تَعدُّد الأزليّات فلسفيًّا بينَ العلمِ والدّين

مبرهنة (برود – فيلكن – غوث): هي نظريّةٌ في علمِ الكونِ، قدمها ثلاثة عُلماءُ مُلحدون، تفترضُ أنّهُ حتى مع وجود أكوانٍ مُتوازيةٍ (أكوان أخرى)، وجوب أنْ يكونَ بداية مُطلقة لكوننا والأكوان الأخرى.

  القراءة

تُثيرُ هذه الفرضيّةُ عددًا من الأسئلةِ والإشكاليّاتِ، وهي:

  1. هلْ تُوجدُ أكوانٌ أُخرى (عدد لا نهائي منها)؟
  2. إنْ وُجدتْ أكوانٌ أخر، ألا يدلُّ ذلك على أزليّةِ الطّاقةِ والمادّة؟
  3. إنْ كانت الطّاقة أو المادّة أزليّة، ألا ينفي ذلك الحاجة إلى وجودِ خالق؟
  4. إنِ انتَفت الحاجة إلى وجود خالق، ألا يتعارض مع التّضامر الّذي يفترضُ الجانب الدّيني القائم علّة وجود الخالق كوجهٍ معرفيٍّ يتكاملُ مع الوجهِ العلميِّ للحَقيقة؟

فيما يأتي، بيان رأينا في هذه النّقاط:

النّقطةُ الأولى: هلْ تُوجدُ أكوانٌ أُخرى (عدد لا نهائي منها)؟

الثّابتُ علميًّا، وجود كوننا هذا الّذي نعيشُ فيه، ونستطيع أن نعي ما يُمكننا من تفاصيله، وأمّا قضيّة الأكوان الأُخرى، فلا تزال فرضيّة تقولها بعض النّظريّات، وهذا أمرٌ لم يثبتْ علميًّا لحدّ الآن؛ وهذا يعني أنّ قضيّة الأكوان الأُخرى -من النّاحية العلميّة- هي مُجرّد احتمالٍ مُمكنٍ لم يثبتْ وجودها؛ ولكن -في الوقت نفسه- لا يُوجد ما يُثبت أنّها غير موجودة، فقبلَ قرونٍ لم نكن نعرف عددًا هائلًا من الفايروسات والُجسيمات الذّريّة، ولم يكن ذلك كاف لنفي وجودها.

في هذه الحالة، نحنُ نلجؤ إلى الجانب الدّيني لنرى رأيه في هذا الموضوع، فإنْ كان يقطع بشيءٍ في هذا الصّدد؛ فهذا يُضمر الدّلالة على وجودِ نظير لتلك الدّلالة تبعًا لقانون تضامر المعرفة.

في القرآن الكريم نستطيع أن نَلمح في ثانيةٍ آيةً من آياتِ سُورة الفاتحة، وهي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، الإشارة إلى عددٍ غير مُحدّدٍ من العَوالم، إذِ العالمين جمع عالم، والعالم في اللّغة تأتي من ضمن ما تأتي به بمعنى كون، فيكون المعنى (ربّ الأكوان). يعضد ما نقوله هنا، ما ذكره الإمام فخر الدّين الرّازي في تفسيرهِ الكبير من أنّ: «العالمين كلّ موجود ما سوى الله تعالى… وثبت بالدّليل أنّه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر أنْ يخلقَ ألف ألف عالمٍ خارج العالم، بحيث يكون كلّ واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم، ويحصل في كلّ واحدٍ منها مثل ما حصلَ في هذا العالم من العرش والكرسي والسّماوات والأرضين والشّمس والقمر، ودلائل الفلاسفة في إثبات أنّ العالم واحد، دلائل ضعيفة ركيكة مبنيّة على مُقدّماتٍ واهية». *

في سياق القاعدة القائلة: (القرآن يُفسّر بعضه بعضًا)، جاءت آيةٌ أكثر توضيحًا، يقول فيها تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}، ولم يقلْ ربّ السّماء والأرض، ولا نستبعد أنّ صيغة الجمع تلك تذهبُ إلى فضاءاتِ الأكوان الأُخرى.

عمومًا؛ هذه القراءةُ ليست قطعيّةً، بل هي احتماليّة أيضًا؛ لأنّ النّصوص لن تُشَدّدَ تصريحًا وتأكيدًا على هذا الأمر. وهذا يجعل المعطيات تكون على الوجهِ القائل:

احتمالٌ علميٌّ يُقابله احتمالٌّ ديني، فلا منع منهما ولا تأكيد أيضًا.

وَفْقًا لذلك، وإذا لم نُشدِّد كثيرًا على أقوال بعض العارفين من الصّوفيّة الّذين نبّؤوا من طريق كشوفاتهم عن وجود تلك العوالم والأكوان لذاتيتها؛ فإنّ الكلمة الفصل ستكون للعلم في هذه القضيّة، إنْ توصّل مُستقبلًا لإثباتاتٍ تُحوّلُ الإمكان إلى قطع، سوف ترجح كفّة الاحتمال الممكنة المضمرة في النّصوص الدّينيّة، وتكتسب الكشوفات الصّوفيّة الذّاتيّة صفة المصداقيّة الموضوعيّة.

حتّى ذلك الحين، فوجهةُ نظري في الموضوع: أنّ الأكوان الموازية أو الأُخرى أو العالمين -تَبعًا للتّعبير القرآني-، موجودةً، وبعددٍ لا نهائيٍّ، أي: ليس لها أوّلٌ وليس لها آخر.

إذا سمحتُ إلى نفسي بصياغة هذا المعنى على وجهٍ قد يُوصف وصفًا مُتطرّفًا، أقول: إذا كان للخالقِ بداية، فللعوالم أو الأكوان بداية، وإذا لم يكن للخالق بداية، أي: أنّ وجوده أزلي، فوجود العوالم أزلي أيضًا.

هنا نقطةٌ مُهمّةٌ ينبغي الإمعان فيها: لا أقول أنّ كلّ كونٍ ليس له بداية، بل كلّ كونٍ له بداية ونهاية، كلّ كونٍ أو عالم هو مُحدث، يظهر ويمرّ بدورةِ حياةٍ، ويفنى؛ ولكنّي أقول: إنّ زمنَ بداية خلق العوالم ليس له بداية، لم يكنْ هناك زمان لم يكنْ فيه عمليّة خلق للعوالم والأكوان وبأعدادٍ لا نهائيّة.

لسائلٍ أن يَسألني: ما دام ما يوجد لدينا من معلوماتٍ من الدّين والعلم، معلومات احتماليّة، وما دُمت مِلْتَ إلى كفّةِ أنّ العلمَ سيَرجْحُ متى أصلُ إلى نتائجَ قطعيّة بذلك، وما دُمتَ لم تَركن كلّ الركون إلى أخبار الصّوفيّة وكشوفاتِهم؛ لذاتيّتها، فلماذا ذهبتَ هذا المذهب في ترجيح وجود الأكوان الموازية على عدمها؟

أقولُ: الحقيقةُ إنّ ما حملني على ذاك، الفهمُ الّذي نبّه إليه الشّيخ ابن عربي لصفةِ الخالقيّة الإلهيّة، فاذا كان الخالقُ أزليًّا بذاتهِ وصفاتهِ؛ فهذا يعني أنّ صفةَ الخالقِ موجودةٌ بوجودِ الله أزلًا، وإذا كانت تلك الصّفة لا تعني إلّا عمليّة الخلق الفعلي للمَخلوقاتِ؛ فهذا يعني أنّ عمليّة خلق الكائنات لم تزلْ قائمة منذُ الأزل، وإذا كنّا نعلمُ أنّ لكوننا بداية، أو -في الأقلّ- لوجود الكائنات بداية، فنعلم من ذلك أنّ هناكَ مخلوقاتٍ وأكوانًا غيرنا، لم تزلْ تُخلق ولم يزلْ من استوفى أجله يفنى… لسنا أوّل من خُلق، ولم يتوقّف الخلق عندنا، ولن يتوقّف بعدنا.. إذ أي توقّفٍ ولو لنانو ثانية هو: تعطيلٌ لصفةٍ إلهيّةٍ لنانو ثانية، وأيّ تقبّلٍ لمثل هذا التّعطيل يَؤول إلى إرباكٍ كبيرٍ وخللٍ أكبر في العقيدة.

سيقولُ قائلٌ: ماذا لو أثبتَ العلمُ على وجهٍ قاطعٍ عدمَ وجود أكوان أخرى؟ ألا يقود هذا إلى إحداث ذلك الخلل؟

أجيبُ: إنْ قطعَ العلم بذلك؛ فسيكون قاطعًا بشأن ما هو ماديّ من الأكوان والعوالم، وليس بما هو مُفارق للطّبيعة المادّية، فالعلم لا يستطيع أنْ يُثبت أو ينفي وجود عالم الجنّ مثلًا.. نعم، سوف تتقيّد وجهة النّظر، وسوف تبقى ذاتيّة أكثر منها موضوعيّة؛ ولكنّها لن تُؤثّر في اتّساق العقيدةِ بخلقِ ما لا نَعلم {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.

إذن، الإجابة المتكاملة عن سؤالِ هذه النّقطة، هي: (يُوجد لا يوجد أكوان أخرى) نسبانويًّا. نسبة لاحتمالٍ دينيٍّ وعلميٍّ تُوجد، ونسبة لاحتمالٍ دينيٍّ وعلميٍّ –أيضًا- لا تُوجد. ولما كنّا على المستوى الشّخصي نَرجحُ كفّة (توجد)؛ فإنّ الإجابة بدلالتنا هذه يُوجد عدد لا نهائي من الأكوان الأخرى. 

 النّقطةُ الثّانية: إنْ وُجدت أكوان أخرى ألا يدلّ ذلك على أزليّة الطّاقة والمادّة؟

              أثناء حديثي في النّقطة السّابقة بَينّتُ أنّ الأزليّة مُتعلّقة بعمليّة خلق الأكوان لا بالأكوان بحدِّ ذاتها؛ مَا يعني: أنّ كلّ كون مُحدث في حدِّ ذاته، وهذا يعني: أنّ المادّة أو الطّاقة ليستا أزليّتين بذاتهما، بل هما مخلوقتان مُحدثتان في كلِّ كونٍ على حِدة.

من جهةٍ ثانيةٍ، فإنّ القول بأزليّة عمليّة الخلق، لا ينفي نفيًّا قاطعًا أزليّة وجود المادّة والطّاقة التي لم ينقطعْ خلقها ولو لثانية، وهذا صحيح من حيث هذا المنظور، ليس لوجود المادّة والطّاقة بداية، هما أزليّتان؛ ولكن ما ينبغي التّشديد عليه أنّ تلك الأزليّة غير موجودةٍ بذاتها بل موجودة بغيرها.

لذا إن الإجابة عن السّؤال: هل الطّاقةُ والمادّة أزليّتان؟ تكون: (أزليّتان لا أزليّتان) نسبانويًّا، نسبة لعمليّة الخلق من الأزلي هما: أزليّتان، ونسبة لذاتهما كمادّة وطاقّة: ليستا أزليّتين.   

النّقطة الثّالثة: إنْ كانت الطّاقة أو المادّة أزليّة ألا ينفي ذلك الحاجة إلى وجود خالق؟

لما تبيّن في النّقطة السّابقة: إنّ وجودَ الطّاقة والمادّة ليستا بذاتهما بل بموجدٍ لهما، فلا ينفي ذلك وجود الخالق، بل بالعكس؛ يرسخه رسوخًا لا مثيل له.

إنّ الفهم التّقليدي، يخدع بعموميّة المعنى المستوى من فكرةِ أنّ وجود أزليٍّ ثانٍ يعني شرك بالأزليّ الأوّل، وهو تفكيرٌ صحيحٌ بدلالةٍ مُحدّدةٍ ومحدودة، فالقول بوجود أزليٍّ آخر قائم بذاته، يعني القول بتعدّد الآلهة؛ ولكن القول بوجود فعلٍ إلهيٍّ أزليٍّ، لا يزيد عن أنْ يُرسّخَ واحديّة الإله ووحدانيّتة.

بذا تكون الإجابة المتكاملة عن هذا السّؤال: (تنفي لا تنفي) نسبانويًّا.

النّقطة الرّابعة: إن انتفتِ الحاجةُ إلى وجود خالقٍ، ألا يتعارض مع التّضامر الّذي يفترض الجانب الدّيني القائم على وجود الخالق كوجهٍ معرفيٍّ يتكامل مع الوجهِ العلمي للحقيقة؟

في الحقيقة هذا سؤالٌ افتراضي بحت، والإجابة عنه تكون من جنسهِ، افتراضيّة بحتة أيضًا، وهي أنّ وصل العلم إلى القطع التّام واليَقيني بعدم وجود خالق فهذا سيغتزل عموميّة التّضامر وشموليّته وإطلاقه، ويقصّرها على حدودٍ ضيقة، نعم وجه التأكل مع الدّين سيتَلاشى؛ ولكنّ هناك أوجهًا أُخرى ستبقَى قائمة، كالعلاقة بين العلوم الطّبيعيّة والإنسانيّة، أو بين الابتكاراتِ والطّبيعة من جهةٍ وبين الابتكاراتِ والإنسان من جهةٍ أُخرى؛ ما سيُفقد هو مرتبتين من مراتب التّضامر الخّمسة وهما: المرتبة الإلهيّة ومرتبة النّصوص الدّينيّة، وما سيبقى مرتبة الطبيعة ومرتبة الانسان ومرتبة التكنولوجيا.

كما قلتُ: فهذا سؤالٌ افتراضي بحت؛ ولكن وجهة نظرنا الشّخصيّة فيه أنّه لا يزيد عن أن يكون ضمن مساق ما يُسمّى (لو امتناع لامتناع)، فمثلًا يُقال: لو قُتلَ الأب لما كان لدينا هذا الغلام السّيئ الطّباع، وواضح هُنا أنّ الغلام موجود، ومن ثمّ فإن الأب موجود، فلو الخاصّة بالأصل مُمتنعة لامتناع الفرع، وما لدينا الآن هو فرع مُمتنع فالأصل ممتنع أيضًا.

نخلص إلى الاجابة عن هذا السّؤال بالقول: (يتعارض لا يتعارض) نسبانويًّا، ومن ثمّ فإنّ المعرفة الّتي نُحاول الحصول عليها مُتكاملة من طريق النّظر التّضامري، صالحة ما دامت شروط صلاحها صالحة، والعكس صحيح.


* تفسير الرازي الكبير، مفاتيح الغيب (1/ 24).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *