قراءة في تفنيدية بوبر

على النّظريّة أن تكون خاضعةً لإمكانيّة الدّحض أو التّفنيد؛ وإلّا فلن تكون نظريّةً علميّةً، رُبّما ستكون شبه علميّة، أو ما قبل علميّة، أو ميتافيزيقيّة، أو مُسمّى آخر، سوى العلميّة. هذه خُلاصة الرّؤيّة الّتي تقدّم بها الفيلسوف الاأمريكي (كارل بوبر)، وقد أوجزت في مقال بعنوان ‹‹الحدود بين العلم واللاعلم››*.

ولمن لا يعلم: ما الفرق أو الجديد الّذي أتى به (بوبر)؟ أقول:

مِنَ المعروف أنّ النّظريّة تُسمّى (علميّة): إذا كانت هناك إمكانيّة لإثباتها تجريبيًّا أو اختبارها أو قياسها بوجهٍ عمليّ. ومِنَ المعروفِ أيضًا، أنّه كلّما كثُرت التّطبيقات والتّجارب المؤيّدة لها، كان ذلك أدعى لقوّةِ النّظريّةِ ورسوخها. فالمذهب المعروف هو: اللّجوء إلى أدلّة الاثبات أو التّحقّق للنّظرية.

ما ذهب إليه (بوبر)، أنّ أدلّة الاثبات أو التّحقّق لا تكفي لإثباتِ نظريّةٍ ما، بل لا بُدّ من أن تكون قابلة للتّفنيد والدّحض؛ لأنّها إنْ لم تكن خاضعة لهذا المبدأ، فستكون مُتعالية أو ميتافيزيقيّة وليست علميّة.

لنضرب مثالًا يسيرًا لهذا الفرق: يأتي أحدهم ويضعُ تعميمًا نظريًّا يقول فيه: إنّ جميع الكائنات الحيّة تُحرّكُ فكّها الأسفل عند الأكل. وَفْقًا لمبدأ التّحقيق والاثبات، يحتاجُ صاحب هذه النظريّة إلى أنْ يذكر أنواع الحيوانات الّتي تفعل ذلك، وكلّما ذكرَ كائنًا جديدًا كان ذلك إثباتًا قويًّا لنظريّته.

اعتراض (بوبر)، أنّه مهما فكّرَ ذلك الرّجل في إثباتاتٍ فسيحصل عليها؛ ولكنّه لو فكّرَ فيما يُمكن أن يَدحض نظريّته، وقال: هل تُوجد حيوانات لا تُحرّك فكّها الأسفل عند الأكل؟ ثُمّ أخذ يبحث في ذلك، سيجد أنّ التّمساح –مثلًا- يدحض تعميمه، وهنا عليه تقييد التّعميم الّذي أتى به.

في الحقيقةِ، العُمق في منظور (بوبر) يتمحور حول المضمون الآتي: لو أنّ نظريّة ذلك الرّجل لا تحتمل أنْ يُسأل السّؤال المفنّد لها، فلن تكون نظريّةً علميّة.

 حسنًا.. وجهة نظري أن (بوبر)أصاب بالقوّة الّتي أخطأ فيها، وبتعبيرٍ آخر: إنّ إصابة (بوبر) في منظورهِ هذا: هي إصابة نسبويّة وليست مُطلقة، كما سأُبيّن الآن:

أمّا إصابته، فالبحث في التّفنيد يُقوي النّظرية فعلًا، ويضعها في الحيّز المناسب لها، ويحجم إطلاقها، ويُقولبها في النّسبويّة الّتي تُناسبها؛ ولكن ما آخذهُ عليه بشأنها: هو تَعميمه لمبدأ التّفنيد، بحيث يبدو لنا وكأنّه كافيًا لوحده ولا حاجة مَعه لمبدأ التّحقيق، فهذا وقوع في التّعميم الّذي أنكره على القائلين بمبدأ التّحقيق.

الأصوبُ عندي: أنّ النّظريّة تحتاج إلى مبدأ التّحقيق حاجتها إلى التّفنيد، ولا غنى عنهما معًا، وإن أتت بهما؛ فإنّها تكون أقوى وأقوى، ولا ينبغي الاقتصار على أحدهما قد ما بالإمكان فعل ذلك.

في الحقيقةِ، أنا ما زلتُ أُعبّر عن مضمون هذه الفكرة في اصطلاحاتي بالقول: ينبغي الانتباه لـ (الشّيء ولا مثيله) وأخذهما معًا، وهو ما يُمكن التّعبير عنه بصيغٍ عديدةٍ مُتكافئةٍ ومنها:

* إنْ شئت قُلْ: التّحقيق ولا مثيله.

*وإنْ شئت قُلْ: التّفنيد ولا مثيله.

* وإنْ شئت قُلْ: (تحقيق لا تحقيق).

* وإنْ شئت قُلْ: (تفنيد لا تفنيد).

لا فرق بين هذه الصّيغ، إذ نُثبت فيها الوجه ولا مثيله، وليس كما يتوهم بعضهم (مَعذورون لمحدوديّة فهمهم وأحاديتهُ، فضلًا عن تقصيرهم في القراءةِ العميقة)، من أنّ هذه الصّيغ ينفي بعضها بعضًا، بل نقول: إنّ الحقيقة كما تحتاجُ إلى الموجب تحتاجُ إلى السّالب، وقولنا: (موجب لا موجب) هو إثبات للموجب وللسّالب ولجميع الاحتمالات الممكنة الأخرى كما نُكرّر ذلك دائمًا.

الحقُّ أنّني حين اطّلعتُ على إضافة (بوبر) آراءه بهذا الشّأن، وبصرف النّظر عن إعجابي بحذقها وفطنتها؛ فإنّ سُؤالًا راودني على عجلٍ، وهو:

هَلِ المعيار الّذي وضعه (كارل بوبر)، كانت الغاية منه التّمييز بين العلم واللاعلم حقًّا، أم بين ما يراه (بوبر) علميًّا ولا علميًّا؟ أي: هل هو معيار موضوعي بحت، أم أنّ الذّاتية تقفُ وراء تلك الحالة الموضوعيّة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *