حينَ يشهدُ المُثلّث أنَّ أضلاعه نقطة واحدة

اقتباس: “قيل: الفلسفة بنت الدين وأمّ العلم”.

إلى وقتٍ قريبٍ كان الظَّن بأنَّ العالم مكوّنٌ من أجزاءٍ تتمتع بالاستقلاليّة الذَّاتيّة، وأنّ الكلّ الظَّاهر للعيان ليس إلا نتيجة لتركيب تلك الأجزاء بنسبٍ معينّة، ولعلّ العقل العاديّ لا يستغرب هذا الأمر، وذلك لما ألفه من كثرة الأشياء المحيطة به، وتمايزها عن بعضها بعضًا بطريقة واضحة لا تحتاج إلى برهان، إذ لا يتردّد العقل عن الحكم بأنّ الخشب ليس كالحديد مثلًا، أو أنّ التراب ليس كالماء، أو أنّ النبات ليس كالحيوان… الخ. في عالم الأجسام الكبيرة يبدو التمايز واضحًا بين صور الأشياء، الأمر الَّذي يُغذّي العقل بمعلومة مفادها الفرق بين الأشياء، ذلك الفرق الَّذي يمتدّ معناه ليصل إلى أعمق مما يظهر للعيان، فيحكم العقل باستقلاليّة جميع الأشياء عن بعضها بعضًا.


على مستوى العقل العلميّ لم يختلف المنظار كثيرًا في هذه المسألة، فقد عمّت نظريّة العناصر المكوّنة لكلّ ما هو موجود في الطَّبيعة في الأوساط العلميّة كافّة، ومفادها أنَّ كلّ عنصر له استقلاليّته الذَّاتيَّة متمثلة بخواصّه الفيزيائيّة والكيمائيّة، فعنصر الرِّصاص ليس كعنصر الكالسيوم مثلا… وهكذا.

ثمّ هناك النَّظريّة الذَّريّة وهي أدقّ من نظريّة العناصر، هذه النظريّة تعمّقت في التركيب البنيويّ للعناصر ذاتها، وبالكيفيَّة نفسها تأكّد مفهوم الاستقلاليّة على المستوى الذريّ أيضًا، واستنادًا إلى هذه النَّظريّة وضع الجدول الدَّوري الَّذي تمَّ فيه تحديد البنية الَّتي تتركّب منها كلّ ذرّة، فمثلًا ذرّة الهدروجين تتكوّن من نواة وإلكترون واحد في مدارها، وذرّة الأوكسجين تتكوّن من نواة وإلكترونين يدوران في مدارها، وهكذا بقيّة الذرّات.


ومع اتفاق مستويات العقل بمستوييه العاديّ والعلميّ على استقلاليَّة مكوّنات الوجود، لم يتجرّأ كثيرون على محاولة نقض هذه المسألة والقول بخلافها، لكونها تعدّ في مصافّ المسلّمات العقليّة والعلميّة التي لا تحتاج إلى برهان لإثباتها.

ولكن ومع عصر ما يسمّى (الفيزياء الحديثة) التي تناولت نظريّة الكوانتم، تعرّض هذا المفهوم إلى زلزال حطّم تلك النظرة العلميّة.

عرض هنري ستاب -الفيزيائي الَّلامع- بوضوح كيف تضمّنت نظريّة الكوانتم التأكيد على الترابط المتداخل للطَّبيعة، حيث إنّ حركة أيّ جزء تسبّب حركة الأجزاء الأخرى الباقيّة بنمطيّة احتماليّة معيّنة، وقد ناقش هذه النظريّة في مؤتمر كوبنهاغن عام 1920 كل من بور وهايزنبرغ .

تقوم النَّظريّة على أساسِ العجز عن التَّنبؤ على نحو اليقين أينَ سيكون الجسيم دون الذّريّ في زمان معيّن؟ أو كيف ستحدثُ سلسلة عمليّات ذريّة؟ ويرجع ذلك العجز إلى وجود التداخل بين مرحلتي (التَّهيئةِ والقياس). على سبيل المثال، لو أنَّك شغّلت جهاز التلفاز، وكنت قد هيّأت نفسك لمشاهدة قناة معيّنة، رياضيّة مثلا، فما سيعرضه الجهاز بعد تشغيله هو آخر قناة كان يستقبل بثّها قبل إطفائه. هناك فصل تام بين ذاتك وما تريده، أو تتهيأ لمشاهدته وبين موضوع التلفاز وما سيعرضه. هذا هو الشَّائع والمعروف في المجالات العاديَّة، ووفق هذه الرُّؤية كان العلماء يتعاملون مع البنية الذَّريّة للمادة من باب (قياس الغائب على الحاضر)، أي كانوا يتصوّرون فصلاً تامًّا بين ذات العالِم وما يفكر فيه أو يتهيأ للقيام به، وبين الحالة الذَّرية الَّتي يهمّ بقياسها. ولكن ما تأكد فيما بعد خلاف ذلك تمامًا، فقد تبيّن للعلماء أنّ التفكير الذَّاتي (مرحلة التهيئة) تؤثِّرُ بطريقةٍ غير منطقيةٍ في حركة (الدَّوران أو الموقع) الجسيمات دون الذَّريّة، وكأنّك تقول في مثال التلفاز: إنّه يعرض القناة الَّتي تتهيَّأ لمشاهدتها تحديدًا، ومعنى هذا أنَّك حين تهمّ بتشغيله لا يمكن أنْ تتنبَّأ بالقناة الَّتي ستظهر على وجه اليقين، لأنَّه يفترض أنْ تكون مجرّدًا تمامًا من أدنى خاطر أو فكرة عن القناة التي تتوقع أنْ تراها لكي يشتغل على القناة الأخيرة التي اغلق عليها.

يقول هنري ستاب: “ليس الجزيء الأولي –العنصري– كيانًا أو وجودًا قائمًا على نحو استقلالي لا يقبل التّحليل. إنَّه في جوهره، مجموعة أو سلسلة تامّة لعلاقات تبلغ الأشياء الأخرى”. 

ويقول هايزنبرغ: “يبدو العالم بأنَّه نسيج معقّد للأحداث، تتناوب فيه الاتصالات مع كلِّ الأنواع أو تتدخّل أو تتحدّد، وتحدّد نتيجة لذلك بنية الكون”. 

وقال دافيد بوم: “يتأكَّد المرء من وجود كلّ غير منفصل يتنكّر للفكرة الكلاسيكية الَّتي تقسم العالم إلى أجزاءٍ قائمة على نحو انفصالي ومستقل… لذا، نقول إنَّ الاتصاليّة الكوانتية الَّلامنقسمة للكون كلّه هي الواقع الجوهري، وأنَّ الأجزاء الَّتي تسلك على نحو استقلاليّ نسبيًّا هي مجرّد أشكال خاصّة ومحتملة داخل الكل”. 

هكذا تنحلّ أو تتلاشى الأشياء الماديّة الصَّلبة، عند المستوى الذَّريّ، إلى أنماط احتماليّة لاتصالات متداخلة، وهكذا تلزمنا النَّظريّة الكوانتية ألَّا نشاهد الكون مجموعة من الأشياء الفيزيائيَّة فحسب بل نسيجًا مُعقدًّا من العلاقاتِ بين الأجزاء العديدة ككلّ متّحد.

* * * 

على هذا النَّحو؛ اختبر الحكماء العالم، وعبّر بعضهم عن اختبارهم هذا بكلماتٍ تتماثل مع كلمات الفيزيائيين الذريين… يقول تشوانغ تزو: “تنقطع صلتي بالجسد وأجزائه، تنبذ أعضائي الإدراكيّة الحسيّة، لهذا وأنا أترك شكلي المادي وأقول وداعاً لمعرفتي، أتوحّد مع المتحلّل العظيم، هذا ما أدعوه الجلوس ونسيان كلّ الأشياء “.

ويقول البوذي التنتري، لاما أناغريكا غوفيندا: “البوذيّ لا يؤمن بعالم خارجيّ يوجد مستقلاً أو بشكلٍ منفصل، يمكن أنْ يدخل نفسه في قواه الدّيناميّة. فالعالم الخارجيّ وعالمه الدَّاخلي هما بالنّسبة له ليسا سوى وجهين للقماشةِ نفسها، تكون فيها خيوط كلّ القوى وكلّ الأحداث، كلّ أشكال الوعي وكلّ موضوعاتها، منسوجة في شبكةٍ لا تنفصل من العلاقات الَّلامنتهية، المُتبادلة الاشتراط “.

ويقولُ آخر: “تشكل الأشياء كيانها وطبيعتها بالاتكال المتبادل، وليست هي في ذاتها شيئًا”. إنَّهم يذهبون أبعد من ذلك، وفي التَّأمل العميق يصلون إلى نقطة ينهار عندها التمييز بين الرَّاصد والمرصود تمامًا، حيث ينصهر الذَّات والموضوع في كل لا متمايز واحد. لهذا تقول الاوبانيشادات: “حيث توجد واحد يتذوَّق آخر . . . لكن حيث كلّ شيء أصبح هو ذاته، عندئذٍ من أين ومن سيرى الواحد؟ عندئذٍ من أين ومن سيشمّ الواحد؟ عندئذٍ من أين ومن سيتذوّق الواحد؟”.

وفي الفلسفة، اشتهر المذهب الَّذي يقول بـ (الواحديّة) كمذهب (الواحديّة الماديّة) وهو يقوم على أساس رد الوجود إلى المادّة وحدها، وقد قابله مذهب 
(الواحديَّة الرُّوحية) الذي يردّه إلى الرُّوح وحدها، وهناك (الواحديّة المثاليّة) التي تردّه إلى المُثل؛ وهي قوى تُدرك وتعلم ولا تمتّ إلى المادّة بسبب. 

وأيًّا تكن هذه الآراء فإنَّها تعبيرات للسُّؤال الفلسفي الأوَّل: من أين يأتي الكون وإلى أين يذهب؟ وقد كان هناك دائمًا ميل لدى الفلاسفة للقبول بمبدأ الواحديّة، ولكن الأساس الفلسفيّ ظهر بصورةٍ قاطعة أوَّل مرّة لدى اسبينوزا فقد رأى: أنّ المبدأ الأوَّل للكون لا بدَّ أنْ يكون مفردًا وهو وحدة واحدة متجانسة، لأنَّ الحقيقة المُطلقة لا تكون مطلقة ونهائيَّة إلّا أنْ تعتمد على نفسها دون أيّ شيء خارجها، وبما أنّها لا تعتمد على شيء خارجها فهي تحدّد نفسها بنفسها، فوجود حقيقتين نهائيتين يعني أنّ كلًّا منهما تحدّد الأخرى، وهذا يعني ضمنًا أنّ أيًّا منهما لم تعد تحدّد نفسها بنفسها بل بما هو خارج عنها، هذا هو الأساس الفلسفي للواحدية، منها انطلق اسبينوزا وعندها انتهى شلينغ الَّذي رأى بأنَّ هناك تطوّرًا لا شعوريًّا ينقلُ الإنسان في مرحلةٍ من مراحل الوعي من إدراك الكون إلى تغيّره، فالقوانين الموضوعيّة المستنبطة أساسًا من حركة الطَّبيعة والَّتي تنعكس لنا كمفاهيم تستمرّ في النَّشاط والفعل كيما يصبح العالم الَّذي ندركه كموضوع تصوريّ والعالم الَّذي ندركه في الحواس موضوعًا واحدًا في النِّهاية. أي أنّ شلينغ أقام رابطًا بين الهدف الذَّاتيّ والمصدر الموضوعيّ له، وهو رأي كان قد قال به أبو الفلاسفة سقراط (غاية العالم كامنة فيه).

إن كمون الغاية عند سقراط، أو العقل المطلق عند شلينغ، أو الواحديَّة عند اسبينوزا أو ما ذهب إليه غيرهم من الفلاسفة والحكماء، هو كما في نظر علماء الفيزياء ما دون الذَّريَّة، يقول هايزنبرغ: “العلم الطبيعي لا يصف ويشرح الطبيعة ببساطة، إنَّه جزء من التَّفاعل المتبادل بين الطبيعة وذواتنا”.

ومن هذا يتَّضح التَّشابك الشَّامل، والكليّ والكونيّ، على المراقب الإنسانيّ ووعيه، وبهذا ينتفي مبدأ (المراقبة) القائم على الفصل التَّام بين مفهوميّ (الذَّات والموضوع) أيّ (الرَّاصد والمرصود) في المستويات الدَّقيقة للمادّة كما يقول (هويلر) وتمّت الاستعاضة عنه بمبدأ (المشاركة)، حيث أعلن العلماء بعد تجارب نوويّة كثيرة نهاية التمييز بين المراقِب (الراصد) والمراقَب (المرصود) إذ ينصهر الفكر والموضوع في كلّ متّحد وغير متمايز.

إنّ مبدأ المشاركة هذا، الَّذي توصّل له العلماء بعد الَّتي والَّلتيا من التَّجارب الدوذرية في أكبر مفاعلات نوويّة عرفتها الإنسانيّة وهي الَّتي تسمَّى (المعجلات) كمعجل (سيرن) وهو أكبرها، كان صوفيَّة الإسلام يقولون به، ويؤكدِّون عليه، ضمن ما يعرف عندهم بمصطلح (التَّجربة الرُّوحية) ، ولعلّ من أوضح النُّصوص المُعاصرة لهذه التَّجربة ما قاله رئيس الطَّريقة الصُّوفيَّة الكسنزانية الشَّيخ محمد الكسنزان من أن “التَّجربة الرُّوحية -عند أهل الطَّريقة- هي تجربةٌ روحيّة لا تخضع إلى العقل المنطقي، وفيها تتّحد الذَّات والموضوع، وتقوم فيها البوادر والَّلوائح والَّلوامع مقام التّصوّرات والأحكام والقضايا في المنطق العقليّ، إذ المعرفة فيها معاشه لا متأملة”. فما يذهب إليهِ الشَّيخ الكسنزان، هو أنّ من يُمارس التَّجربة الرُّوحيّة تتكشَّف له حقيقة الوحدة بين الذَّات والموضوع، بطريقة تنفتح له فيها مدارك أخرى غير المدارك الحسّية المعروفة تسمّى (الحواس القلبيّة أو الباطنة) وبواسطتها يدرك ما تنطوي عليه مصطلحات مثل (البوادر والَّلوائح والَّلوامع) من معانٍ وعلومٍ ومعارفَ وكشوف ويقينيات.. يقول الشَّيخ: «فيغمر صاحبها –أي صاحب الوحدة بين الذات والموضوع- شعور عارم بقوّة تضطرم فيه وتغمره كفيض من النُّور الباهر، أو يغوص فيها كالأمواج العميقة، ويبدو له أيضًا أنّ قوىً عالية قد غزته وشاعت في كيانه الروحيّ، وتحرّر في أفكاره وخواطره وهيجان لطاقات كامنة تغور في أعماق نفسه”. وهذا توصيف لحالة الصوفيّ في مرحلة الانتقال من الحالة الاعتياديّة الَّتي تكون فيها ذاته محتجبة عن الموضوع إلى الحالة الَّتي تتفتح فيها حواسه الباطنة على الموضوع الخارجيّ فيشهد الوحدة، وهي حالة تبدو لأوَّل وهلة متّسمة بالفوران والعنفوان كما الشَّيخ الكسنزان، وشيئًا فشيئًا يألفها العارف ويتآلف معها فتصبح حالته الاعتياديَّة هي الانفتاح المُتواصل بين ذاته والموضوع الخارجي عنه، فيطّلع على الموضوع كما يطّلع على ذاته بشكل تفاعليّ.

                                                            * * *

ولاستيضاح هذا (التَّفاعل المتبادل) كما يصفه الفيزيائي هايزنبرغ ، على المستوى الصوفيّ، أي المستوى الَّذي لا يعتمد في فهمه وأحكامه على الصُّورة الظاهريّة ولا على مستوى التَّجربة المعمليّة، بل على مستوى التَّجربة الرُّوحيّة القائمة على استلهام المعلومات من مستويّات (فوق ماديّة) يمكننا أن نطلق عليها هنا من باب التقريب (الجانب الرُّوحيّ للأشياء) ، فإنَّ مفهوم هذه الأجزاء الكونيّة الظَّاهرة كبيرة كانت أم ذريّة، أطلق عليها مصطلح (الكثرة الوجوديَّة)، وقد أقرّ متحققو الصُّوفيَّة بها، إلا أنَّهم لم يقفوا على القول بها بشكلها المطلق المتعارف عليه.

يرى الصُّوفية أنَّ الكثرة أظهر من أن تنكر، كما أنَّها أثبت من جعلها وهمًا لا مستند حقيقيًّا لها كما ذهب بعض الفلاسفة، إلّا أنَّها لا تدل على الاستقلاليَّة الذَّاتيَّة لمكوِّنات الكون كما ظنّه العقل العادي، أو تقاصرت –إلى وقت قريب- عن الوصول إليه التَّجارب العلميّة، بل إنَّ هذه الكثرة الكاثرة المكوّنة للوجود متّصلة مع بعضها بعضًا بصلات مُعيّنة من نمط خاص لا يشعر بها أو يتوصل إليها أي أحد بسهولة، فهي تحتاجُ إلى تخصص على المستوى المعرفي الصُّوفي.

إنَّ الإقرار بتلك الصلة الخاصة بين مكونات الوجود يصل في نهاية الأمر إلى القول بمفهوم (الوحدة الوجودية) وهي هنا تعني أن الوجود واحد في ذاته، وأنّ الاستقلاليَّة المشهودة في مكوّناته هي استقلاليّة نسبيّة وليست مُطلقة، ومثلها في ذلك مثل الخلايا في جسم الإنسان، فإنَّها وإنْ كانت تتمتّع باستقلاليّة من نوعٍ مُعين في أجزاء الجسم المختلفة إلا أنَّها مترابطة مع بعضها بعضًا بشبكة عصبيّة تجعل منها وكأنَّها كلّ في كلّ، إذ يٌؤثِّر أي جزء منها على الكلّ كما أنّ الكلّ يُؤثِّر في الأجزاء المتفرّقة.

لا يمكن وصف خلايا جسم الكائن الحي بأنَّها تملك استقلاليَّة ذاتيَّة، ولا يمكن وصفها بأنَّها غير مستقلة، وعلى هذا فهي كثيرة غير مفارقة للوحدة، وكذا وحدة غير نافية للكثرة.

بهذا المنظار ينظر الصُّوفيَّة إلى الكثرة في العالم، بمعنى أنَّها لا تتنافى مع الوحدة الوجوديَّة الَّتي يقولون بها، وهي كثرة توصف بأنَّها معقولة، أي يستوعبها العقل، ومشهودة، أي تدركها الحواس ويؤكدّها الواقع، إلَّ أنَّ مسألة ثبوتها الوجودي، أي استقلاليتها الذَّاتية المُطلقة خط أحمر يقفون عند حده، يقول ابن عربي: “الكثرة معقولة بلا شك، ولكن هل لها وجود عيني أم لا ؟ فيه نظر”.

إذن الكثرة معقولة ومشهودة، ولكنَّها ليست موجودة، كما يفهم الصُّوفيَّة، ومعنى غير موجودة هو أنَّها ليست كثرة ذاتيَّة بل كثرة نسبيَّة، أي أنَّ معنى غير موجودة لا يدلُّ على عدمها بل يدلُّ على عدم إطلاق المفهوم الذَّاتي لها.

مفهوم الموجود عند متحققي الصُّوفية يدلُّ على الاستقلال الذَّاتي، ولمَّا كان لا مستقلّ ذاتيًّا عندهم إلّا الله تعالى، قالوا: (لا موجود إلّا الله)، ولو قالوا بأنَّ الكثرة موجودة لأثبتوا كثرة الإلهة وهو محال في العقيدة الدِّينية، كما أنّهم لو أنكروا وجود الكثرة جملةً وتفصيلًا، لأنكروا أمرًا ثابتًا بالضَّرورة، ولهذا قالوا إنَّ الكثرة موجودة عقلاً وشهودًا، أي يمكن تصوّرها ويمكن لمسها، إلّا أنَّ وجودها ليس ذاتيًّا بل نسبيًّا، واستنادًا إلى هذا المفهوم تُعدّ غير موجودة وجودًا حقيقيًّا بل وجودًا إضافيًّا إذا صحّ التَّعبير.

إنَّ القول بهذه النَّظريّة، وهي الكثرة النِّسبيَّة الَّتي ترجع في أصلها إلى وحدة ذاتيّة غير متأتٍّ من مجرّد إلهام قلبي، غير متأسّس بما يبرّره من النَّاحية الدِّينيّة أو العقليّة، بل هو كشفٌ صوفي نابع من مستويات معرفيَّة لها أصولها الدِّينيّة ومستنداتها الخاصَّة عند أهل الطريقة الَّتي لا تتنافى مع المسلمات العقليّة.

يرتبط تفسير هذه النظريّة (رجوع الكثرة إلى الوحدة) أي عدم استقلال مكوّنات الكون عن بعضها بعضًا استقلالًا ذاتيًّا، إلى فهمهم الديني لمدلولات الأسماء الإلهية، يقول ابن عربي: “… وصاحب التَّحقيق يرى الكثرة في الواحد، كما يعلم أنَّ مدلول الأسماء الإلهية، وإن اختلفت حقائقها وكثرت، أنّها عين واحدة. فتكون في التَّجلّي كثرة مشهودة في عين واحدة”. فالكثرة المشهودة، سببها الكثرة المعقولة دينيًّا، وهي كثرة الأسماء والصّفات الإلهيّة، فهي سبب كثرة الخلق، ولمّا كانت كثرة الأسماء الإلهيّة لا تدلّ على كثرة المسمّى بل على الوحدة الإلهيّة، فإنَّ الكثرة في الخلق تجسيد عن منشأها، أي أنّها ترجع إلى وحدة ذاتيّة، وهي وحدة يسمّيها العارفون (وحدة عين الممكن) أي الأصل الواحد للممكنات، وبتعبير آخر: الذات الواحدة للمكنات. إذن عند الصُّوفيَّة: كل من يقول بالكثرة وحدها، فهو محجوب، لأنَّه لا يرى سوى وجه واحد من الحقيقة. وكذلك كل من يقول بالوحدة، دون الكثرة، لا يرى سوى الوجه الآخر من الحقيقة. أمّا العارف بالأمر، على ما هو عليه، فيشاهد الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة. أو وحدة الكثرة وكثرة الوحدة. ويمكن القول: الوحدة فقط، من حيث أنَّ الكثرة لا وجود لها في ذاتها، ولا من ذاتها، يقول ابن عربي: “الشخص وإن كان واحدًا، فلا تقل له ظل واحد، ولا صورة واحدة، في المرء. فعلى عدد ما يقابله من الأنوار، يظهر للشَّخص ظلال، وعلى عدد المرأى، تظهر له صور. فهو واحد، من حيث ذاته. متكثر، من حيث تجلّيه في الصور، أو ظللا في الأنوار. فهي المتعدّدة، لا هو وليست الصور غيره”، ويقول: “فمن وقف مع الكثرة، كان مع العالم، ومع الأسماء الإلهيّة، وأسماء العالم. ومن وقف مع الأحدية، كان مع الحق، من حيث ذاته الغنية عن العالمين”. فالوحدة التي لا كثرة فيها، محال “والعالم منفصل عن الحق بحدّه، وحقيقته. فهو منفصل متصل، من عين واحدة. فإنَّه لا يتكثّر في عينه، وإن تكثّرت أحكامه فإنَّها نسب وإضافات عدميّة معلومة. فخرج [العالم] على صورة حق. فما صدر عن الواحد إلّا واحد، وهو عين الممكن. وما صدرت الكثرة أعني أحكامه، إلّا من الكثرة وهي الأحكام المنسوبة إلى الحق، المعبّر عنها بالأسماء والصِّفات. فمن نظر العالم من حيث عينه، قال: بأحديته. ومن نظره من حيث أحكامه ونسبه، قال بالكثرة في عين واحدة. وكذلك نظره في الحق فهو الواحد الكثير…”. وبهذا أجاب الصُّوفيّة عن المعضلة الفلسفيّة القائلة (لا يصدر عن الواحد إلّا واحد) الَّتي طالما حيّرت العقول “… إلّا ترى أن الحكماء قد قالوا: لا يوجد عند الواحد إلّا واحد، والعالم كثير ولا يوجد إلّا عن كثير، وليست الكثرة إلّا الأسماء الإلهيّة، فهو واحد احدية الكثرة… ثمَّ أنَّ الحكماء مع قولهم في الواحد الصَّادر عن الواحد، لّما رأوا منه صدور الكثرة عنه، وقد قالوا فيه أنَّه واحد في صدوره، اضطرهم إلى أن يعتبروا في هذا الواحد، وجوها متعدِّدة عنه. بهذه الوجوه صدرت الكثرة، فنسبة الوجوه لهذا الواحد الصَّادر، نسبة الأسماء الإلهيَّة إلى الله …”. ومن هنا وضع العارفون مصطلح (الكثير الواحد) وأطلقت على الله (الحق) وعلى الكون (الخلق)، فهي تنطبق على الحق، إذا نظرنا إلى وحدة ذاته، من خلال كثرة أسمائه وصفاته. وتنطبق على الخلق، إذا نظرنا إلى وحدة عينه من خلال كثرة صوره. وقد شبّهوا النِّسبة بين العين الوجوديَّة الواحدة، والصُّور المتكثّرة المتغايرة، بالنِّسبة بين النَّفس الواحدة الشَّخصيّة، وبدنها المتكثّر بصور أعضائه. “… فمعلوم أنَّ زيداً حقيقة واحدة شخصيَّة، وأنَّ يده ليست صورة رجله، ولا رأسه، ولا عينه، ولا حاجبه، فهو الكثير الواحد: الكثير بالصُّور، الواحد بالعين. وكالإنسان: واحد بالعين بلا شك، ولا نشك أنَّ عمرًا ما هو زيد، ولا خالد، ولا جعفر، وأنَّ أشخاص هذه العين الواحدة، لا تتناهى وجودًا. فهو وإن كان واحدًا بالعين، فهو كثير بالصُّورة والأشخاص”. مما تقدم تبيّن أنَّ النَّظرة الصوفية تخالف النَّظرة في الحياة العاديَّة الَّتي لا يكون فيها النَّاس مدركين لوحدة كلِّ الأشياء، إذ العالم مقسّم في العقل العادي إلى موضوعات وأحداث منفصلة “هذا التَّقسيم هو، بالطَّبع، مفيد وضروري للتَّلاؤم مع بيئتنا اليوميّة، لكنّه ليس سمة أساسيَّة للواقع. إنَّه تجريد يستنبطه ذهننا التمييزي والتصنيفي. فالاعتقاد بأنَّ مفاهيمنا المجردة (للأشياء) والأحداث المنفصلة هي حقائق الطَّبيعة هو وهم” كما يقول الفيزيائي فيرتجوف كابرا. 

بقيت نظرة الصُّوفيَّة في ترابط الوجود مع بعضه بعضًا وعدم تجزئته إلى وحدات مستقلّة ردحًا كبيرًا من الزَّمن تجاوز العشرة قرون، وكان من الممكن أن يبقى على هذا الحال لقرون عديدة أخرى، لولا التقدّم العلميّ المطرد الَّذي كسر حاجز الفيزياء الذريّة، وتعمّق حتَّى وصل إلى مستوى علمي آخر، هو مستوى الفيزياء ما دون الذَّريَّة، وفيها ظهرت نظريَّات علميّة ونتائجَ تجريبيَّة تثبتُ بشكلٍ قاطع ما استلهمه الصُّوفيّة من خلال سلوكهم الرُّوحيّ، وتقف معهم في صفٍّ واحدٍ أمام النَّظرة العادية والنَّظريات العلميَّة الكلاسيكيَّة.

توصّل الفيزيائيون في هذا المجال إلى ما اصطلح عليه الصوفية (الكثير الواحد) فقد كشفت نظريّة الكم عن الترابط الجوهري للكون، وأظهرت على لسان علمائها أنَّه حتَّى لو فكّك العالم إلى أصغر الوحدات فإنَّها لا تكون قائمة بشكل مستقل، يقول فيرتجوف كابرا: “يُقاد المرء إلى مفهوم جديد للكلّية التامّة الَّتي تنكر الفكرة الكلاسيكيّة لإمكانيَّة تحليل العالم إلى أجزاء قائمة بشكلٍ منفصل ومستقل. لقد عكسنا المفهوم الكلاسيكي المعتاد بأنّ (الأجزاء الأوليّة) المستقلّة للعالم هي الواقع الأساسيّ، وأنّ الأنظمة المختلفة هي مجرّد أشكال وتراتيب محتملة محدّدة لهذه الأجزاء. بالأحرى، نقول إنَّ التَّرابط الكمومي الَّذي لا ينفصل للكون كله هو الواقع الأساسي، وأنَّ الأجزاء الَّتي تسلك سلوكًا مستقلاًّ نسبيًّا هي مجرَّد أشكال معيّنة ومحتملة ضمن هذا الكل”، ويقول مؤكّدًا: “تجبرنا نظريّة الكمّ على رؤية الكون ليس كمجموعة من الأجسام الفيزيائيّة، بل بالأحرى كشبكة معقدة من العلاقات بين مختلف أجزاء كل موحد (لهذا يبدو العالم كنسيج معقد من الأحداث، تتناوب فيه روابط من أنواعٍ مختلفة أو تتراكب أو تتفاعل وبذلك تحدّد نسيج الكل)”. بمعنى أنَّ الجسيمات أو الأمواج المكوّنة للمادة ليست كيانات منفصلة عن بعضها بعضًا مهما كانت مظاهرها في مستوى الحجوم الكبيرة مختلفًا أو متناقضًا كالماء والتراب مثلًا، بل هي مرتبطة على نحو لا ينفك عن بيئتها، وإنَّ خواصها لا يمكن فهمها إلّا في ضوء تفاعلها مع بقية العالم.

سبق أن عبّر الفيزيائي والفيلسوف النِّمساوي أرنست ماخ (1838–1916) عن هذا الترابط، أو إنْ شئت قل عن هذا التَّفاعل في مبدأ اشتهر باسمه (مبدأ ماخ) وهو: (إنّ القصور الذَّاتيّ لأيّ قطعة ماديّة يُعزى إلى التفاعل بين هذه القطعة الماديّة وبقية الكون. وأنَّ الجسم المعزول سيكون قصوره الذَّاتي صفر)، أي أنَّ أي حركة لقطعة ماديّة في الكون، في أيّ مكان، تعدّ مرتبطة بكلِّ المادة في الكون، وكأنَّ المجرَّات والنّجوم على علم بحركتها. لذا فإنّ “الوحدة الأساسيَّة للكون تظهر ليس فقط في عالم الصَّغائر بل أيضًا في عالم الكبائر جدًّا، وهي حقيقة يعترف بها في الفيزياء الفلكيّة الحديثة والكوزمولوجيا (علم الكونيات) على حدّ تعبير الفلكي فرد هويل”. ولقد استعملت صورة الشبكة الكونية المترابطة الَّتي تنشأ من الفيزياء الذَّريّة الحديثة على نطاق واسع في الشرق لنقل الخبرة الصوفية بالطبيعة. 

                                                              * * *

وعلى هذا فإنَّ الحديث عن مفهوم الوحدة الكونيَّة هذه يوازي مفهوم الوحدة الوجوديَّة الَّتي يقول بها متحقِّقو الصُّوفيَّة، وقد توصَّل لهذه الحقيقة كلٌّ من الحكماء والفلاسفة والفيزيائيين والصُّوفية على حدِّ سواء، على الرَّغم من اختلاف المنطلقات المعرفيّة الَّتي اعتمد عليها كلّ منهم، إذ قد اعتمد الفلاسفة على النَّظر الفكريّ بينما اعتمد الفيزيائيون على الملاحظة والتَّجربة المعمليّة، فيما اعتمد الصُّوفيّة على التَّجربة الرُّوحيّة القائمة على التخلّي والتحلّي، وفيما أثمرت الاختبارات الفيزيائيّة النَّظريات العلميّة أثمرت التجلّيات على قلوب الصُّوفيّة المعارف الَّلدنية، ومعنى هذا أنَّ كلا المناهج الثَّلاث قد وصلت إلى الحقائق ذاتها من أبوابٍ متوازية أو متقابلة أو متباينة. 


المراجع:

-ندرة اليازجي– دراسات في فلسفة المادة والروح -فيرتجوف كابرا– التصوّف الشَّرقي والفيزياء الحديثة

-المعجم الفلسفي– إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة– مصطلح الواحدية

-محمد جواد مغنية–مذاهب فلسفية وقاموس مصطلحات

-مقال الواحدية في تاريخ الفلسفة–حسام مطلق– موقع كتابات على النت -الشَّيخ محمد

الكسنزان– الطريقة العلية القادريّة الكسنزانية

–الشَّيخ ابن عربي–الفتوحات المكيّة

–الشَّيخ ابن عربي–فصوص الحكم

– الشَّيخ ابن عربي–كتاب التراجم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *