الرَّجُلُ الثَّالثُ

في الحواريّة التي عقدتها الجمعيّة الفلسفيّة الأردنيّة بتاريخ 5 / 2 / 2013م، عُرضتُ جملةً من الأفكار والآراء وصفها أحد الحضور بقوله: “إنَّها من كل بستان وردة”، وعلى هامش تلك الأمسية الفكريّة العمانيَّة أودُّ أنْ أتداخلَ مِع بعض الأفكار التي طرحت والقضايا الَّتي نوقشت، وقد اخترتُ منها اثنتينِ واحدة تتعلَّقُ بالشَّكل وهي مناقشة طريقة النّطق لمصطلح العلمانيّة. والثَّانية في المضمون وتتعلَّقُ بأزمة الصِّراع الإقصائي المتبادل بين رجال الدِّين ورجال العلمانيّة.

عَلمانية أم عِلمانية؟

طرحتُ مسألة النّطق بمصطلح العلمانيّة، فهل فهي بفتح العين “عَلمانية” أم بكسرها “عِلمانية”؟

تصدَّى ثالثُ المتحدّثين لتوضيح هذه النّقطة فذهبَ للقطعِ بأنَّ النُّطق الصَّحيح هو “عَلمانية” على اعتبار أنَّ الكلمة الأصليَّة بالُّلغةِ الإنجليزيَّة هي “secular” وهي تَعني في لاتينيَّة العُصور الوُسطى العاَلم أو الدّنيا. ويوردُ قاموس “أكسفورد” تعريفات تؤكِّد أنَّ هذا الَّلفظ يدلُّ على كلِّ ما ينتمي للحياة الدُّنيا وأمورها، أي العالم الآلي والمرئي لا العالم الأزليّ الروحيّ. فهو لفظ دالّ على المدنيّ والعاديّ والزمنيّ فقط.

من جانب آخر رَفضَ هذا الرَّأي أن يكون للعَلمانية أيّ تعلّق مباشر أو صميميّ بمفهوم الدَّعوة للعِلم. وذلك لأنَّ القواميس الإنجليزيَّة تذهب إلى أنَّ العلمانيّة هي النَّظرية الَّتي تقول: إنَّ الأخلاق والتَّعليم يجبُ ألَّا يكونا مبنيّينِ على أسُسٍ دينيّة، ليس إلَّا. وتمَّ تأكيدُ أنَّ هناكَ خلطًا في المفهوم بسببِ طبيعة لفظة “العلمانيّة” الَّتي تُوهم بتقديم العلم على الدِّين، وهذا غير صحيح.

كما رُفض –من بعضهم- أنْ يكون المعنى هو فصلُ الدِّين عن الدَّولة، إذْ هذا الفصلُ هو أثرٌ لاحقٌ لمقدّمات سابقة تتعلّق بالوعي وبالثَّقافة المجتمعيّة، بل بنمط الفكر نفسه. هذه المقدمات ما قبل السياسيّة إنْ توافرت في المجتمع بحيث يعزل الدّين عن التدخل في الشَّأن العام، فإنَّ النَّتيجة الحتميّة ستكون فصلًا تلقائيًّا للدِّين عن الدَّولة في المجال السِّياسي، وبعبارة مختصرة -وكما قيل أثناء الحديث- “لا يمكنُ أنْ يكون فصل الدِّين عن الدَّولة قرارًا سياسيًّا أبدًا”. وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ تعريف العلمانيّة بعمليّة الفصل هذه، ليس بدقيق.

وجهة النَّظر هذه سبّبت بعض الإرباك عند الحضور، لأنَّ النّطق الدّارج هو “عِلمانية” بينما المطروح في الحوار عَلمانية، الأمر الذي اضّطر بعضهم إلى أنْ يستخدم الَّلفظين معنا أثناء مداخلته فيقول: (عَلمانية – عِلمانية).

والرَّأي عندي، أنَّه حتَّى لو حصل الإجماع من حيث الُّلغة على أنَّ الَّلفظ الصَّحيح هو “عَلمانية” من العالم الدنيوي، فإنَّ ذلك الإجماع سوف لن يكون ذا أثر تداوليّ في مجتمعاتنا، وذلك بسبب شيوع النّطق بصيغة “عِلمانية” بكسرِ العين، فالأفضل هو الجمع بين الأمرين، وطريقة الجمع -كما أرى- ليست في تغيير الَّلفظ الُّلغوي الأصلي، ولا بمحاولةِ تغيير النّطق الشَّائع، لأنَّ أيًّا من هذين الخيارين سيكون -في تصوّري- مُجرّد مضيعة للوقتِ والجُهد، وربَّما لن يكون له وجود إلَّا في صفحات الكتب المتخصّصة.

إنَّ هذا الأمر لا يختلف عندي عن المحاولاتِ العديدة لتوحيدِ الَّلهجات في الُّلغةِ العربيّة، وذلك بالعودةِ إلى النّطق الفصيح، لكنّها لم تُجدِ نفعًا إلَّا في صفحاِت الكتب وعلى ألسنة خطباء المساجد ومذيعي النَّشرات الإخباريَّة وما هو قريب من ذلك، أمّا الُّلغة المُتداولة فهي خيمة كبيرة تحتجب بظلّها لهجات عديدة، وهذه الَّلهجات في تطوّر وتغيّر مستمر، خاصَّة بعد أنْ تقاربت الحضارات وصار العالم شاشة صغيرة.

إذن، ليس لأنَّ الدَّعوة إلى تصحيح النّطق بلفظ ما غير صحيحة، بل لأنَّ سيرورة الحياة بكلِّ ما فيها من تغيّرات وتقلّباتٍ جارفة، تتغلّبُ على الرَّغبة بالثَّبات والوقوفِ عندَ النِّهايات السَّاكنة. وما اقترحهُ بشأنِ نطق مصطلح العلمانيَّة ربَّما يمكنُ تعميمه على ما يتعلّق بالازدواجيّة في التَّعامل مع النّطق بالُّلغة العربيَّة، تلك الازدواجيّة الَّتي تتردّد بين الأصول المنتظمة للنُّطق الفصيح في أصل الُّلغة وبين التفرّعات الّلامنتظمة لّلهجات القائمة بالّلغة.

والاقتراحُ هو في إثبات الأمرين معًا، وذلكَ بأنْ يُعامل النّطق كما يُعامل الَّلفظ الاصطلاحي، أي كما يُنظرُ لأيِّ لفظ اصطلاحي بنظرة مزدوجة فيقال: من حيث الّلغة ومن حيث الاصطلاح، فأقترحُ أنْ ينظر للنّطق نظرة مزدوجة تتمثَّل في: “النّطق في الَّلغة” و”النطق في الاصطلاح”. والمقصود بالاصطلاح هنا هو المعنى الشَّائع أو المتداول على السنةِ العامَّة، في الثَّقافات الاجتماعيَّة بشكلٍ لا يُمكن معه تصحيحه إلى ما يُفترض عليه أن يكون.

من وجهة نظري هذا هو الأنسب في التَّعامل مع الواقع كما هو كائن وليس كما يفترض به أنْ يكون.

من يقصي من… الدِّين أم العلمانيّة؟

هل الدِّين ضد العلمانيّة أم العكس هو الصَّحيح؟

ما طُرح من أفكارٍ ناقش الأصول التَّاريخيَّة لنشأة العلمانيّة في المجتمعات الغربيّة بشكل عام. ومن الواضح أنَّ الثورة الفكريّة ضد الإرهاب الكنسي في تلك الحقبة من الزَّمن كانت عبارة عن ردّة فعل ينطبق عليها قانون نيوتن الثَّالث في الحركة تمامًا، لأنَّها كانت من القوَّةِ بمكانٍ بحيث إنَّها حوّلت مجرى التَّأثير في التاريخ والحضارة الغربيَّة من النقيضِ إلى النقيض. من السَّماء إلى الأرضِ، من الإيمانِ المحض إلى العقلانيَّة الخالصة.

وكما كان رجال الدِّين يقصون العلمانيّة، أصبح رجال العلمانيّة يقصون الدين.

في مجتمعاتنا الشَّرقيَّة، وعلى الرَّغم من أنَّ العلمانيّة لم تكن ردَّة فعل أصيلة بقدر ما كانت محاولة لاستثمار صدى العلمانيّة في العالم الغربي، كونها -أي العلمانيّة الشرقيّة إنْ صحَّ التعبير- ليست نابعة من عمق الثَّقافة المجتمعيّة كما حصل في الغرب، فهناك كان المجتمع هو القاعدة العلمانيّة الَّتي أفرزت النّخب لتمثّله، أمّا عندنا فالعمليّة معكوسة، النّخب انسجمت مع العلمانيّة الغربيَّة وسَّعت لخلق قاعدة اجتماعيّة علمانيّة التفّت حولها.

وعلى الرَّغم من هذا الفرق وفوارق أخرى، فهذه الورقة ليست محل التوسّع في الحديث عنها، إلَّا أنَّ الغالبيَّة السَّاحقة من علمانيي الشَّرق لا يتوانون عن الجهر بإقصاء الدِّين جملة وتفصيلًا ليس من الحياة العامَّة فحسب، بل من الواقع الموضوعي برمّته.

ولكن في الشّرق لا تزال المؤسّسات الدينيّة -على اختلافٍ فيما بينها- لها الباع الطويل في التّأثير في المؤسّسات السِّياسيّة، وعلى نسبةٍ قد لا تكون أقل من الأغلبيَّة من القاعدة الشعبيّة. لهذا يبدو لي أنَّ دعوة العلمانيّة الشَّرقيّة لإقصاء الدِّين مبكّرة وربَّما مبكّرة جدًّا. إنَّ المجريات المعاصرة للأحداث لا تزال تدعم التيارات الدِّينيّة على حساب العلمانيّة لأسبابٍ خارجيّة وداخليّة.

لذا فإنّ السّؤال الذي أودُّ إثارته هنا هو: إذا كان من دوافع ثورة العلمانيّة على الدِّين هو النّهج الإقصائي للدِّين، فما فرق العلمانيّة عنه إذا كانت هي إقصائيَّة أيضًا؟

 من هذه الزَّاوية، الجواب هو لا فرق، فالصِّراعُ من أجل البقاء يفرضُ سيادة الأقوى وهذا هو صلب قانون الغاب.

هما متساويان في نزعة الاستحواذ. الدِّين يُريدها مملكة تُحكم بسلطةِ السَّماء والعلمانيّة تُريدها مملكة تُحكم بسلطة الأرض.

النَّاظر إلى هذا الموقف على المساحة الممتدّة أفقيًّا في جغرافيا المكان وعموديًّا في جغرافيا الزَّمان، يجده موقفًا جدليًّا بامتياز. حيث يمكن رؤية الصيرورة تُقلّب الصِّراع الدِّيني العلماني في مظاهر شتَّى، والفكرةُ الجوهريّة ذاتها، تلفُّ وتدور على نفسها. فتتمظهر في شكل صراع بين إثباتين ينفي أحدهما الآخر: بين إثبات الدِّين وإثبات الَّلادين، وبين إثبات الغيبي وإثبات الدنيوي، وبين إثبات الإيمان وإثبات العقلانيّة، وبين إثبات الوحي وإثبات الَّلاوحي، وبين إثبات الأخلاق الدينيّة والأخلاق الوضعيّة، وبين إثبات العلم الدينيّ والعلم الكونيّ… وغير ذلك. جميع هذه التمظهرات لا تخرج عن مضمون الفكرة ذاتها، وهي تتلخص في: إثبات الذَّات على حساب نفي الآخر.

لا محاباة

إنَّ أيّ محاولة للتَّخفيف من فكرة التَّمايز الحادّ بين الدِّين والعلمانيّة، كأنْ يُقال مثلًا: إَّن الدِّين ليس ضد العلمانيّة من حيث التّعامل مع الدّنيا، إذ هو يتدخّل لينظِّم، وهو ليس ضد العلم، وبالمقابل فإنَّ العلمانيّة ليست ضد الدِّين بالمطلق، بل ضد تدخّل الدِّين في الشَّأن العام، فليس بممتنع أنْ يكون الإنسان علمانيًّا مسيحيًّا أو علمانيًّا مسلمًا، شريطة الأخذ بمبدأ “اعطِ لقيصر ما لقيصر واعط لله ما لله”.. هي محاولة لا طائل منها.

أقولُ: هذه المحاولات التقريبيّة، أو التوافقيّة أو سمّها ما شئت، غير مجدية إلا نسبة لمن يُقنعون أنفسهم بها، وذلك لسببٍ جوهريّ وهو أنَّ الواقع الموضوعي يفرضُ على هذه الثُّنائيَّة أن تكون على طرفي نقيض.

لا توجد إمكانية ليسيطر الدِّين مُمثَّلًا برجالِه ولا العلمانيّة ممثّلة برجالها؛ كلّ منهم على أنفسهم بحيث يمكن أنْ يتجاوزوا عقدة البقاء للأصلح. لا توجد هذه الإمكانيَّة. سيبقى رجال الدِّين يريدون إثبات الدِّين وتكفير الَّلادينيين، وسيبقى رجال العلمانيّة يريدون إثبات الَّلادين والتّخلص من الدِّينيين. لا توجد إمكانيَّة لإيقاف هذه الإرادة المتبادلة. ومن هنا فلا جدوى من المحاباة.

الرجل الثالث

استنادًا إلى ذات المقاربة. مقاربة الرّجلين: رجل الدِّين ورجل العلمانيّة. أجزمُ -أو أكاد-باستحالةِ فناء أحدهما وبقاء الآخر مهما طال الزَّمان أو استطال، ومهما تغيّرت الظّروف والمعطيات.. لا أعتقدُ أنَّ زمانًا سيأتي ولا نرى فيه إلَّا أحدهما.

إنَّ مثلهما عندي كمثل (الحياة-الموت)، إذ إذا كان بالإمكان بقاء الحياة بلا موتٍ فقط أو بقاء الموت وفناء ولادة الحياة، فهذا يعني توقف التغيير وزوال الشَّيء ونقيضه. وعلى هذا فأنا لا أتوقَّع أنَّ حلم السَّلام الكوني أو المدينة الفاضلة أو جمهورية أفلاطون أي ما يماثلها يمكن أنْ يتحقّقُ إذا ما انتهى من الوجودِ أي من الرّجلين: رجلُ الدِّين أو رجل العلمانيّة، لأنّه إن انتهى أحدهما فلن يعود هناك حالمٌ أصلًا ليحلم.

          إنَّ هذا الجزم قائم على افتراضٍ مسبق مفاده: إنَّ تقابل الَّلامتماثلات بين الشَّيء ونقيضه بما يتضمّنه من جدليّة وبين الشَّيء ونظيره بما يتضمنه من تضامر، هو ضرورة تفرضها الأنطولوجيا والأبستمولوجيا والإكسيولوجيا على حدِّ سواء. فلا يُمكن أنْ يُغادر أحد وجهَي الثُّنائيَّة ويبقى الآخر وعدم الإمكانيَّة هذا قائم بالضَّرورة.

يمكنُ تفسير هذه الضَّرورة من خلال مبادئ ميكانيكا الكوانتم في الفيزياء، إذْ قد تحقّق العلماء من الرُّسوخ الضَّروري لثنائية (موجه-جسيم) في البنية الذَّريّة، ولم يعد بالإمكان إلّا الاعتراف بوجود هذه الثُّنائيّة وعدم تجاهلها والقول: “إنَّ الله لا يلعب النَّرد”، لأنَّ تجاهل الموجود بالضَّرورة لا ينفي وجوده البتّة.

ومع ضرورة وجود رجل الدِّين ورجل العلمانيّة، ومع ضرورة أنَّهما يتقابلان تقابل نقيضين، يثبتُ أحدهما وجوده على حساب الآخر، فكيف سنعرف أيُّهما الأفضل؟ وكيف سنختار الأصلح من بينهما؟!

من المنطقيّ أنْ يرى رجل الدِّين أنَّه الأفضل؟

ومن المنطقيّ أنْ يرى رجل العلمانيّة أنَّه الأفضل؟

ومن المنطقيّ أيضًا ألَّا نعتمد على وجهةِ نظر أحدهما لأنَّ أي منهما سيكون هو الخصم وهو الحكم، وحكمة سيكون مجروح لا محالة.

في تقديري، وإذا ما أردنا أنْ نكون موضوعيين فنحن بحاجةٍ ماسّة إلى “الرَّجل الثَّالث”، وهو الرَّجل القادر على أن يقفَ على مسافةٍ متساوية من الدِّين والَّلادين.

ولا أعني بالرَّجلِ هنا هو شخص محدّد بعينه، بل أقصد نمطًا من الرِّجال ذوي مواصفات خاصَّة، تفكيرهم يتّسم بكونه شاملًا بحيث يستوعب التَّعدّد استيعاب الماء لقطراته، رجالٌ يكون قلب أحدهم كذلك القلب الذي وصفه -ابن عربي- بكونه قابلًا لكلِّ صورةٍ، ليس من دين أو ملّة أو نِحلة إلّا وله فيها وجه من وجوه الحقيقة.

الرَّجل الثَّالث هل هو شخصيَّة مثالية؟ ذلك أمر آخر، ناقشته في غير هذه الورقة موضوع بعنوان”الإنسان النِّهائي” … أمّا هنا فسنفترض أنَّه موجود، وأنَّه ليس ضد الدِّين ولا العلمانيّة، كما أنَّه في الوقت نفسه لا ينحاز لأحدهما.. وما مثله في هذه المقاربة إلّا كمثل الفيزيائي الَّذي ينظر إلى ثنائيّة (موجة-جسيم).. هو ليس واحدًا منهما ولا منكرًا لهما، لذا فحكمه أو نظرته يفترض أنْ تكون أكثر موضوعيّة من نظرة أيّ من الطرفين إلى بعضهما.

الرؤية الفلسفيّة

للرَّجلِ الثَّالث رؤيةٌ محدّدة، ومنهج واضح يسير عليه، يقوم على مفاهيم التَّضامر وقوانينه، وفي صدد هذه القضيَّة يمكن له أنْ يلجأ إلى القانون الثَّاني من قوانين التَّضامر وهو: قانونُ تضامر المعرفة” وهو ينصُّ على أن: “[ إذا وُجد شيئان لا متماثلين بينهما دلالة محدّدة فإنَّ معلوم أحدهما يكشف تضامريًّا مجهول الآخر ].    

وفقًا لهذا القانون، يمكن القول إنّ:

ثنائيَّة (دين/علمانيّة) تتضامر مع ثنائية (موجة/جسيم) بدلالة الضَّرورة الوجوديّة.

وهذا يعني -بإيجاز- أنَّه لما كانت الثنائيتين موجودتين بالضَّرورة، وإنَّهما قائمتين في مرتبتين لا متماثلتين، إذ الثُّنائية الأولى موجودة معرفيًّا، والثُّنائية الثَّانية موجودة أنطولوجيًّا، فإنَّ ذلك يستوفي شروط إقامة علاقة التَّضامر.. وما يترتَّب على هذه العلاقة هو أنَّ معلوم أحدهما يكشف مجهول الآخر. 

ولما كنَّا هنا بصدد البحث عن حل للإشكاليَّات في الثّنائية الأولى، فسنركِّز على الجانب الَّذي فيه تكشف معلوم الثّنائية الثّانية (موجة/جسيم) تضامريًّا مجهول الثّنائيّة الأولى (دين/ علمانية(.

وقبل البدء علينا ملاحظة التوازي بين (دين-موجة) إذ كلاهما هلاميّ في مرتبته، والتَّوازي بين (علمانيّة- جسيم) وكلاهما عنصري.

إزاء هذه العلاقة فإنَّ الرَّجل الثَّالث يُحلّل الإشكالات بالشَّكل المبيّن أدناه:

أوّلًا : بما أنَّ علماء الفيزياء قد اعترفوا بثنائيَّة (موجة/جسيم) وعدّوها ضرورة فيزيائيَّة، فهذا  يضمر الدَّلالة على الاعترافِ بكون ثنائيَّة (دين/علمانيّة) ضرورة معرفيَّة، لا ينفكّ الوجود يحتويها.

ثانيا : بما أنَّ علماء الفيزياء لم يُنفوا أيًّا من طرفي ثنائيَّة (موجة/جسيم) فهذا يضمر الدَّلالة على ضرورة عدم التورّط بنفي أحد طرفي ثنائيَّة (الدِّين-العلمانيّة).

إنَّ هذا النَّهي لا يعني مصادرة حقّ الآخرين في حريَّة الرَّأي، فهذا الحقّ مكفول للجميع، وهذه وجهة نظر الرَّجل الثَّالث الَّذي يعتقد بأنَّ النَّظرة الفلسفيَّة إذا أريد لها أنْ تكون شفّافة وموضوعيّة فيفترض بها ألَّا تكون الخصم والحكم في آن واحد.

ثالثا:  لمّا فسّر علماء الفيزياء ما يحصل في البنية الذَّريّة بكونه “تتام” على المفهوم الَّذي اقترحه الفيزيائي “نيلز بور”، وفيها يكون الجسيم الذَّري كلّه دقائقيًّا وفي حالة أخرى كله موجيًّا، والتتام هو حالة الذرة التي تتقلّب بين الحالتين بلا زمن محدّد. فإنَّ هذا يضمر الدَّلالة على أنَّ النَّظرة الشَّاملة يجب أنْ تكون بهذا المفهوم. بمعنى أنَّ الرَّجل الثَّالث أو الفيلسوف المنفتح أو الصُّوفي العارف أو أيًّا كان، يفترض ألَّا يرى الصِّراع بقدر ما يرى التّتام.

الصُّورة الكبرى تُعطينا هذا النَّظرة، ومعناها، أنَّ ما هو كائن هو ما يفترض أن يكون، لأنَّ الحياة الدنيويّة ليست فردوسيّة، هي حياة تعجُّ بالائتلاف والاختلاف، بالخير والشَّر، بالصَّحةِ والمرض، بالنّعمة والنّقمة… كلّ هذه الثنائيَّات في تقابلاتها المختلفة  هي ما يجعل الحياة على ما هي عليه من تتامّية.. فليس بدعًا بعد ذلك أنْ تكون الصّراعات الدّينية العلمانيّة هي امتداد لهذه التتاميات..

إنّ الرَّجل الأوَّل: يرى بعين واحدة، يرى أنَّه على حقٍّ ومن حقٍّهِ إفناء الثَّاني، وفي المقابل فإنَّ الرَّجل الثَّاني ينظرُ بطريقةٍ مُعاكسة.. أمّا الرَّجل الثاَّلث: فيرى أنَّ الصِّراع بين الرّجلين هو ما يُتمّم الصُّورة، هو ما يجعلها قائمة على احتمالات غير متوقَّعة.

إنّ الرَّجل الثَّالث يُدرك أنَّ لا سيادة كليَّة مطلقة لأحدهما على الآخر، بل هي النسبيّة المتغيّرة، تحكمها عوامل متداخلة في الزَّمان المكان، وهذا ما يُحقّق التمام المعرفي في الحياة.

رابعًا: كما أنَّ الفيزيائيين تقبّلوا وجود الّلاانتظام أو الاحتماليّة في البنية الذريّة، في مقابل النِّظام والنسبيّة في الأحجام الكونيّة، فعلى الفلاسفة من طراز الرَّجل الثَّالث أنْ يتقبّلوا ضرورة الَّلاانتظام حين نكون على تماسّ مع تفاصيل الظَّواهر الدِّينيّة والعلمانيّة، بمعنى أنّ الدِّين يكون دوغمائيًّا في أوامره ونواهيه، وهذه تشكل عقدة منرفزة للعلماني، في الوقت الذي يسبّب فيه التحرّر من جميع القيود للعلمانيّ، حالة من الاشمئزاز عند الدّينيّ.

إنَّ الاقتراب من تفاصيل الدِّين والعلمانيّة يجعلنا نرى الأمور كأنَّها ضبابيّة لا يتضح فيها الحق من الباطل. المُتديّن الصُّورة واضحة عنده، هو على حقٍّ والعلمانيّ كافر. والعلمانيّ الصُّورة واضحة عنده أيضًا هو على حق والمتديّن دجّال. ومن لا يكون واحدًا منهما، سيقف حائرًا بينهما أيُّهما مصيب وأيُّهما مخطئ، خاصَّة وأنَّه سيواجه بمعضلة تكافي الادلة من الطرفين..

هنا نحن نقول للفيلسوف: لا تجزعْ ولا ترتبك، فهذه الحالة شبيهة بحالة الكموميّة، الَّتي لا يقين فيها، جميعها احتمالية الثّبوت.. وما تراه هو طبيعة التفكير في مستواه المجهري.. في هذا المستوى لن ترى إلّا الَّلانتظام.. إنْ أردتَ أنْ ترى النِّظام في هذا الَّلانظام.. ارتق، ارتفع، اسمُ.. انظر من مستوى أعلى.. سوف لن ترى إلّا التَّناسق والانسجام.. سوف ترى النّمط يتكرَّر..

إنَّ مَثل هذا كمثل من ينظرُ إلى ورقةِ شجرٍ عن طريقِ المجهر، إنَّه لا يرى إلّا خلايا فوضويّة الحركة، ولكن ما أنْ يبتعد عن النَّظر من المجهر، وينظرُ لها من الأعلى حتَّى يرى الاخضرار والتَّناسق في الحدودِ، والجمال يعمّ الحالة كلها.

هل الورقة منتظِمة أم غير منتظمة؟ إنَّها في حالة الانتظام والَّلانتظام في الوقتِ نفسه، وما يجعلنا نميِّز أو نفرِّق هو المستوى الَّذي ننظر فيه اليها.

الفوضى في التَّقابل بين الفكر الدِّينيّ والفكر العلمانيّ، في مستواها التفصيليّ ضرورة معرفيَّة لا مناص منها، وإذا ما ارتقينا إلى ما وراء ذلك فبالإمكان رؤية الموضوع بصورةٍ أشمل، سيكون بالإمكان رؤية التّناسق في تعاقبِ الأدوار وأثره في ديمومة الحياة وتجدّدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *