قراءة كتاب (التصميم العظيم) تضامريا 

فقرة (1)
جاء في الكتاب: “في العلم الحديث، تتم صياغة قوانين الطبيعة رياضيا. وهي تكون إما مضبوطة او تقريبية، لكن يجب ملاحظة أنها متماسكة بلا استثناء، أو على الاقل في ظل مجموعة شروط منصوص عليها. فعلى سبيل المثال، نحن نعرف أن قوانين نيوتن يجب تعديلها في حالة تحرك الاجسام بسرعات تقترب من سرعة الضوء، الا انها لا تزال سائدة، على الأقل بتقريب جيد، في شروط الحياة اليومية، حيث تقل جدا السرعات التي نقابلها عن سرعة الضوء”.

أقول: 
(1) القانون الفيزيائي صيغة يضعها الانسان كمحاولة للمطابقة مع الواقع، وقد تكون تلك الصياغة مطابقة وقد تكون تقريبية، وفي المثال المعطى دليل جلي على هذا، فما كان يُظن أنها مطابقة بصفة عامة (قوانين نيوتن)، تبين لاحقا أنها مطابقة بصفة مخصوصة.
(2) معنى ان تلك القوانين مخصوصة او صالحة ضمن شروط ابتدائية معينة، لا ينفي اطلاقها، اي صلاحيتها في كل زمان ومكان ولكن ضمن تلك الشروط.
بتعبير آخر: أننا نمسك هنا بصفتين لا متماثلتين: الاطلاق والتخصيص معا.
ونحن وكما قد يعلم المتابع لنا نطلق على مثل هذه الحالة مصطلح (الاطلاق النسبانوي)، اي الذي يصلح لكل زمان ومكان ضمن شروط ابتدائية محددة.
(3) تستدعي هذه القضية الفيزيائية، قضية دينية نظيرة لها وهي قضية : صلاحية آيات القرآن الكريم لكل زمان ومكان.
والسؤال هنا: هل ينبغي فَهم النص القرآني على أنه (مطلق نسبانويا) ايضا؟
بمعنى: أنه اذا تغيرت الشروط الابتدائية التي تلازمت مع زمن التنزيل، هل ينبغي أعادة فهم النص وبما يتناسب ومستجدات تلك الشروط (تأويله)، بحيث يبقى روح النص حاضرا وان تغير الفهم أم لا، يجب ان يبقى الفهم التاريخي صامدا في كل زمان ومكان؟
الاجابة وفقا للتضامر هي: النص كالواقع، مطلق في ذاته، لكنه نسبانوي وفقا لنسبانوية الانسان وفهمه، ولذا فكما يتم التعامل مع القانون الفيزيائي على انه مطلق ضمن شروط ابتدائية محددة، فإن ذلك يستلزم فَهم النص القرآني على انه مطلق ضمن شروط ابتدائية محددة ايضا. فإن تغيرت الشروط ينبغي ان يتغير الفهم*.
(4) اقتران القانون الفيزيائي بشروط ابتدائية ضرورة علمية، وهذا نظير ضرورة اقتران القراءة التضامرية بدلالة محددة، فإن تغيرت الشروط في الفيزياء او الدلالة في التضامر، تغيرت الصيغة نتائجها.

فقرة (2)

(1) في الفصل الثالث من الكتاب يناقش ستيفن هوكينغ -وزميله- رؤيته حول ماهية الواقع، فيطرح وجهة نظرته التي اطلق عليها (الواقعية المعتمدة على النموذج) ومفادها ان النظرية الفيزيائية عن العالم ما هي الا نموذج رياضي يتقوى بالرصد او الملاحظة لتوفير اطار محدد لتفسير العالم.
بتعبير ابسط: قطعية التفسير الفيزيائي ليست بمطلقة بل هي مشروطة ضمن صيغة معينة، وهي صالحة في حدود ما تستطيع ان تفسره من ظواهر في العالم او تتنبئ به.
وهذا يعني: أنه لا يمنع من وجود اكثر من نموذج مختلفات لتفسير العالم، إن كان يتوافق مع ما يرصد وما يمكن ان يتنبأ به.
(2) ودعوني اقتبس منه النص الآتي: “بحسب الواقعية المعتمدة على النموذج، لا جدوى من السؤال عمّا اذا كان النموذج حقيقيا أم لا إن كان يتوافق مع الملاحظة. فلو كان هناك نموذجين يتوافق كل منهما مع الملاحظة…فلن يستطيع أحد القول بأن أحد النموذجين حقيقي أكثر من الآخر. ويمكن للمرء ان يستخدم أيّا من النموذجين الذي يراه أكثر ملائمة للحالة موضع الاعتبار”.
(3) تأسيسا على هذه النظرة يرى هويكنغ ان سؤالا مثل: إذا كان العالم مخلوقا منذ زمن محدد، فماذا حدث قبل ذلك؟ يمكن ان تكون الاجابة عنه كما ذهب القديس اوغسطين الفيلسوف المسيحي: بأن الزمن خاصية للعالم الذي خلقه الله، فالزمن لم يكن موجودا قبل خلق الخلق. كما يمكن الاجابة عن هذاالسؤال بالاعتماد على نظرية الانفجار العظيم، ووفقا له تتحطم قوانين تطور الكون عند تلك اللحظة من الانفجار، وعندها ليس لهذا السؤال من معنى.
ويعقب هويكنغ على هذه المقاربة بين نموذج الفلسفة الدينية وبين النموذج العلمي -وهو تعقيب مهم- بالقول: “لا يزال غير ممكن قول أيا من النموذجين أكثر واقعية من الآخر”.
اذن: ما لدينا هنا هو انفتاح كبير على التعددية بدلالاتها، وهذا يتوافق الى حد بعيد مع مفهوم النسبانوية في التضامر، مع ان النسبانوية التضامرية تقتضي بعض الامور التي تميزها عن هذه الواقعية الهويكنغية.
(4) والآن، دعونا نأخذ ملاحظة مهمة اشار إليها هويكنغ في سياق طرحه لرؤيته هذه وهي قضية عدم تمكن العلماء من رؤية الالكترونات على حد تعبيره: “اليوم يؤمن كل علماء الفيزياء بوجود الالكترونات، حتى لو لم يستطيعوا رؤيتها… لكن يمكننا رؤية التأثيرات التي تنتجها”، وذات الأمر يقال بشأن الكواركات التي تتكون منها الالكترونات.
طيب.. من ماذا تتكون الإلكترونات؟ سيقال: شحنات طاقة، وبالنتيجة هي مستوى من مستويات المادة. وهذا وفق النموذج العلمي.
السؤال الآن: لو جاء أحدهم وقال: وفقا للنموذج الديني يمكن ان تكون تلك الإكترونات او الكواركات او ما هو أدق منها عبارة من مجالات روحية بحتة، ليمكن رؤية تأثيرها دون رؤيتها. فهل ينطبق عليها منطق الواقعية المعتمدة على النموذج؟
بصيغة أخرى: هل سيصح القول: “لا يزال غير ممكن قول أيا من النموذجين أكثر واقعية من الآخر” ؟

فقرة (3)

(1) إذا كان هوكينغ قد حدثنا في الفصل الثالث عن إمكانية فهم الواقع بأكثر من نموذج، أي ضرب حتمية الاقتصار على نموذج وحيد فريد لفهم الواقع عرض الحائط، فإنه وفي الفصل الرابع يستثمر نظرية إمكانية تعدد التواريخ التي نظّر لها فاينمان في تعميق منظوره.
وخلاصة هذه النظرية ان الجسيم الذري “ليس لديه تاريخ واحد بل كل تاريخ ممكن (عدد غير محدد من التواريخ)، ولكل منه احتماليته الذاتية، وتؤثر ملاحظاتنا لوضعه الحالي في ماضيه”.
الفكرة هنا أنك اذا اجريت تجربة في العالم المنظور الذي نتعايش معه في حياتنا الاعتيادية، فإن نتائج تلك التجربة ثابته ولا تتغير اذا تمت في نفس الظروف، بصرف النظر عن موافقتك لها او مخالفتك اياها، سواء اراقبت التجربة ام لم تراقبها، هي تسير في مسار وحيد ذي ماض وحاضر ومستقبل واحد. هذا ما نلاحظة ونألفه ونتعايش معه بصورة طبيعية. ولكن في مستوى الجسيمات الذرية، فكما نصف في التضامر، الامر لا يماثل هذا الواقع جملة وتفصيلا. فقد اثبتت التجارب كما يذكر هويكنغ، انك اذا راقبت تجربة فانك تؤثر في مسارها، بمعنى ان التجربة لا تتكرر في المسار نفسه. لا تسلك الإلكترونات نفس المسارات ولا تتصرف بنفس الطريقة دائما، لأنها تتأثر بمراقبة الملاحظ لها. هذا يعني اننا اذا راقبنا شيئا فأننا نغير من تاريخه، وتغييرنا لتاريخه، يعني ان هناك في الاصل عدد غير محدد من الاحتمالات الممكنة لأي ظاهرة، وإن كنا لا نلاحظ هذا في مستوى الاجسام الكبيرة.
(2) الآن لنتأمل التساؤل الآتي:
الاجسام تتكون من جسميات
الاجسام ذات مسار تاريخي واحد
الجسيمات ذات مسارات تاريخية متعددة (لا واحد)
فهل جملة (الاجسام/ الجسيمات) معا، ذات مسار واحد أم متعدد؟
تضامريا الاجابة واضحة وهي: (واحد لا واحد – نسبانويا – بدلالة المستوى).
(3) في سياق آخر: يطرح المنظور الديني تصور نظير يسمى بـ(القدر والقضاء) او (المكتوب).
وفقا لهذا المنظور، فإن القدر هو جميع الاحتمالات الممكنة لحياة الكائن الحي -وغير الحي- أي جميع انواع المسارات، وكل مسار له شروطه الابتدائية ونتائجه الحتمية. وهذا يسمى (التقدير او المكتوب) وقد نلمحه في الآية (إن كل شيء خلقناه بقدر). اي الذي سبق تقديره وكتابته.
ثم تأتي مرحلة الاختيار او الحركة بلا اختيار للكائنات، فإن تحرك الكائن في هذا المسار فإن ما يترتب على حركته هو النتائج المرتبطة به سلفا. وإن تحرك في المسار الاخر ترتب ما كتب ضمن المسار الأخر، وهكذا مع اي تغيير يوجد نتائج حتمية تسمى (قضاء).
(4) بالعودة الى هويكنغ سنرى انه سيوسع دائرة قوله بالتعددية لتمتد الى ما وراء تعددية نماذج الواقع وتعددية التواريخ في مستوى الجسيمات ليحاول قرائتها في مستوى الكون نفسه.

فقرة (4)

هل توصل العلماء لنظرية كل شيء؟ حاول هويكنغ الاجابة عن هذا السؤال في الفصل الخامس، وكانت الاجابة شبه صادمة إن لم تكن كذلك حقا. بداية فلنتعرف بتبسيط على نظرية كل شيء:
(1) يعتقد العلماء ان الطبيعة تتكون من أربعة قوى لا خامس لها -بإمكان المرء التحفظ على هذا الجزم لاعتبارات فلسفية- وتلك القوى: الجاذبية، الكهرومغناطيسية، النووية الضعيفة، النووية القوية. لكل قوة من هذه القوى قانون خاص بها، وكانت الفكرة ايجاد قانون واحد لهذه القوى الاربعة .
(2) لماذا يريدون قانون موحد؟ كما نعلم ان الكهرومغناطيسية مكونة من قوتين هما: الكهربائية والمغناطيسية، وكان لكل منهما قانون منفصل، ولكن بعد ملاحظة ان الكهرباء يمكن ان تنتج مجالا مغناطيسا، وبالعكس، تناهى الى ذهن العلماء إمكانية ان تكون هاتان القوتين كوجهين لقوة واحد، فاتجهت الانظار لايجاد هذا القانون وتم الحصول عليه، فتم توحيدهما في الكهرومغناطيسة والني احدثت ثورة في الإلكترونيات، للامكانية التي وفرها القانون الموحد لهما من انجاز مركب لفوائدهما.
بنفس الطريقة أراد العلماء ان يكتشفوا القانون الذي يجمع القوى الاربعة، لأنهم يعتقدون انهم بوصولهم الى ذلك القانون سيتمكنون من فك شفرة الطبيعة برمتها، ومن هنا اطلق على النظرية التي يراد ان تجمع هم جميعا اسم (نظرية كل شيء). توصل العلماء بالفعل الى جمع ثلاثة قوى وهي: الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة والقوية، ولكن الجاذبية بقيت عصية على الجمع بينهما لاعتبارات فيزيائية معقدة.
(3) لكي يتجاوز العلماء هذه الاشكالية اشتغلوا على نظرية سميت (نظرية الوتر) وفيها لا يتم تصّور الجسيمات الذرية على انها نقط بل اشكال من الذبذبة ذات بعد واحد. تقتضي هذه النظرية القول بوجود احد عشر بعدا في الطبيعة وليس أربعة فقط. ولأنها تتكون من هذه الابعاد الكثيرة، فإن حساباتها تعطي نتائج متوزاية كثيرة، تم اختزال ما يتناسب وطبيعة كوننا، فوجدوا انها خمسة نظريات مختلفة عن بعضها البعض. هذا ما شكّل صدمة للعلماء.. خمس نظريات مختلفة تصلح لتوحيد الجاذبية مع القوى الثلاثة الاخرى، ومن ثم لتفسير الكون؟ كيف؟ كانوا يريدون واحدة فقط!
(4) من هنا جاء اعتراف العلماء على لسان هويكنغ بالقول: “قد يكون توقع الفيزيائيين التقليدي بوجود نظرية واحدة للطبيعة امرا يتعذر الدفاع عنه، ولن توجد صيغة واحدة”.
وإثر هذه الصدمة، انتقل ذهنية العلماء للبديل المتوفر الذي فرض نفسه عليهم، وهو لا يماثل ما توقعوا، وهذا البديل هو: “لكي نصف الكون ربما يكون علينا ان نوظف نظريات مختلفة في الحالات المختلفة”.
وهكذا ظهرت نظرية (ام M) الجامعة للنظريات الخمسة جمعية لا توحيدية، بل تداخلية تراكبية تكاملية.
لعل ابسط صورة لتوضح تكاملية هذه النظريات الخمس في المثال الآتي: هي تشبة الخريطة، وكما هو معروف، لا يستطيع احد اظهار كل سطح الارض على خريطة واحدة، ولعمل ذلك ينبغي ان نستخدم مجموعة من الخرائط، يغطي كل منها منطقة محددة، وعند جمعها معا تعطينا التفاصيل الكاملة.
وبتوصيف آخر: قد تغطي كل خريطة جانبا من الواقع، فواحدة عن الطقس وواحدة عن التضاريس، وواحدة عن طبيعة المكونات الجيولوجية، وهكذا. بالمثل تعمل نظرية (M) في جمعيتها للاذرع الخمسة وفق هذا التصور التشابكي.
هنا.. يعتقد هويكنغ انه لا مجال لقبول هذا الفرض الا اذا أخذنا بالواقعية المعتمدة على النموذج، لماذا؟
لأنه وحسب هويكنغ: “طبقا للواقعية المعتمدة على النموذج، فإن هذا سيكون مقبولا طالما تتوافق النظريات الخمسة في تنبؤاتها عندما تتداخل أو عندما يتم تطبيق كل منها”.
(5) اغرب ما في هذه النظرية التي لا تزال مجرد حسابات نظرية والتي يتبناها هويكنغ ويدافع عنها، انها تسمح بوجود 10 مرفوعة للاس (500) كون مختلف، ولكل منها قوانينه الخاصة، وواحدة منها فقط يخص الكون الذي نعرفه نحن!
(6) طيب.. في سياق نظير.. لدينا العشرات من النصوص وبخاصة عند المتصوفة تحكي عن شهودهم لاشكال لا تحصى من عوالم مختلفة وأكوان متعددة لا تشبه عالمنا! حتى أن بعضهم يستل تعددية العوالم من ثاني آية في سورة الفاتحة وهي: (الحمد لله رب العالمين) عادا كلمة عالمين جمع عوالم، ومتبصرا بأنها تشير الى تلك التعددية اللانهائية.
السؤال الذي قد يطرحه المتأمل منهم هو: لم قد تكون الحسابات الرياضية النظرية البحتة معتبرة علميا، بينما تُعد مثل هذه الشهادات الصوفية-كما يصفها اصحابها- ليست أكثر من اساطير او خرافات؟
قد تكون الاجابة المستعجلة هي: ان الرياضيات يمكن توقع التحقق منها عن طريق التجارب، بينما لا يمكن ذلك مع الادعاءات الاسطورية.
وحينها قد لا نعدم من يرد: وقد لا يمكن التحقق منها تجريبيا وتبقى مجرد ادعات نظرية، وحينها تكون في كل من تلك النظريات وما يوصف بأنه اسطورة متعادلة في كفتي ميزان واحد.
(7) الى ذلك، قد يُرَدّ ايضا بالقول: فلنتأمل فيما قاله هويكنغ، لقد قال:
“طبقا للواقعية المعتمدة على النموذج، فإن هذا سيكون مقبولا طالما تتوافق النظريات الخمسة في تنبؤاتها عندما تتداخل أو عندما يتم تطبيق كل منها”.
صحيح انه تحدث عن تلك النظريات، لكن نموذجه الفكري يصلح تعميمه على جميع النماذج، ما دامت تلك النماذج تتوافق في تنبؤاتها، وتؤتي الثمار ذاتها.
(8) السؤال: الى أي مدى يمكن ان يكون هذا التوظيف لنموذج هويكنغ الفكري مقبولا، إن على الصعيد المنطقي او على الصعيد العملي؟.
والسؤال الآخر: الى أي مدى يمكن للمؤمن المعاصر ان يستفيد من هكذااطروحات لانضاج منظور يقوم على فهم تعددي للنص الديني؟ أي منظور قادر على تصور ان النص الديني أكثر من طبقة وحيدة؟

فقرة (5)

(1) مع الفصل السادس تزداد الإثارة، إذ فيه يسعى هويكنغ ليكشف عن جوهر نظريته التي تريد ان تتكفل في الاجابة عن التساؤل: هل يحتاج العلم للنموذج الديني للاجابة عن كيفية خلق الكون أم أنه قادر على الاجابة عن هذا السؤال دونما حاجة لافتراض وجود خالق؟ (كما فعل لابلاس من قبل مع نابليون). وما هو متجذر في تفكير هويكنغ هو القضية الآتية:
(2) إن كان للكون بداية في الزمن، فهذا يستتبع السؤال عمّا قبل هذه البداية، وهكذا وبالنتيجة يستدعي الابقاء على فرضية وجود الخالق. ولكن إن لم يكن للكون بداية في الزمن، فهذا يعني وفقا لمنطق هويكنغ عدم الحاجة للابقاء على فرضية وجود الخالق التي يقول بها النموذج الديني.
(3) تتكون نظرية هويكنغ من الفرضيات الآتية:
* بما ان الكون نشأ من نقطة صغيرة جدا، تسمى حجم بلانك، وهي جزء من مليار ترليون ترليون من السينتمتر، بحسب الاستدلالات العلمية، المدعّمة بالرصد وبعض الاختبارات، فإن قوانين الكم هي ما ينطبق عليها وليس النسبية العامة التي تتعامل مع الاحجام الكونية الهائلة. وبصيغة مختصرة تعد بداية الكون أو نشأته أو لحظة خلقه -سمه ما شئت- من الناحية العلمية حدثا كموميا.
* وبما أن الحركة في ميكانيكا الكم تخضع للمسارات المتعددة، أو التواريخ البديلة، كما اشرنا لها في منشورات سابقة، فإن النتيجة تكون بأن الكون يمكن ان ينطلق تلقائيا بكل الطرق المحتملة والتي لا تعد ولا تحصى، واغلب هذه الطرق تخص أكوان أخرى كما يقول. بعضها تشبه كوننا وبعضها مختلف تماما.
بتعبير آخر: ان الافتراض العادي في علم الكون هو ان الكون له تاريخ واحد محدد، وبدلا من ذلك فإن المرء ووفقا للكم يمكن ان يجد تواريخ مختلفة. ومعنى وجود تواريخ كثيرة لبداية الكون، أن كوننا ليست له بداية محددة في الزمان بل احتمالية لا اكثر، وهذه الاحتمالية تفرضها تقلبات الكم، يعني تفرضها الطبيعة المادية نفسها.
هو يصيغ هذه الفكرة بطريقة أخرى حين يرى بأن لحظة التكوين للكون، لم يكن هناك بعد للزمان بل كانت اربعة ابعاد مكانية، ثم لاحقا تكّون الزمن. وفي هذا يقول: “إن ادراك ان الزمن يتصرف مثل المكان يقدم بديلا جديدا، فهو يزيل الاعتراض القديم بأن للكون بداية، لكنه يعني ايضا ان بداية الكون كانت محكومة بقوانين العلم وان الكون ليس بحاجة للانطلاق بمعرفة إله ما”.
يختم هويكنغ فصله هذا متسائلا: اذا كان الكون نتيجة طبيعية لتقلبات الكم (الجسيم ما دون الذري) فهل “كان مصمما بواسطة خالق خيّر؟ أم ان العلم يقدّم تفسيرا آخر؟”.
(4) طيب: ماذا إن قيل لهويكنغ: نفي البداية لا يشترط نفي المٌبدئ.
كانت هناك بدايات غير محدودة؟ فليكن.
ظهر الكون كاحتمال ممكن من بين تلك الاحتمالات؟ فليكن. كل هذا يشرح كيفية التخليق، ولا يثبت أن ذلك لم يتم بفعل فاعل او بتصمبم مصمم أو بخلق خالق.
وماذا إن قيل له: أنت ترى بأن احتمال ان يكون القمر مصنوعا من الجبنة (وهو خبر سار للفئران) في أكوان أخرى “يبدو كخيال علمي، لكنه ليس كذلك”، في حين يستعصي عليك تقبل فكرة أن يكون هناك احتمال يكون فيه كل هذا التصنيع بفعل صانع او مصمم، فلماذا؟
حسنا.. دعونا نرى في الفصل السابع هل يعطي اجابات شافية عن مثل هذه التساؤلات، أم يسير باندفاع شديد تحت وطأة القصور الذاتي المعرفي الذي نحكي عنه دائما في التضامر؟ 

فقرة (6)

(1) في الفصل السابع يستعرض هوينكنغ الدقة البالغة في الكون والتي لولاها لما كان للحياة ان تظهر، ومن ذلك مثلا:
“تبين الحسابات ان تغييرا ضئيلا بقيمة 0.5% من شدة القوة النووية القوية أو 4% من القوة الكهربائية، كفيلة بتدمير كل الكاربون وكل الاوكسجين في كافة النجوم، ومن ثم تدمر إمكانية الحياة التي نعرفها”.
* “لو كانت القوةالنووية الضعيفة اضعف في الكون المبكر فان الهديروجين كان ستحول الى هيليوم وبالتالي ان تكون هناك نجوم طبيعية، واما السوبرنوفا فلن تقذف بالعناصر الثقيلة التي تحتاجها الكواكب لنشأة الحياة”.
* “اذا كانت البروتونات أثقل بنسبة 0.2% فسوف تتحلل الى نيتورونات ولن تكون الذرات مستقرة”.
* ” اذا كانت محصلة كتلة االكواركات التي تصنع البروتون قد تغيرت قليلا بنسبة 10%، سيكون هناك عدد قليل من نويات الذرات المستقرة التي صنعنا منها”.
* “يشمل الضبط الدقيق التزامن الاكثر اثارة للاعجاب ما يطلق عليه الثابت الكوني في معادلات اينشتاين.. والحسابات تكشف انه الشيء المؤكد هو انه اذا كانت قيمة الثابت الكوني أكبر بكثير مما هي عليه، فإن كوننا سيفجر نفسه لاجزاء من قبل تكوين المجرات، ومرة اخرى ستكون الحياة التي نعرفها مستحيلة”.
* وغير ذلك الكثير مما ذكره وهو يلخصه بالقول: “معظم الثوابت الاساسية في نظرياتنا تبدو مضبوطة بدقة، بمعنى انها لو عدلت بمقادير بسيطة، فإن الكون سيختلف كيفيا، وسيكون في حالات عديدة غير ملائم لتطور الحياة”.
(2) إزاء هذه الحسابات العلمية يقف هويكنغ متسائلا: ما الذي يمكن عمله بتلك التوافقات المتزامنة؟ لن يكون تفسيرا سهلا، وستكون له تطبيقات فيزيائية وفلسفية أعمق. ثم يقول هويكنغ: “يبدو ان كوننا وقوانينه كليهما مصممان على يد خيّاط ماهر لدعم وجودنا، مما يترك مجالا ضئيلا لتعديلها. ليس من اسهل شرح ذلك، وهو ما يطرح السؤال الطبيعي: لماذا يكون الكون بهذه الطريقة؟”
وقبل ان يتفاءل المؤمن كثيرا يسارع هويكنغ للقول: “سيحب الكثير من الناس استخدام تلك المصادفات كدليل على عمل الله”.
ما هو البديل الذي يقدمه هويكنغ؟ الاجابة البديلة هي: بما ان هناك عدد غير محدد من الاكوان التي تحتملها التقلبات الكمومية، فإن من المنطقي ان يكون واحدا منها وبالمصادفة متضمن لهذه الدقة في الحسابات، والتي قادت لنشئة الحياة وتطورها.. المصادفة وليس شيئا آخر..
ما يوجه هويكنغ الانظار إليه هو: لا تنظر الى دقة الحسابات في الكون لتستنتج من هذا التصميم العظيم ان هناك مصمم أعظم، ولكن عليك ان تنظر الى الاصل الذي انتج هذه الحسابات وهي الاحتمالية المنتجة لكل انواع الحسابات ومن ضمنها بالضرورة كوننا.
(3) في الحقيقة، نجد في الكتاب ان هوكنغ اندفع في صياغة هذه النظرية على هذه الشاكلة كرد فعل تجاه منظور ديني احادي المسار، يفترض ان الله خلق العالم بصورة مباشرة كما نراه، لماذا؟ لأن ذلك المنظور يعتقد بأن الخالق الحكيم الكامل لا يخلق شيئا عبثاـ وسيكون من العبث خلق شيء ينتج عدد لا نهائي من الاكوان، بهدف ان يظهر واحد منها “مصادفة” مستوفي لشروط الحياة. الخالق الحكيم ليس بمحتاج لذلك، الخالق العظيم او المصمم العظيم يخلق ما يريد بصورة مباشرة (ولو مسببة). ولكل هذا، فقد رأى هويكنغ ان ايجاد حل رياضياتي علمي يتيح امكانية تعددية المسارات لإمكانية خلق الكون كفيل بتفنيد أي منظور ديني او فلسفي ميتافيزيقي.
(4) طيب..
* ماذا إن جادل البعض بأن الايمان لا يتعارض مع تلك التعددية الكونية؟
* ماذا إن قيل: ان الله هو الذي خلق تلك التقلبات الكمومية في العدم؟
* ماذا إن قيل: إن ذلك لا يتعارض مع الكمال، وان خلق اكوان لا متناهية بهدف ان يكون واحد من بينها صالح لنشأة الحياة ليس هذا بعبث لسبب بسيط أن اعظم من ان يقاس على منظور البشر القاصر لمعنى الكمال؟ في الحقيقة يمكن المجادلة على اللاعبثية في كوننا هذا، فكون بهذا الحجم المهوول فيه كوكب واحد معرف عليه الحياة، يستدعي القول بالعبثية لكل تلك المجرات بما فيها من نجوم وكواكب، ولكن إن ترسخ لدى اهل الايمان ان كل تلك المليارات من المجرات والنجوم والكواكب ليست بعبث، فلا اشكال في تصور عدد ممثال من الاكوان ولا تكون عبث ايضا.
* ماذا إن قيل: ما ادراك ان تلك الاكوان ليس فيها حياة تتناسب مع قوانينها الفيزيائية؟ وهل اختبرنا قوانين فيزيائية أخرى لنعرف فيما إذا كانت صالحة لانتاج الحياة من عدم ذلك؟!
ماذا إن قيل لهويكنغ: إن كان الزعم بأن الارض مركز الكون لانها مختارة لسبب ديني وتبين لاحقا أنها ليست كذلك، وان الضبط في كوننا لا ينفي وجود اكوان غير مضبوطة، ليس بدليل على بطلان الايمان بحد ذاته لأنه بطريقة ما يستوعب هذه النظريات وسواها ، بل يدل على بطلان بعض دعوات أهل الايمان القاصرة؟
مرة أخرى:ما الذي قد يقوله هويكنغ في الرد على من لا يرى هناك من تعارض بين تعدد الاكوان وكون ذلك التعدد بتصميم مصمم أعظم؟
(5) السؤال الفلسفي الذي اريد توجييه الآن هو: إن كانت فلسفة هويكنغ تقوم على الواقعية المتعمدة على النموذج، وإن كان يرى بأن النماذج حتى ولو اختلفت فأن كل منها صحيح في حدوده اذا كانت تعطي النتائج ذاتها، فهل سيستطيع تقبل نموذج ديني لا يتعارض طرحه مع نظريته العلمية؟
علينا أن نقول: إن كان عالمنا موضوعيا بحتا، متسقا مع نفسه، فما يفترض به ان لا يرفض ذلك النموذج على أقل تقدير ولو لم يؤمن به. وإن كان عالما شبه موضوعي، شبه متناقض مع نفسه، رازحا تحت قصور ذاتي معرفي مسبق، فسوف يصرّ على ان النموذج العلمي لوحده هو المقبول، وان النموذج الديني ولو تماثل مع النموذج العلمي فهو مرفوض جملة وتفصيلا ولو في مجاله. ولعل ما نلمحه هنا أنه سيكون مناقضا لاطروحته، أو ان اطروحته ستكون احادية المسار رغم انها تطالب بالتعددية.

فقرة (7):
(1) جاء الفصل الثامن والاخير من هذا الكتاب كتتويج لمجهود هوكينغ، وقد كنا ننتظر ان نحصل على كافة الاجابات بشأن الاسئلة العميقة والخطيرة التي لم يفتأ هوكينغ يرددها مثل:
كيف يتصرف الكون؟ 
ما حقيقة الواقع؟ 
من أين أتى كل هذا؟ 
لماذا يوجد شيء ما بدلا من لا شيء؟
لماذا نحن موجودون؟
لماذا هذه المجموعة من القوانين وليست مجموعة أخرى؟
هل الكون بحاجة الى خالق؟
وقد كان قد اشعل روح التشويق في مطلع كتابه حين اطلق تصريحة الناري المثير قائلا:
“كانت تلك الاسئلة التقليدية للفلسفة، لكن الفلسفة ماتت ولم تحافظ على صمودها أمام تطورات العلم الحديث، وخصوصا في مجال الفيزياء”.
واستكمالا لفكرته جادل هويكنغ قائلا: “قد يزعم بعضهم أنّ إجابة تلك الاسئلة هي أنّ هناك إله قد اختار خلق الكون بهذه الطريقة. ومن المعقول أن نسأل من أو ما الذي خلق الكون، لكن الإجابة هي الإله، في حينها سينقلب السؤال وحسب ليكون ومن خلق الله… ونحن نزعم أنه من الممكن الاجابة على تلك الاسئلة بوضوح في مجال العلم من دون استحضار قوى غيبية”.
وها قد أتت النهاية المرتقبة، وحان وقت قطاف الثمرة التي ننتظر، ونحن على استعداد لتلقفها، فماذا كانت؟
(2) النتيجة كانت هي الآتي:
“لأن هناك قانونا مثل الجاذبية، فإن الكون يمكنه أن يخلق نفسه من لاشيء.. والخلق التلقائي هو السبب في أن هناك شيئا بدلال من اللاشيء”!!؟
إنها لاجابة مثيرة حقا، لأن قانون الجاذبية موجود فأن الكون خلق نفسه تلقائيا؟
لكن مهلا، هذا يستدعي عددا من التساؤلات!
هل وجد قانون الجاذبية قبل خلق الكون لنفسه تلقائيا أم معه أم بعده؟
إن كان موجودا قبل خلق الكون، فهذا يحملنا ان نوجه لهويكنغ الاعتراض الذي وجهه بشأن الإله، إذ للمرء ان يسأله، وما الذي استلزم قانون الجاذبية على ان يخلق نفسه؟
وإن كان قانون الجاذبية قد وجد مع خلق الكون، فمن المنطقي القول: ليس هو إذن سبب خلق الكون، بل هو نتيجة لمسبب أسبق له. وإن كان قد وجد بعد خلق الكون، فهل من المنطق العلمي ان نفترض ان النتيجة منتجة لمقدمتها؟
(3) في الحقيقة، هناك الكثير من الفلاسفة والمفكرين يشاطرنا خيبة الامل تجاه ما كان متوقع ان نحصل عليه من أفكار منطقية متسقة، ولكنا اكتشفنا ان هناك ثغرات ليس من الهين غض الطرف عنها. وكما مبين في النموذج المرفق.
(4) بالنسبة لنا، تعد هذه الاطروحة نموذج ممتاز لاثبات أن محاولة احتكار المعرفة من قبل أي من العلم أو الفلسفة أو الدين بصفة معزولة او متفردة ستكون نموذج صريح في التصريح عن القصور الذاتي لذلك الاحتكار.
لا تزال نظريتنا تنبئ بأن التناظر بين هذه النماذج الثلاثة كفيل بأن يسهم بسد مثل تلك الثغرات، شريطة ان يتنازل كل منها عن نظرته الاحادية ويقر بنسبانويته التي تحتاج الى التكامل مع الآخر.


* من منشورات الفيسبوك بتاريخ ١٩ أكتوبر ٢٠١٥

* لتحميل النسخة المترجمة من كتاب (التصميم العظيم) لستيفن هوكينغ وليونارد مولدينوو ، اضغط هنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *