الإنسان ذئبٌ أم حَمل؟ قراءة في مقولة (هوبز): ‹‹الإنسانُ ذئبٌ لأخيهِ الإنسان››

راقَ لي يومًا، مقولة عابرة للسّيدة (Ann) جاء فيها: ‹‹في كلّ عقل العالم كلّه››. والسّؤال: هل ما يراه غيري يلزمُ أن يُطابق ما أرى؟ الإجابةُ: ليس بالضّرورة، ولو كان الأمر خلاف ذلك، لما اختلفتُ معها واختلفتْ معي في جلّ القضايا الّتي نتناقشُ حولها.

ربّما كانت مقولتها تلك، أصلًا لرؤيتها أنّي أرى العالم بغير العقليّة الّتي تراهُ هي به، فكانت حواراتنا سببًا لولادةِ تلك الحكمة الوجيهة.

المتحصّل من ذلك: أنّه لا بدّ من أن يكونَ هناك شخصًا ما، يرى، ما لا يُماثل مألوف ما نَرى، لا أتحدّثُ هنا عن ذلك الشّخص الّذي يُخالف لأجل المخالفة: فهذا -وإن كان موجودًا- لا يُعتدّ به؛ ولكنّي أتحدّثُ عمّن يملك رؤية مُتميّزة عن رؤية غيره.

السّؤالُ الّذي يستوقفني هنا هو: لماذا لا بدّ من وجود مثل هذا الرّائي المختلف؟

أعتقدُ أنّ الحقيقة تفترضُ وجود هذا الاختلاف بالضّرورة؛ لأنّها قابلة لأن تُدرك وَفْقَ نماذج معرفيّة مُتعدّدة، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أُخرى حين تنفتح في عقليّة ما، فأنا؛ لا تتبعّض، بل تُعطي نفسها بكلّها له؛ ولكن وَفْقَ استعداد تلك العقليّة وقابليّتها، فتتلوّن بلونها.

هذه فقرةٌ مُهمّةٌ أودُّ صياغتها بطريقةٍ أُخرى، فأقول: إنّ للحقيقةِ أكثر من بابٍ، وكلّ بابٍ منها، ينفتح في عقليّة ما على الكلّ الخاص بتلك العقليّة.

هُنا، لا تكمن المشكلة في أنْ يطّلع شخص ما على رُؤيةٍ كليّةٍ للعالم، وَفْقَ دلالة مُقترنة باستعدادهِ وقابليّته وبيئتهِ والمؤثّرات الخارجيّة والنّفسيّة فيه؛ ولكن المشكلة تنبثقُ حين يَعجز صاحب هذه الرّؤية عن التّعالي وراء كليّته الخاصّة تلك، فيُذعِنُ لقصورها الذّاتي، ذلك القصور الّذي يجعلهُ يتوهّم أنّ ما لديهِ هو الحقيقة المطلقة للعالم أجمع، وأنّ المخالف لا حقيقة عنده البتّة. ربّما إنْ تعاظمَ القصور الذّاتي فسيخرج للعالم ناطقًا بالتعميمات الجزميّة، القاطعة، المانعة، الرّافضة لما لا يتطابق مع ما ينطق به، وهذا بخلاف ما قد يظهر به بعضهم الآخر من أهل المعرفة والفهم والنّظر؛ إذ لا يَحتجز القصور هؤلاء في قوقعته، بل رؤيتهم تتنافذ مع ما لدى غيرهم، فيشهدون الكثرة في الوحدة، أو الوحدة المتكثرة، حتّى لينطق لسان حال أحدهم، قائلًا: ‹‹لقد صار قلبي قابلًا لكلّ صورة››.

* * *

في الواقع: كان هذا مدخلًا لتعقيبٍ حول منشور مُقتبس مُهمّ لأخي: سعدي العنيزي نشره في صفحته جاء فيه:

‹‹لا يصف (توماس هوبز/ ١٥٨٨-١٦٧٩) بجملته الشّهيرة: ‹‹الإنسانُ ذئبٌ لأخيهِ الإنسان›› موقف الإنسان في الحالة البدائيّة فقط، وإنّما يكشف أيضًا عن صورة الإنسان في رأيه بشكل مطلق. فهو على عكس كلّ من فلسفة العصور القديمة والفلسفة المسيحيّة لا يفهم الإنسان على أنّه كائن اجتماعي، وإنّما على أنّه كائن فردي أوّلًا، فالإنسان في نظره لم يطبع لا على تحقيق الخير ولا على روح الجماعة. يُعدُّ كلّ إنسان في الحالة البدائيّة مُقاتلًا فردًا، يتحرّك مثل جزيءٍ معزول في فضاء مفتوح مُعتمدًا على ذاته. يجب على كلّ فرد أن يظفر بمصالحهِ وباحتياجات حياته في مُواجهة الآخرين. فالإنسان في الحالة البدائيّة لا يُعدُّ  إنسانًا غيريًّا طيبًا، وإنّما هو أناني يتّبع غريزة حبّ البقاء على حساب الآخرين، إذ أنّ السّائد هو: حرب الكلّ ضدّ الكل. [بتصرف نقلًا عن (روبرت تسيمر) من كتاب: في صحبة الفلاسفة››.  

لو أنّني أعدتُ قراءة هذه الفكرة وَفْقًا للمنطق الّذي عرضتهُ أوّلًا، لقلتُ: إنّ (توماس هوبز) فيما ذهب إليه هُنا، من أولئك الواقعين تحت ثقل جاذبيّة القصور الذّاتي لرؤيته.

السّؤال هنا: هل استنتاج (هوبز) خاطئ، أم هو المخطئ؟

تضامريًّا يُقال: استنتاجه ليس بخاطئ، بالعكس، فإن نظرنا إلى الإنسان من الزّاوية الّتي نظر بها إليه (هوبز)، هو: كائن ليس باجتماعي؛ ولكن هذا قول منقوص إن توقّفنا عنده؛ لأنّ الإنسان -ومن زاويةٍ أخرى- خلاف ما قال (هوبز) تمامًا، هو: كائن اجتماعي بامتيازٍ أيضًا.

إنّ الشّواهد والملحوظات تدعم وجهتي النّظر هاتين، وعلى هذا، وإذا ما أخذنا المنظورين أو البابين المفترض الولوج منهما إلى حقيقة الإنسان؛ فسنصل إلى التّركيبة القائلة: إنّ الإنسان في حالته البدائيّة (اجتماعي لا اجتماعي)، ونحنُ -في منهجنا- نُعبّر عن ذلك بالصّيغة القائلة: الإنسان متضامر اجتماعيًّا بدلالة (حالته البدائيّة)؛ ما يعني أنّه يُمكن أن يكون اجتماعيًّا في بعض الحالاتِ ويُمكن أن يكون لا اجتماعيًّا في حالاتٍ أخرى، وما يتحكّم في ذلك عدّة مُحدّدات ذاتيّة وموضوعيّة أو داخليّة (سيكولوجيّة) وخارجيّة (بيئيّة).

من هنا يتبيّن أنّه أخطأ، فأمّا استنتاجه فلا يصحّ عندي وصفه بالخطأ، بقدر ما ينبغي أن يُوصف بأنّه قاصرٌ أو غير مُكتملٍ أو (صحيح نسبويًّا)، وأمّا (هوبز) فكان الخطأ الّذي وقع فيه هو: التعميم. لقد عمّم منظوره على الإنسان كلّه في جميع حالاته بانيًا ذلك وَفْقًا لدلالةٍ جزئيّةٍ خاصّة بعالمه، ومثل هذه التّعميمات هي ما نُحذّر منها دائمًا، ونعملُ على (التّثقيف) لتلافيها باستمرار.

إنّ ما تعرفه عن العالم يحتمل أن يتشارك معك فيها غيرك؛ ولكن ليس بالضّرورة أنّ ما سواها ليس بمعرفة.

عطفًا على مقولة السّيدة (Ann) يُمكن القول: كان عالم الإنسان في عقلية (هوبز) عالم ذئاب، فهو في عقلية غيره عالم حملان. والحياة تحفل بالذّئاب والحملان، أليس كذلك؟

عمومًا، أودُّ أن أختم مقالي هذا بالتّساؤل الآتي: أوليسَ ما يجري في العالم بوجهٍ عام وفي مُجتمعاتنا بوجهٍ خاص من استقطاباتٍ عرقيّةٍ أو قوميّةٍ أو طائفيّةٍ أو ما شابه ذلك، هو: من نتائج (الاستماتة) لتعميم القاصر ذاتيًّا لكي يُصبح شموليًّا؟ 

وَفْقًا للإجابةِ، قد يتبيّن موقع المجيب بين: من يميل إلى نظريّة (هوبز)، أو يميل لما يُخالفها، أو ربّما للتّضامر… والسّلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *