أطفالُنا: هل نأمرهم بالصّدقِ أم نُربّيهم على المُحاولة؟

لماذا يبدو أن جانبًا كبيرًا من الشّخصيّةِ العربيّة -وربّما الإنسانيّة- مُزدوجَة القِيَم؟ يفعلُ الشّخص –أحيانًا- عكسَ ما يعتقد، يُضايقُ بناتَ النّاسِ في الشّارع بالكلماتِ، لكن في الوقتِ نفسهِ، يحرصُ على ألَّا يمسّ أحد إحدى محَارمه. هذا الموضوعُ ناقشهُ الدّكتور علي الوردي مقصورٌ في بحثهِ على شخصيّة الفرد العراقيّ، وكانت وجهة نظرهِ بأنّ الازدواجيّة مُتجذّرة فيه على أثَر تضَارب منظومة قيم البَدَاوة مع منظومة قيَم الحضَارة على مَدى مئاتِ السّنين ممّا انعكس سلبًا على الثّقافةِ العراقيّة.

نحنُ نعتقدُ بأنّ منشأ الازدواجيّة أبستمولوجي (معرفي) في المقام الأوّل، وهو ينشأُ من تجاهل الزّوجيّة؛ إذ إنّ المنظومة المعرفيّة المُزدوجة، تسعَى في مجمَلها أثناء تعاقب الحضَارات على زرع قيم أُحاديّة في الشّخصيّة، خاصّة في مرحلةِ الطّفولة، تتمثّلُ بالفضائل فقط، فيُربّى الطّفل على أساس أنْ يكون صادقًا وكريمًا وشجاعًا وشهمًا وشريفًا، وما إلى ذلك، وترتكزُ التّربيّة على توجيهاتٍ تصبّ كلّها في مسارٍ أُحاديّ يُحاول تحديد حياة الطّفل ضمن مُقرّرات العاداتِ والتّقاليد الاجتماعيّة. أمّا في المسلك الدّيني، فالالتزام يكون أكثر تشدّدًا إذ إنّ مفهوم الاستقامة يُحدّد الأوامر والنّواهي كأنّها سكّة قطار ثابتة، وقانونها الوحيد (افعلْ – لا تفعلْ)، وأدنى حياد عن هذه السّكة سيُؤدّي إلى كارثةٍ أخلاقيّةٍ ودينيّةٍ مصيرها النّار لا محالة.        

نحنُ نُجادل بأنّ التّربية عندما تكون أحاديّة حدّية؛ فإنّها تكون مُخالفة للفِطرة الإنسانيّة المُتضامرة في ذاتها، فعلى سبيل المثَال: أنْ نأمرَ الصّغيرَ بالصّدقِ وعدم الكذب أبدًا، فهذا فيه مُغالطات عديدةٍ تُؤدّي في نهايتها لتكوين شخصيّة مُزدوجة، لا مبدئيّة، كما نتوهّم، وذلك، أنّ تحقّقَ الإنسان بالصّدق بشكلٍ تام ودائم أمرٌ مُحال، إلّا إن كان الإنسان معصومًا، ولمّا كان ليس كذلك، فالضّغط على الطّفل ليتحلّى بهذهِ القيمة الأخلاقيّة تجعله يكبت الاندفاع نحو مَا لا يُماثلها وهو الكذب أو الاختيال أو الاحتيال أو المواربة، والأمرُ ذاته ينطبقُ على القِيَم الأُخرى، وتكون النّتيجة شخصيّة مُزدَوجة، تُحرّم على الآخرين في العلن مَا تُحلّل لنفسها في السّر، وتظهرُ أمامَ المُجتمعِ خلاف ما تُظهر بعيدًا عن الأنظار، ومعظمنَا -إنْ لم نكن جميعنا- يلمسُ في نفسهِ وفي مُحيطهِ من هذه الحقيقة ما لا يستطيع إنكاره أو التّنكر له.

إنّ النّفسَ بطبيعتها غير مستقرّةٍ على حال، ولا يقرّ لها قرار؛ لذا فإلزامها بحدودٍ قطعيّةٍ وثابتةٍ يكون غير منسجمٍ مع هذه الطّبيعة؛ لذلك فالأصح فيما نرى، هو الانتقال من التّربيةِ بالطّريقة الَّتي لا تَحتمل إلَّا وجهًا واحدًا، إلى تلك الَّتي تُوحي باحتماليّة وجود أكثر من وجه. فهذا من شأنهِ أن يبقي هامشًا للاختيار الحر، وحين يُصدق الإنسان فإنّه يفعلُ ذلك لأنّه اختار فعل ذلك لا لأنّه قد فُرض عليه، وقد قيل: النّفس قد تصبر باختيارها على الجلوس في البيتِ شهرًا لكنّها تجزعُ من حبسِ يوم.

 فعلى سبيل المثال: لا ينبغي أن نقول للطّفل: عليك أن تكون صادقًا وأن لا تكذب لأنّ الكذبَ حرامٌ والحرام يُدخلك النّار، فهذا طلبٌ غير واقعيٍّ بل مثاليّ صرف. فليخبرني أحد: من منّا لا يكذب مهما حاول أن يمتنعَ عن ذلك؟ وكيف نمنعهُ من شيءٍ هو مُتأصّل في طبيعة نفسه؟ فلماذا نلقّنهم ونُحاول أن نزرعَ فيهم ما هو مُخالف لفطرتهم، وما هو محال تحقيقه في الواقع؟ علينا أن نُمزّق قشرة المثاليّة المفرطة، وأن نقتربَ أكثر من الواقع والواقعيّة ما أمكننا ذلك.

في التّربية على الفضائل علينا أن نقولَ للطّفل: عليك بالصّدق ما استطعتَ إليهِ سبيلا، حاول أن تكونَ صادقًا قدر الإمكان. بل علينا أنْ نُعلّمه بأنّ معاملة الآخرين بالمثل صدقٌ بصدقٍ وكذبٌ بكذبٍ، وقد قيل فيما قيل: (التّكبر على المُتكبّر فضيلة). علينا أن نُفهمه أنّ الصّدق يُتحرّى عنه لأنّه الأفضل، والشَّيء ذاته مع جميع الفضائل والمكارم. وبالمثل يُتعامل مع الرّذائل والممنوعات. يُحاول ويجتهد قدر المستطاع. ذلك هو معنى التّقوى الَّتي جاءت تدعوا له الشّرائع السّماويّة. التّقوى هي مُحاولة الأخذ والفعل والمُمارسة، وفي المقابل مُحاولة التّرك والإحجام والامتناع، وهذا القول متوافق تمامًا مع ما جاءَ في القرآن الكريم من قوله تعالى: “{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ …} [التّغابن: 16]”.

من المؤسف أنّ مفهوم المُحاولة غير مقترنٍ بالأوامر والنّواهي الدّينيّة، وبالمسموحات والممنوعات الاجتماعيّة، وذاك فيما نَرى، عاملٌ أساسيٌّ من عوالم تُشكّل النّفس بحالةٍ من الازدواجيّة، ذلك أنّها بالازدواجيّة والازدواجيّة فقط، تُحاول التّوفيق بين المثاليّة والواقعيّة.

أقولُ: بهذا المَنطق، منطق المُحاولة لا منطق المخاتلة قد ينشأ الطّفل ليكون كما يُفترض أن يكون لا كما يُفرَض عليهِ أن يكون، ينشأ ليكون إنسانًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *