الأنا ما بينَ العقيدةِ والفلسفة

سألني صديقٌ([1]) عن موقفي من قضيّة القضاءِ والقدر وهل الانسان مُسيّر أم مُخيّر؟ فانطلقتُ لا ألوي على شيء اتحدّثُ في موضوعٍ أحسبني تجاوزتُ متاهاته منذ سنين خلت، بعد أنْ أخذَ منّي حيِّزاً لا بأسَ به من التّفكير والنّظر، الَّذي انتهى بالاستقرارِ على اعتقادٍ محدد. حين انتهيتُ من حديثي، قال لي صديقي: “هذه وجهةُ نَظرٍ معتبرة، لا بأس بها، لكنّي أرى خلافَ ذلك، ثُمّ راح يُحدّثني عن وجهةِ نظرهِ هو، وفيها ما يُناقضُ ما ذهبت إليه.

أثناء حديثه، حصل في داخلي ازدواج فكري، أعني بذلك أنّ فكرتينِ تقابلتا في ذهني… سينتهي بعد قليل من حديثه وعليّ أن أختارَ اجابتي وفقًا لإحدى الفكرتين، الأولى كانت تتعلّق بأنّ موقفي من الموضوع هو رأي مُستفاد من تجربةٍ ذاتيّةٍ شخصيّةٍ توصّلتُ لها بعد صراعٍ فكريٍّ وتقلبّاتٍ عديدة، والانسياقُ وراء هذه الفكرة يُلزمني أن أُجادلَ صديقي محاولًا تفنيد فكرته الَّتي تفترضُ ما يُناقض معتقدي.

أمّا الفكرة الثّانية الَّتي راودتني، هي أنّ الفلسفة الَّتي اتبناها -واعني بها فلسفة التضامر([2])– تفرضُ عليّ عدّ وجهة نظر صديقي لا مثيل وجهة نظري، وهذا يعني ضمن سياقاتِ هذه الفلسفة: هو أنّ فكرتينا عبارة عن احتمالين ممكنين، وأنّ وجودهما ضرورة لا مفرّ منها، إذ ووفقًا للتضامر؛ إذا وُجد شيء فلا بدّ من وجودِ لا مثيله، كما ينصّ على ذلك قانون التّضامر الأوّل([3])، ثمّ يلي ذلك القانون الثاني([4]) الَّذي يفرضُ عليّ أن استكشفَ مجهول فكرتي من معلوم فكرته، ومجهول فكرته من معلوم فكرتي، لتكون الخاتمة في القانون الثّالث([5]) الَّذي يفرضُ وجود أكثرَ من إجابةٍ لأيِّ سؤال، وأكثر من احتمالٍ لأيِّ فكرةٍ أو اعتقاد.

هذا يعني أنّني إذا كلّمتُ صديقي من منظورٍ فلسفيٍّ لا من منظورٍ معتقدي، فإنّ ذلك سيفرضُ عليّ أنْ أقدّم تنازلًا مفاده: وجوب أن أنظر إلى فكرتي على أنّها ليست الإجابة القطعيّة النّهائيّة، المطلقة، الوحيدة الصّحيحة، بل ستصبحُ فكرة ذات يقينية أو مصداقيّة احتماليّة؛ بمعنى أنّني بدلًا من أن أُحاوره وأنا أعتقد أن فكرتي صحيحة 100% سيتوجّب عليّ وحسب الاحتمال النيوتروسوفي([6]) الَّذي تفترضه النّظرية، أن أحاوره وأنا أعتقدُ أن فكرتي صحيحة بنسبة س% حيث س أصغر من 100 وأكبر من صفر ( )، في المقابل يتوجّبُ عليّ أن أقول أنّ فكرته لها فرصة متكافئة، فهي أيضًا تقعُ في مدى المصداقية ذاته ما بين 100% و 0%. هذا يعني ضمنًا أنّني أوافق على احتمالِ أنْ تكون فكرته صحيحة بنسبةِ 99% مثلًا، ووقتها ستكون نسبة صحّتها لفكرتي هي 1%، وهو أمرٌ خطيرٌ وحسّاس، يجبُ عليّ أنْ أحسمَ أمري بشأنهِ سريعًا خلال الثّواني القليلة المتبقيّة من حديثهِ الّذي أوشكَ على الانتهاءِ. هو بلا شكٍّ سيوّد سماع ردِّي على ما تحدّث به.

قد يوجدُ في طيّات العقل زمكان من نوعٍ خاص، زمكان يُمكن أن ينبسطَ فيه الزّمان فيصبح بطيئًا بحيث تبدو الثّواني الكونيّة كأنّها دقائق أو أكثر، وهذا ما يسمحُ للمرءِ بمناقشةِ نفسه بتؤدة كافيةٍ بحيث يصلُ إلى اتخاذِ قراراتٍ هامّةٍ وبخاصةٍ إذا كان تحت الضّغط. لكن كمّ منّا يستطيع أن يشعرَ بالحالة الزّمكانية في العقلِ خلال حياته، لا استطيعُ أن أُجزمَ بذلك، لكنّي استطيعُ أن أقول: أنّني في تلك الّلحظاتِ شعرتُ بذلك الأمر؛ لأنّ شريطًا سريعًا من نقاشٍ مُطوّلٍ دار بيني وبين نفسي، خلصتُ خلاله إلى نتيجةٍ حاسمةٍ، توافقت مع آخر كلمةٍ نطقَ بها صديقي، ولو أنّي أردتُ أن أُكرّر عملية النّقاش والتّفكير الَّتي مررتُ بها بشكلٍ تقليديّ أي ضمنَ الزّمانِ والمكانِ المعهودان في حياتي فإنّ مثل هذه القضيّة الَّتي حُسمت عندي خلال ثوانٍ معدودةٍ، كانت ستستغرقُ منّي أيّامًا ولربّما أكثر من ذلك بكثير، لكنّها كما ذكرتُ كانت الأوقات المتفرّدة، فما إن صمتَ صديقي حتّى بادرتهُ بالإجابةِ وفقًا لما اخترتهُ من معتقدي الخاص الَّذي يفرضُ عليّ التّمسّك بفكرتي 100% ، ومن فلسفتي الَّتي تفرضُ عليّ التنازلَ والدّخول في مستوى الحساباتِ بحيث تكون أقل من 100% في جميعِ الحالات.

ما هذا المقالُ إلَّا محاولة استعراض جانبًا ممّا دار في رأسي من حوارٍ خلال تلك الثّواني المعدودة، وقد بدأ ذلك بالتساؤلِ:

هل يُفرّقُ صديقي بيني وبين فلسفتي، أم يرى أنَّني وفلسفتي شيء واحد؟

وبصيغةٍ أُخرى:

هل يُناقشني صديقي بصفتي الشّخصية (نضال)، أم بصفتي العلميّة (دكتور)؟

بالتأكيد أنا لا اعلم إن كان يُميّز بين هذه وتلك أم لا، إلّا أنّ المعروف ومن منطلق ثقافتنا العامّة، أو ما هو متداول في حياتنا اليومية، هو أنّنا لا نفرّقُ عادة بين العلم والعالِم (بكسرِ الّلام)، أو بين الفكرةِ والمُفكِر. فصاحب كلّ علمٍ عندنا –على الأقل عند أكثرنا- يتماهى بشكلٍ ما مع علمه، فيُصبحُ وكأنّه تمظهر من تمظهرات ذلك العلم، لذا نجد أن المفكِر يُنافح عن الفكرةِ بكلّ ما أُوتي من قوّةٍ مشروعةٍ أو ربّما غير مشروعة، ليس لموضوعيةِ الفكرة فحسبْ بل لأنّها تَمَسّهُ هو شخصيًّا، كأنّ القَدْحَ فيها قدحٌ في شخصهِ هو. رُبّما يكون هذا هو السّبب وراء أنّ اختلافاتنا الَّتي تؤدّي إلى تخالفنا لا إلى تكاثر أفكارنا، وربّما أيضًا هذا هو السّبب في أنّ تقبّل أكثرنا للنّقد على مضضٍ لا عن قناعة. على العموم، فلنترك صديقي وما يظنّ جانبًا، للنّظر فيَّ أنا.

هل أُميّزُ أنا بين معتقدي وبين فلسفتي؟ ماذا إن تصادما أو تعارضا، هل سيتحدّدُ اختياري وفقًا لمعتقدي أم وفقًا لفلسفتي؟

في جانبٍ آخر: هل يُفترضُ أن أُسَخِّر فلسفتي لخدمةِ معتقدي أم عليّ أن أُفرّق بينهما، فأعطي “ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ؟ عليَّ أن أُحلّل جميع الاحتمالات بسرعةٍ كي أعرفَ ما الَّذي يجبُ علىّ اختياره.

أعدتُ السّؤال على نفسي: هل يجبُ أن أُميِّز بين مُعتقدي وفلسفتي؟

سأفترضُ أنّه لا يَجِب عليّ التّمييز، فلماذا؟ ومَا الَّذي يترتّبُ على ذلك؟

حين لا أُميِّز بينهما، ما سيحصل هو أنّني سأخلطُ بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، إذ المعروف أنّ المعتقدَ هو قضيّةٌ ايمانيّةٌ تقتضي التّسليم بغضّ النّظر عن وجودِ تعليلٍ عقليٍّ من عدمِ وجوده، وبغضِّ النّظرِ عن كونِ ذلك التّعليل قابل للبرهنة أو غير قابل. هذه طبيعة الإيمان، إنّهُ يُبنى على التّصديق لا على التّصور. بينما التّفكير الفلسفيّ هو تفكيرٌ تصوّريٌّ لا تصديقي، أي أنّه يُبنى على التّعليلاتِ القابلةِ للبرهنة، هو نقديّ لا تسليمي. بل يصفهُ بعضهم بأنّهُ تفسير متمرّد، لا يستقرّ على حالٍ، ولا يقرّ على قرار. على الجملة: الاعتقاد والفلسفة موضوعان لا متماثلان.

على هذا ففي حالة الّلاتمييز، فإنّ شبهاتٍ وإشكالاتٍ والتباساتٍ سوف تعترضُ موضوعيّة كلّ منهما. فهل أُريدُ أنا ذلك؟ هل أوافقُ على تجاهل هذه الثّغرات في المصداقيّة والموضوعيّة؟ حين اعرضُ الموضوع بهذهِ الكيفيّة فلا بدّ أنّي أرفضُ أن أكون مرتكبًا لهذه الخطيئة المعرفيّة، هذا يعني أنّه يلزمُني افتراض التّمييز بينهما، لكن ما الَّذي يعنيه ذلك؟ بل كيف يُمكن التّعامل مع ذلك؟ ذلك يعني أنّهُ يتوجّب عليّ أن أدركَ أنّ المُحاور حين يُحدّثني فهو يفعلُ ذلك لكوني يخاطب الجانب الفلسفي لا الجانب الاعتقادي.

والآن أين أنا من تلكَ الفلسفة، هل فلسفةُ التّضامر فلسفتي أم هي فلسفة كونيّة؟

أعني هل هي موضوعة من قِبلي أم أنّها مكتشفة ممّا حولي؟

إن كانت موضوعة، فهي أقربُ إلى الذّاتيّة منها إلى الموضوعيّة، وبالعكس.

تأمّلتُ فيها جيّدًا، وجدتُ أنّها من حيث حقيقتها مكتشفة، هي موجودة من حولي وخارجي وأنا اكتشفتُها، لكن طريقة صياغتها وإظهارها بهذا الشّكل المتضمّن لصيغةِ مبدأٍ عام وقوانين ومسلّماتٍ أنا وضعتها. بتعبيرٍ آخر: الحقيقةُ خارجيّة والتّعبير ذاتي، لكن ما يجعلُها ذلك، مكتشفة أم موضوعة؟ لم انتظرْ كثيرًا، ركنتُ إلى التّضامر في الإجابةِ عن هذه الأسئلة المتعلّقة بها، فكانت الّنتيجة هي أنّها: (مُكتشفة لا مكتشفة) و (موضوعة لا موضوعة). وبتحليلٍ سريعٍ لهذه النّتيجة نجدُ: أنّ ما وصلتُ إليه هو نتيجةٌ تضامريّة، والنّتيجةُ التّضامريّةُ تفترضُ أنّ المُضمر دائمًا وأبدًا أعظم وأكبر من المُظهر، بل ما المُظهر إلّا تمظهر من تمظهراتٍ لا نهائيّةٍ من إمكاناتِ المُضمر، ولمّا كان وضعي للصّياغة هو المُظهر وجوهر الفلسفة المكتشف هو المُضمر، إذن؛ بلا تردّدٍ يُمكن الحكم على أنّها مُكتشفة أكثر منها موضوعة، وإذا كان ذلك كذلك، فهذا يعني أنّ كفّة كونيتها وموضوعيتها تتغلّب على ما ليْ فيها.

انتهيتُ من هذا التّحليل إلى أنّي يجبُ أنْ أدخلَ بما احملهُ من عقيدةٍ ضمن احتمالاتِها وقوانينها، فلا يدلّ كوني واضعًا لصياغةِ هذه الفلسفة على أنّ عقيدتي مُتعالية عليها، ولعلّ مثلي في ذلك كمثل نيوتن مكتشف قوانين الجاذبيّة وواضع صياغتها، فكونه المُكتشف والواضع لا يجعله مُتعاليًا على تلك القوانين بحيث أنّهُ إذا اعتقد بإمكانيّةِ أن يقفز من أعلى بناية فإنَّهُ لن يهوي إلى الأسفل، إذ حقيقة الأمر أنّ اعتقاده ذاك لن يُغيّر من واقعِ أنّه حتمًا سيهوي ما لمْ يمنعُه مانع مُبرّر. بعبارةٍ صريحة: نيوتن بغض النّظر عمّا يعتقدُ هو جزءٌ لا يتجزأ من الخضوع للقانونِ المُكتشف، ولو كان هو واضعه.

بالمثلِ، عليّ أن أُميّز بين عقيدتي وفلسفتي. بإمكاني بيني وبين نفسي أو بيني وبين أقراني في العقيدةِ أن أرجّح عقيدتي على فلسفتي بنسبةِ 100% فهذا من حقّي كأيّ إنسانٍ يؤمنُ بما يعتقد، لكن عليّ حين يسألُني النّاس أو يُخاطبونني أنْ أعدّ نفسي واحدًا من كثرة، وأنْ أتعاملَ مع عقيدتي كأيِّ عقيدةٍ أُخرى، وبتعبيرٍ أدق: عليّ أن أعدّ مصداقية عقيدتي أسوة بغيرها ضمنَ مُستوى  . أقولُ: أعدُّ وليس أعتقدُ، والفرق أنّ الإعتداد ذهني مؤقت بينما العقيدة قلبيّة دائمة، وفي مجال الخطاب، يُفترضُ بي التّعامل مع ما أعتقدُ من مستوى اعتدادي فحسب.

كان هذا المنولوج([7])بما تضمّنه من احتمالاتٍ وفقراتٍ عديدةٍ أُخرى لم أتطرق لذكرِها هنا، قد اكتمل مع نهايةِ حديث صديقي، فقلتُ لهُ من فوري: نعم، يُحتمل أن يكونَ ما تفضّلتُ به صحيحًا، فلا يوجدُ فيما ذكرتُ من فكرةٍ من تناقضٍ داخلي. أنا لم أقلٍ ذلك إلّا لأنّي بطريقةٍ ما كنتُ أستمعُ لفكرتهِ وسوقهِ لحججِ إثباتها، لو وجدتُ فيها خللًا لناقشتهُ على ما فيها من خللٍ لا لأنّها تُخالف ما أعتقد. هذه ثغرةٌ أظنّني اجتزتُها في ذلك الموقف، ولا اعلمُ إنْ كنتُ سأتمكّنُ من فعلِ ذلك في كلّ مرّةٍ أتناقشُ فيها أو أتحاورُ أو أُحاضرُ أم لا؟ إذ داخلي دائم التّرحالِ من حالٍ إلى حال.

والسّلام.


[1] – هو (بكر ريحان)، وكان ذلك يوم 13/6/ 2013، أثناء رحلة ميدانية إلى المخيّم الفلكي الأردني رقم (214)، في محافظة الأزرق، الأردن.

[2] – التّضامر: رُؤيَةٌ فَلسَفيّةٌ مُعاصِرَةٌ تَذهبُ إلى القَولِ بإمْكانيّةِ الوصولِ إلى الأجوبةِ النّهائيّةِ في القَضايَا والمَباحِثِ المُشتَركَةِ بينَ الدّينِ والفَلسَفةِ والعِلمِ.

[3] – قانونُ التّضامر الأوّل: وهو قانونُ تضامر الوجود، وينصّ على: [إذا وُجِدَ شَيْءٌ في إحدى حَدّ مَرْتَبَتَيْنِ لا مُتَماثِلَتَيْنِ بِدَلالَةٍ مُحَدّدَةٍ، فإنَّهُ يُضمِرُ وُجودَ نَظيرِهِ في المَرتبةِ الأُخرى].

[4] – قانونُ التّضامر الثّاني: وهو قانونُ تضامر المعرفة، وينصّ على: [إذا وُجِد َشَيْئانِ لا مُتَماثِلانِ بَينَهُما دَلالَةً مُحدَّدَةً فإنَّ معلومَ أحَدِهِما يَكشِفُ تَضامُريًّا مَجهولاً لِآخَر].

[5] – قانونُ التّضامر الثّالث: هو قانونُ تضامر الأجوبة، وينصّ على: [إذا وُجِدَ سؤالٌ فيوجَدُ لهُ عددٌ مفتوحٌ مِنَ الأجوبةِ النّهائيّةِ المُتَضامِرةِ].

[6] – النيوتروسوفيا: كلمة مؤلفة من مقطعين (نيوترو) ومعناه بالفرنسيّة مُحايد، (سوفيا) ومعناها حكمة، فهي تعني الحكمة المحايدة، أو معرفة الفكر المحايد، وهي فرعٌ جديدٌ للفلسفة وضعهُ  الفيلسوف فلورنتن سمارانداكه عام 1995، وهو في مجملة يُعد أحد الاحتمالات الممكنة ضمن مبدأ التّضامر العام.

[7] – المونولوج: مصدرُ الكلمة يوناني (مونو) يعني أُحادي و(لوجوس) تعني خطاب أو حديث النّفس أو النّجوى هو حوار ٌيوجد في الرّواياتِ، ويكون قائمًا ما بين الشّخصيّةِ وذاتها أي ضميرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *