأ من العالم الجديد الذي انت فيه ولا من خصائصه العجيبة المفارقة لكل قوانين المكان والزمان والاحجام والجهات والألوان والمحسوسات وكل شيء، إنه عالم لا يماثل عالمنا تماما، ولكن ومع ذلك فحين تقوم فيه لا تنكره بل تتعامل معه بمنطقية وكأنه واقع مسلم به. وأكثر من ذلك، أنك حين تستيقظ قد تبقى متعايشا مع ما رأيت لفترة من الوقت، دون ان تشعر بأي استنكار لطبيعة ذلك العالم.. لماذا؟ لأنه امتداد واقعي لكينونتك أو لحقيقتك.                 

بل الأكثر من ذلك كله، أن القرآن يذهب بعيدا جدا، حين ينبئ بأننا وفي يقظتنا نمر بعملية خلق جديد مستمر، يلتبس على حواسنا ادراكه لسرعته الفائقة ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي ‌لَبْسٍ ‌مِنْ ‌خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: 15]. فنحن في بدايات متجددة مع الأنفاس إن صح التعبير.

ليس القرآن فقط من ينبئ عن تعدد البدايات، فللعلم تنبؤاته التي تفترض هذه الفكرة أيضا، فالعديد من النظريات العلمية التي انبثقت بعد عصر الفيزياء الحديثة، تخبرنا أن أصل الكون كمومي أي احتمالي، ومنه ظهرت نظريات متعدد الاكوان، والأوتار الفائقة، وغيرها، لعل آخرها النظرية التي طرحها الراحل ستيفن هوكينغ ، والتي تمحورت حول أن الأصل هو أزمان متعددة وليس زمانا واحدا. يعني وباختصار: للكون بدايات وليس بداية. وهذا ينسحب على كل شيء في  الكون.

وهكذا، وجدت الفكرة الفلسفية التي اعطتني إياها شجرة التضامر، والتي اخبرتني فيها بأن لكل شيء بدايات وليست بداية وحيدة، قد وجد لها صدى عميق في كل من الدين والعلم. إنَّ فكرة يجتمع عليها ثالوث المعرفة: (الدين والفلسفة والعلم)، لجديرة بأن يؤخذ بها، ويركن إلى آثارها.