نظريّة التّضامر

افتراضات النّظريّة

لمّا كانت الفكرة الأساسيّة للتضامر تنطلق من المضمون القائل: «إنّ كلّ شيء سواء أكان في الظّواهر الطبيعيّة أو في النّماذج المعرفيّة يضمر لا مثيله، وأنّ اللامثيل مستتر استتارًا أصيلًا في مثيله. فقد جرى استنباط ثلاثة افتراضات من هذا المضمون، وكما هو مبين في الآتي:

الافتراض الأول:

[إذا تضّامر مثيل ولا مثيله بدلالة محدّدة، فإنّ: اللامثيل يفسر أو يتنبأ (أو كلاهما) بكلّ ما يضّمره المثيل. وأنّ المثيل يفسر أو يتنبأ (أو كلاهما) ببعض ما يضّمره لا مثيله].

الصّياغة بالرّموز لهذا الافتراض في الصّيغة:

[إذا تضّامر “أ، لا أ” بدلالة د، فإنّ: “لا أ” تفسر أو تتنبأ (أو كلاهما) بكل ما يضّمره “أ”. و “أ” تفسر أو تتنبأ (أو كلاهما) ببعض ما تضّمره “لا أ”].

الافتراض الثّاني:

[إذا تكرّرت علاقة التّضامر بدلالة أخرى، فإنّ العَلاقة المكرّرة لاتماثل العَلاقة الأولى]

الصياغة بالرموز لهذا الافتراض في الصّيغة:

[إذاكانت (س) علاقة تضّامرية، فإنّ (سس1،سس2،سس3… سن)، هي علاقات تضّامريةمكرّرة، لا تماثل الـ (س)]. 

مما يترتب على ذلك النتائج الآتية:

(1) “كُلّ سؤال ّيضمر إجابات مكرّرة غير متماثلة تبعا لاختلاف الدلالات المحددة”.

(2) “كُل تفسير أو تأويل يضّمر تفسيرات مكرّرة غير متماثلة تبعا لاختلاف الدلالات المحددة”.

الافتراض الثّالث:

[كُلّ تضّامر قابل للتكرار اللامتماثل، يحتمل ظهور التحوّل اللانمطي]

الصّياغة بالرّموز لهذا الافتراض في الصّيغة:

[إذا كانت (س) مكرّرة، فهي تضّمر إمّا لا مثيلها (ص) وإمّا الحالة اللانمطيّة (نط)].

إذا كانت س ı| لا س ← د

وكان (لا س) = (ص)    

فإنّ (لا سن) = إما (صن) أو (نط)، حيثُ إنّ:

(لا سن): مضّمر مكرّر بعدد غير محدّد.

ن): قيمة الإضمار المكرّر بعدد غير محدّد. 

(نط): التحوّل اللانمطي.

والتحول اللانمطي: هو الحالة الّتي يقفز فيها التصوّر أو الفهم من بُعد إلى بُعد آخر. 

المبدأ العام للتضامر:

يُمكن اجمال الافتراضات التّضامر الثلاثة في مبدأ عام، نصّه:

[كلّ شيءٍ يضمرُ لا مثيلهُ بدلالةٍ محددة، حتّى التّضامر نفسه].

أ ı| (ح +1) ← د

 

ويُمكن التَّعبير عن هذا الافتراض بالرُّموز ([1]) كما في الصّيغة:

                              وتقرأ هذه الصّيغة بالصّورة:

“أ” تضمر “لا أ” بدلالة محدّدة وهي المتغيرّ “د”.

لنفترض أنّ (أ) هي فكرة، قضيّة، نظريّة، حدث، كيان… إلخ.

فإنّها تُضمر (لا أ) حيثُ إنّ (لا أ) تعني جميع الاحتمالات الممكنة ([2]). ومنه نتحصّل على أن:    أ ı| جدل أ + حياد أ + نسبانوية أ + تأويلانوية أ + 1   

قوانين التّضامر

استنادًا إلى افتراضات التّضامر، استنبطنا قوانين التّضامر الثّلاثة، وكما مبين في الآتي:

قانون تضامر الوجود:

ينصُّ على أنّ: [إذا وُجدَ شيء بدلالة محدّدة في إحدى مرتبتين لا متماثلتين، فإنَّهُ يضمر الدّلالة على وجود نظيره في المرتبة الأخرى].

وهذا القانون تكتب صياغته الرّمزيّة بالصّيغة:

[إذا وجدَ (س) في (أ) فهذا يُضمر الدّلالة على وجود (سَ) في (ب) بدلالة (د)].

قانون تضامر المعرفة:

ينصُّ على أنّ: [إذا وُجد شيئان لا مُتماثلان مقترنان بدلالة محدَّدة فإنّ معلوم أحدهما يكشف تضامريًّا مجهول لآخر].

والصّيغة بالرّموز:

[إذا وجدَ (س، سَ) في المراتب (أ، ب) على التتالي، وكان بينهما (د)؛ فإنّ معلوم (س) يُظهر مجهول (سَ) وبالعكس].

قانونُ تضامر الأجوبة:

ينصُّ على أن: [إذا وُجدَ سؤال في مرتبة ما مقترنا بدلالة محدّدة، فيوجد له عدد مفتوح من الأجوبة النّهائيّة المتضامرة في المراتب الأخرى].

والصّيغة بالرّموز:

[إذا وجد (س) بدلالة (د) فيوجد (ح+1) من (ج) بدلالة (دَ)].

انواع التّضامر

للتضامر ثلاثة أنواع رئيسة، وهي:

التّضامر الذّاتي:

(1) وهو الّذي يكون بين الشّيء ونفسه في المرتبة نفسها، وصيغته:

أ ı| لا أ ← د

(2) الأصل أنّ تستنبط نتيجة التّضامر من المضّمر لكونه هو اللامثيل المستتر أو غير المصرّح به، في هذه الحالة يُسمى التّضامر بالتضامر “اللاانعكاسي” فإن حصل في علاقة ما واستُنبطت النّتيجة من المظهر – وليس من المضّمر-فإنّ ذلك يُسمّى تضامرًا انعكاسيًّا. إذن، الانعكاس في التّضامر: هو عمليّة الاستنباط من المُظهر. وفي العلاقات من هذا النّمط يوضع في صياغة العلاقة رمز التّضامر المقلوب وهو (|ı) وتكتب العلاقة بالصّيغة: أ |ı لا أ ← د

التّضامر الموضوعي (لا ذاتي):

(1) هو الّذي يكون بين الشّيء وغيره في المرتبة نفسها أو في مرتبين على أقلّ، وصيغته:

أ ı|ı ب ← د    أو    أ ı|ı ب ı|ı جـ ← د

مثال: جاري الحديث في الأوساط العلميّة المختصّة عن ذهاب بعض علماء الجهاز العصبي منذ عقود إلى القول بوجود أوجه تشابه بين جميع النّظم المعقّدة مثل: أسواق الأسهم وبين التّعقيد في النّظام العصبي. وقد أكّد العلماء -على الرّغم ممّا يظهر- أنّه ليس هناك كثير من الأمور المشتركة بين الخليّة وأسواق الأسهم؛ إلّا أنّ الدّراسات في هذا المجال بيّنت عكس ذلك، الأمر الّذي حدا بعلماء الأعصاب إلى التقاط الأدوات الرياضياتيّة الّتي طُوّرت للتّعامل مع الأسهم من أجل استخدامها لفهم تعقيدات الدّماغ. صحيح أنّ الوقت لا يزال مبكّرًا للوصول إلى نتائج قطعيّة؛ إلّا أنّ ما تحصل عليه من نتائج سجّلت لحدّ الآن تُوصف بالواعدة.

ضمن مشروع أطلق عليه (نورون وول ستريت The wall street neuron) يحاول عالمان في الرّياضيّات من معهد (دارتموث) هما: روكمور وبولس، التّعامل مع تعقيد النورنات الدّماغيّة مثل التّعامل مع سوق الأسهم؛ فكلاهما -الدّماغ وسوق الأسهم- يتألّفان من عددٍ كبيرٍ من الوحدات الصّغيرة، أي: تجّار الأسهم والنورنات، الّتي تنتظم شبكة واسعة المجال.

 معروف في سوق الأسهم، أنّ أي تاجر يُمكن أن يؤثّر في باقي التّجار في عمليّة البيع والشّراء، وقد يستمر هذا التّأثير إلى حدٍّ يشمل الشّبكة بكاملها مؤدّيًا إلى هبوط الأسعار أو ارتفاعها بمجملها في سوق الأسهم. وفي المقابل فإنّ الشّبكة الإجماليّة بدورها تستطيع أن تؤثّر في الحدود الدّنيا للأسعار. فعلى سبيل المثال، عندما تبدأ سوق الأسهم بالارتفاع من جديد، فإنّ توق بعض التّجار إلى الشّراء مجدّدًا يُؤدّي إلى مزيد من الارتفاع في سوق الأسهم.

وفقًا لهذه الآليّة طوّرَ كلّ من (روكمر وبولس) مع زملائهما مجموعة من الأدوات الرّياضياتيّة من أجل الكشف عن بنية الشّبكة الّتي تتكوّن منها سوق نيويورك للأوراق الماليّة، حيثُ حملوا أسعار الإغلاق اليوميّة لـ (2547 سهمًا) على مدى (1251 يوم) وبحثوا عن أوجه التّشابه في تغيير أسعار الأسهم العاديّة المختلفة (قابليّة ارتفاع الأسعار في زمن متقارب وانخفاضها)، وقد كشفت الدّراسة عن وجود (49 عنقودًا) من الأسهم العاديّة، وبُمراجعة معلومات هذه العناقيد الماليّة، وجدوا أنّ هذه العناقيد تتوافق -في معظم الأحيان- إمّا مع بعض القطاعات الاقتصاديّة المعيّنة كبرامج الحاسوب أو المطاعم مثلًا، وإمّا مع مناطق جغرافيّة محدّدة كأمريكا اللاتينيّة أو الهند، ووجدوا أنّ العناقيد الـ(49) تنتظم في سبعة عناقيد كبرى، ووجدوا أنّ هذه العناقيد الكبرى تتداخل فيما بينها لتشكّل أنشوطة عملاقة.

ما فعلهُ (روكمور وبولس) هو استخدام هذه الطّرائق الرّياضياتيّة لبناء نموذج للدّماغ؛ ولكن بدلًا من البحث عن المعلومات الماليّة المتنقّلة من جزء إلى جزء آخر في السّوق، فهما هنا يستقصيان المعلومات الّتي تنتقل من منطقة إلى أخرى في الدّماغ، وكما هي الحال في الشّبكات المتقلّبة لأسواق المال؛ فإنّ الدّماغ لا ينفك عن إعادة تنظيم شبكته بين لحظة وأخرى.     

لاختبار نموذجهما، حلّل (روكمور وبولس) صور الرّنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) الّتي حصل عليها فريق آخر هو فريق ريكلي من أدمغة أشخاص في حالة الرّاحة، حيثُ راقبوا ارتفاع النّشاط وانخفاضه ضمن الفوكسل الواحد: وهو قطعة من الدّماغ بحجم ذرّة الفلفل وتمثّل أصغر حجم يُمكن أن يقيسه الرّنين. بعد أن بحث العالمان عن العلاقات الوثيقة بين أنماط النّشاط، اكتشفا أنّ الفوكسلات يُمكن تجميعها كما في عناقيد الأسهم في الأسواق الماليّة؛ ولكن هنا إلى 29 عنقود، وتلك العناقيد تجتمع بدورها في أربعة عناقيد كُبرى. وما يُثير الدّهشة في هذا السّياق هو أنّ هذه العناقيد الأربعة الكبرى لم تكن سوى نسخة عصبيّة تعمل وَفق مبدأ دوران القطاع الّذي اكتشفه (روكمور وبولس) في مجال سوق الأسهم، لقد كانت كلّها تجتمع ضمن أنشوطة واحدة تتحرّك داخلها موجات النّشاط في مسار دائري.

بعد أن نجح العالمان في بناء شبكة للدّماغ المستريح، قرّرا توجيه اهتمامهما إلى الدّماغ المفكّر، وإذا ما نجح نموذجهما فقد يغدوان قادرين على التنبّؤ بطبيعة النتائج الّتي يُمكن أن يحصل عليها عالم الجهاز العصبي من الفحص الّذي يُجريه بواسطة الرّنين (FMRI) على أحد الأشخاص الّذي يشاهد نوعًا معيّنًا من المنبّهات البصريّة، كوجه صديق قديم مثلًا، ولا شكّ في أنّ مثل هذا الإنجاز سيدفع العلوم العصبيّة باتّجاه يُمكن أن تتحوّل بواسطته إلى علمٍ تنبئي بالفعل ([3]).

* * *

إنّ ما بين أيدينا هنا تطبيق علمي للتّضامر اللّاذاتي، وفيما يأتي تحليل لبياناته تضامريًّا:

معطيات العلاقة التضامريّة

السّؤال ما الاحتمالات المضمرة بين الخلايا العصبيّة وسوق الأسهم بدلالة آليّة عمل سوق الأسهم؟
تحديد العلوم البيولوجيا، الاقتصاد
تصنيف العلوم البيولوجيا من مرتبة الطّبيعة = أ
الاقتصاد من مرتبة الطّبيعة = ب
صيغة العلاقة البيولوجيا  ı|I    الاقتصاد ← آليّة عمل سوق الأسهم
النّوع ( ı|ı) تضامر لا ذاتي عكوس
المجال [الطّبيعة ← الطّبيعة] = 11
القاعدة (3): ج أ ‡ ع ب← دأ، د ب
التّناسب طردي – بلا

وَفقًا لهذه المعطيات يُمكن ملاحظة ما يأتي:

* يُمكن ملاحظة أنّ العلماء من اكتشافهم للعناقيد والعناقيد الكبرى والضّفائر في سوق الأسهم تمكّنوا من التوصّل إلى نظيرها في الدّماغ الإنساني.

* ويُمكن ملاحظة أنّهم ومن دراستهم لآليّة التقلّبات والتغيّرات في سوق الأسهم تمكّنوا من قراءة التقلّبات في الخلايا العصبيّة.

* النّقطة المُهمّة الّتي نُريد التّركيز عليها هنا هي: إنّ التّضامر لا يقول أو يشترط التّطابق التّام بين المتضامرات، بل إنّ المُظهر يكشف عن وجود نظيره أو يكشف عن مجهول نظيره مرآتيا، وبيان ذلك: إنّ العلماء لمّا اكتشفوا سوق الأوراق الماليّة في نيويورك يتكون من 49 عنقودًا، وأنّ هذه العناقيد تتجمّع في سبعة عناقيد كبرى؛ فإنّ ذلك يضمر الدّلالة على وجود عناقيد النورونات الصّغرى الّتي تتجمّع لتكون الكبرى؛ ولكنّه لا يقيد ذلك بالعدد نفسه، وكما تبيّن فإنّ عناقيد النورنات كانت 29 والكبرى 4، فليس شرطًا المطابقة بين المتضامرات بقدر ما هو شرط أنّ الأمرين يسيران على النّسق ذاته، أو كما نصف بأنّه يكون في مستوى أعمّ العموم. وهكذا ومن آليّة تقلّبات السّوق الماليّة توصّل العلماء إلى معرفة أسباب التقلّبات في الأنشطة الدّماغيّة.

(1-1) لم يكن العمل لاكتشاف ما هو مجهول في النّشاط الدّماغي مقتصرًا على الاستفادة ممّا هو معروف من سوق الأسهم، بل إنّ الدّراسات تشمل أيضًا دارات الحاسوب وتأثير الجينات والبروتينات في خلية واحدة بين التّعقيد في النّظام العصبي ([4]).

(1-2) نلاحظ أنّ العلاقة هنا البيولوجيا وهي من مرتبة الطّبيعة، ودارات الحواسيب وهي من مرتبة النّتاج أو التكنولوجيا، ولمّا كان متعلق المعلومة هنا هو الطّبيعة الذّاتيّة الفيزيائيّة لعمل تلك الدّارات، وليس المتعلق هو الابتكار الإنساني، فإنّ دارات الحواسيب في هذه العلاقة تنسب لمرتبة الطّبيعة وليس لمرتبة النّتاج.

(2) من الخصائص الّتي يتّسم بها التّضامر الموضوعي هي خاصيّة (العكوسة)، وهي تعني أنّ العلاقة التّضامرية يُمكن أن تجري على وتيرة تبادليّة، وفيها يُمكن أن يكون المُظهر مضّمرا في الوقتِ نفسه، على التّبادل مع الطّرف الآخر.

مثال ذلك العلاقة التّضامرية بين (س) و (ص) مثلا، ففي مثل هذه العلاقة يُمكن أنّ تكون (س) مُظهرًا و(ص) مضمرًا لها، كما يُمكن أنّ يحدث العكس بأنْ تصبح (ص) مظهرًا و(س) مضمرًا لها، وذلك في العلاقة نفسها. هذا المضمون يشتق من الصّيغة الآتية:

س ı|ı ص ← د           وهي مشتقة من:

س ı| ص ← د …………. (1)

س |ı ص ← د …………. (2) قاعدة الانعكاس

وفي المقابل لدينا:

ص ı| س ← د ………….(3) قاعدة الانعكاس

ص |ı س ← د ………….(4)

فالعكوسة هي الخاصيّة الّتي تسمح بقراءة العلاقة من اليمين أو من اليسار على حدّ سواء، مع الأخذ في الاعتبار متغيّرات الدّلالة المحدّدة.

بالمقابل فهناك قاعدة اللاعكوسة، وهي: الّتي تسير باتّجاه واحد، أي: الّتي لا تسمح بقراءة التّضامر إلاّ من اليمين إلى اليسار، وتغلب مثل هذه الحالات في التّضامرات الذّاتيّة.

(2-1) إنّ العكوسة وإن كانت تقول بإمكانيّة قراءة العلاقة التّضامريّة من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين على حدّ سواء؛ فإنّها ليست تعاكسًا لسبب يسير، هو: أنّ التّعاكس يتعارض مع مصادرات التّضامر الّتي تذهب إلى الثّبات على النّفي أو الإثبات بين طرفي العلاقة، أي أنّ المظهر المثبت مضمره مثبتًا أيضًا في العلاقة العكوسيّة، والمضمر المنفي مضمره منفي أيضًا، وعلى هذا فلا يتحقّق شرط التّعاكس، حتّى مع احتماليّة أن يكون مضمر المثبت منفيًّا؛ لأنّ الاحتمال بحدّ ذاته يتعارض مع حَدّ التّعاكس. فالعكوسة أعمّ من التّعاكس. ولهذا يُمكن صياغة ذلك بالقول: «إن كلّ تعاكس عكوسة وليس كلّ عكوسة تعاكس».  

التّضامر المشترك (ذاتي لا ذاتي):

(1) وهو الّذي يكون بين الشيء ونفسه من جهة، وبين الشّيء وغيره من جهة أخرى.

لهذا النّوع عدّة صيغ منها:

أ ı||ı ب ← د

ومنها يُمكن اشتقاق الصّيغ الآتية أو سواها:

* [(أ ı| لا أ) ı|ı ب] ← د

* [لا ب |ı ب ı|ı ج ı| لا ج] ← د

مثال: ظل علماء الجهاز العصبي يعتقدون طويلا أن دارات الدماغ تتوقف عن العمل عندما يكون الشخص في حالة الراحة، ولكن تجارب تقنيات التصوير أظهرت وجود مستوى دائم من النشاط خلف الكواليس.

لقد أشارت أبحاث أخرى إلى أن أداء مهمة معينة يزيد من استهلاك الدماغ للطاقة بنسبة لا تزيد على 5% من الطاقة التي يحتاج إليها النشاط القاعدي الأساسي، وإلى أن قسطا كبيرا من النشاط الكلي للدماغ يحدث في دارات عصبية لا علاقة لها بأحداث العالم الخارجي ويستهلك من 60% إلى80% من الطاقة الإجمالية التي ينفقها الدماغ. لقد أطلق الفريق البحثي على هذا النشاط الداخلي المنشأ مصطلح (الطاقة الخفيةdark energy) تيمُّنا بتعبير الّذي أطلقه الفلكيون على الطاقة غير المرئية (المظلمة) والتي تمثل الجزء الأكبر من كتلة الكون الكلية.

ومما أسهم أيضا بدفع العلماء للاهتمام بمسألة وجود طاقة عصبية خفية هو انهم لاحظوا كم هو ضئيل حجم المعلومات الذي يصل فعليا من الحواس إلى مناطق الدماغ الداخلية المسؤولة عن معالجة هذه المعلومات. وخير مثال على ذلك هو التناقص الكبير في كمية المعلومات البصرية خلال رحلتها من العين إلى قشرة الدماغ البصرية. حيث لا يصل إلى الشبكية في مؤخرة العين من المعلومات المتوفرة في عالمنا الخارجي – وكميتها الافتراضية غير المحدودة – سوى مايعادل10 بلايين بتةbit  في الثانية. وبما أن عدد وصلات العصب البصري بالشبكية لا يتجاوز مليون وصلة مُصدِّرةoutputconnection ، فإن كمية المعلومات التي تتمكن من مغادرة الشبكية متوجهـة إلى الدماغ لاتتجاوز 6 ملايين بتة في الثانية ولاينجح منها في الوصول إلى القشرة البصرية سوى 10 آلاف بتة في الثانية فقط. وبعد خضوع هذه المعلومات البصرية إلى مزيد من عمليات المعالجة، يتم نقلها إلى مناطق الدماغ المسؤولة عن تشكيل إدراكنا البصري على صعيد الوعي.

من المثير للدهشة أن كمية المعلومات التي تولّد إدراكنا الواعي لاتزيد على100 بتة في الثانية. ومن المستبعد أن يكتفي الدماغ بمثل هذا السيل الضئيل من المعلومات وحده ليتمكن من صنع الإدراك. الأمر الذي جعل النتائج البحثية تقود إلى رؤية مفادها: أن الدماغ–على الأرجح–يتنبأ باستمرار بما يمكن أن يقع في المحيط الخارجي مستبقا المعلومات الهزيلة التي سترد إليه عبر الحواس من العالم الخارجي.

ولقد زودنا العلماء – فعلا–بكثير من الأفكار العميقة المثيرة، ففي عام 2008 أبلغ فريق بحثي متعدد الجنسيات أنه تمكّن أثناء مراقبته الشبكةDMN([5]) من التنبؤ بأن الشخص المفحوص بالمرنان الوظيفي([6])على وشك ارتكاب خطأ–في اختبار حاسوبي مبرمج لهذا الغرض–قبل حدوث ذلك بزمن قد يصل إلى 30 ثانية.

ويمكن لطاقة الدماغ الخفية أن تمدنا في السنوات القادمة بدلالات مهمة عن طبيعة الوعي. وكما يعترف معظم علماء الجهاز العصبي، فإن تفاعلنا الواعي مع العالم الخارجي لا يشكل سوى جزء يسير من نشاط الدماغ. وما يحدث تحت مستوى الإدراك الواعي، بما في ذلك ما تقوم به طاقة الدماغ الخفية، هو أمر بالغ الأهمية لمساعينا البحثية الرامية إلى اكتشاف الخلفية الغامضة لتجاربنا الحياتية التي نعيشها ضمن ذلك الحيز الزمني الضئيل من الإدراك الواعي.

على الباحثين–وهم يتطلعون في هذه الأيام إلى المستقبل–أن يحاولوا التوصل إلى معرفة آلية عمل تنسيق النشاط بين منظومات الدماغ المختلفة وداخلك لواحدة منها على المستوى الخلوي، ويمكن أن يتبين لنا أخيرا بمرور الزمن، أن الطاقة العصبية الخفية هي الأساس الفعلي لما يحركنا([7]).

المستفاد من هذا الموجز لهذه الورقة البحثيّة هو الآتي:

أوّلًا: كان المعتقد أنّ دارات الدّماغ تتوقّف في أثناء الرّاحة، وتبيّن خلاف ذلك، وهو أنّ النّشاط الدّماغي في أوقات الرّاحة يكون مقاربًا لما هو عليه في حالة الانتباه والتّركيز، والنّسبة بينهما لا تتجاوز 5%.

تضامريًّا هذه المعلومات تعبّر عن حالة تضامر ذاتي يُمكن صياغة ذلك بالشّكل:

المعطى (أ) = توقّف النّشاط الدّماغي وقت الرّاحة.

المعطى (لا أ) = لا (توقف النّشاط الدّماغي وقت الرّاحة)

الدّلالة المحددة (د) = تقنيات التصوير العصبي وتطورها

وتكتب بالصيغة: أ ı| لا أ ← د ونلاحظ هنا أنّ صيغة التّضامر الذّاتي تنطبق مع التقدّم العلمي في هذا المضمار.

لكنّنا نعلم سلفًا أنّ (لا أ) لا تعني النّفي بالضّرورة؛ إذ لكونها تدلّ على اللاتماثل، فقد تتضمّن احتمال (أ لا أ) وهو احتمال قد يأخذ صيغتين: إمّا أنّه يحقّق احتمال (لا أ) عند بعضهم ولا يحققه عند بعضهم الآخر، وإمّا أنّه يحقّق احتمال (لا أ) بوجهٍ غير مستقر، أي تارّة يتحقّق وأخرى لا يتحقّق، وبالتّأكيد يحتمل الأمرين معًا، ولربّما تُثبت الابحاث المستقبليّة في هذا السّياق هذا التوقّع التّضامري.

ثانيًا: توقّع العلماء وجود طاقة خفيّة أو مظلمة على شاكلة الطّاقة المظلمة في الكون، وكما واضح من الأبحاث فإنّ نسبتها كبيرة لدرجة تقترب من الثّلثين وهي تُشبه نسبة الطّاقة المظلمة. إضافةً إلى أنّ افتراض وجودها ضروري لتفسير الكيفية الّتي يتعامل بها الدّماغ مع العالم الخارجي، وهي تشبه ضرورة الطّاقة المظلمة الكونيّة لتفسير التّسارع الكوني.

إنّ هذا التّقابل بين الطّاقتين يزوّدنا بصيغة تضامر لا ذاتي عكوس بين الطّاقتين، وفيه ستكون المعطيات بالشّكل:

المعطى الأوّل (أ) = الطاقة المظلمة الكونيّة.

المعطى الثّاني (ب) = الطاقة المظلمة الدّماغيّة.

الدّلالة المحدّدة = د أ ضمن مرتبة الطّبيعة.

والصّيغة تكون بالشّكل:

أ ı|ı ب ← د أ

من المعلوم وحسب قوانين التّضامر، فإنّ معلوم (أ) يُمكن أن يُساعد على كشف مجهول (ب) كما يُمكن العكس ّأيضًا، ومثال ذلك:

لمّا كانت الأبحاث تُشير إلى أنّ الدّماغ وبسبب الطّاقة الخفيّة فيه يستطيع التنبّؤ بما يُمكن أن يقع في المحيط الخارجي مستبقًا المعلومات الّتي ستردُ إليه عبر الحواس من العالم الخارجي؛ فإنّ ذلك يضمر الدّلالة على أنّ التعرّف إلى الطّاقة المظلمة الكونيّة لن يكون متيسّرًا من طريق التقنيات التكنولوجيّة المُتاحة أو الّتي ستُبتَكر، بل في الأغلب إنّه يحصل من طريق الحدس أو المصادفة. هذا إذا ما عددنا الأجهزة للكون كالحواس للدّماغ.

عمومًا، فإنّ الخوض في غمار هذه العلاقة ونتائجها يتطلّب دراسة متخصّصة فيها. وما يهمّنا الآن هو السّير قدمًا لنوضّح كيفية تشكّل علاقة التّضامر المشترك (ذاتي لا ذاتي). فنحنُ إذا نظرنا فيما تقدّم من معطيات سنجد أنّ لدينا علاقتين قد انبثقتا في آن: علاقة بين الدّماغ ونفسه، وعلاقة بين الدّماغ والكون، بدلالة الطّاقة، وفي مثل هذه الحالة تكون الصّياغة الجامعة لها هي:

[(أ ı| لا أ) ı|ı ب] ← د

حيثُ يمثّل الشّطر الأوّل من العلاقة وهو (أ ı| لا أ) التّضامر الذّاتي للدّماغ مع نفسه، وهذا الشّطر بجملته يتضامر لا ذاتيًّا (ı|ı ب) مع الكون. والعلاقة بجملتها مشتقّة من التّعميم التّضامري:

أ ı||ı ب ← د


[1]– للمزيد حول هذه الرّموز راجع: القسم الثّاني – الفصل الأوّل -رموز أساسيّة.

[2]– للمزيد راجع: القسم الثّاني – الفصل الأوّل -مفهومات أساسيّة -حول مفهوم الاحتمالات الممكنة.

[3]– للمزيد انظرمقال: مئة ترليون وصلة، كارل زيمر، مجلة العلوم، الترجمة العربية لمجلة ساين تفك امريكان، تصدر شهريا في دولة الكويت عن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، المجلد27، العددان 7/8، يوليو/اغسطس،2011، ص72-79.

[4]للمزيد انظر مقال: مئة ترليون وصلة، كارل زيمر، مجلة العلوم، الترجمة العربية لمجلة ساين تفك امريكان، المجلد27،العددان 7/8، يوليو/اغسطس، 2011م،ص72.

[5]–  the brain’s default mode networkأو الوتـيـرة الطبيـعـيـة لعمل الدّماغ.

[6] –  functional magnetic resonance imaging، طريقة التّصوير بالمرنان المغنطيسي الوظيفي fMRI ظهرت عام 1992.

[7]– للمزيد انظر مقال: طاقة الدّماغ الخفيّة، ماركيز ريتشيل، مجلّة العلوم، مصدر سابق، المجلّد 26، العددان 7/8، يوليو/اغسطس، 2010، ص64-71.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *