للحقيقةِ أكثر من نافذة

قلّة من العلماءِ والفلاسفة وحتّى رجال الدّين يرون أنّ ثلاثيّة: العلم والدّين والفلسفة، هي بمنزلةِ ثلاثة أغصانِ لشجرةٍ واحدة، (شجرة المعرفة)؛ وذلك لأنّ هؤلاء القلّة تمكّنوا من تجاوز المنظور الضّيق، وانفتحت عقولهم لرؤية الصّورة الشّاملة.

تتكوّن تلك الصّورة من الفكرة القائلة: إنّ لكلٍ من العلم والدّين والفلسفة خصوصيّته الذّاتيّة من حيثُ المنطلقات والوسائل والأهداف والغايات؛ ولكنّي أرى أنّ تلك الخصوصيّات ليست بالضّرورة تعني التّناقض مع بعضها بعضًا، إلّا عند من يقول بالتّناقض ويصرّ عليه وكأنّه حقيقة مُطلقة غير قابلة للنّقاش.

إنّني أُشبّهُ الاختلاف بينَ أوجهِ المعرفة الثّلاث باختلاف الأعراق البشريّة، صحيحٌ أنّ لكلِّ عرق خصائصه الذّاتية، من حيثُ اللّغة والتّاريخ والحضارة ونمط العيش والتّقاليد وكلّ شيءٍ تقريبًا؛ إلّا أنّ هذه الاختلافات بين البشر لا تعني بالضّرورة أنّهم مُتناقضون. صحيحٌ أنّ تاريخ الشّعوب يُخبرنا عن وجود مثل هذا الصّراع التّناقضي، وأنّ مُمارساتِ ما يُسمى (التّطهير العرقي أو الإبادة الجماعيّة) عديدة؛ إلّا أنّ تاريخ الشّعوب نفسه يُخبرنا أنّ هناك أعراقًا تصالحتْ مع اختلافاتها، وتجاوزت تلك الفَوارق إلى ما ورائها، فبات التّمييز -أيّ تمييز- بالفعل أو القول أو أي وسيلة أخرى، جريمة يُحاسب عليها القانون الدّولي والمحلّي لتلك المجتمعات؛ ما يعني: أنّ الاختلاف لا يقود بالضّرورة إلى التّهدّم، بل الأحرى؛ أنّ ذلك يُمكن أنْ يُؤدّي إلى التّكامل. معنى التّكامل: أنْ يسعى كلّ طرف إلى تكميل ذاته ممّا هو موجود عند غيره، فإذا اجتمع شخصان بلُغتان: فكلّ منهما يُمكن أنْ تتضاف له اللّغة، وقد تنبثق لغة ثالثة مُشتركة من ذينك الفرعين الّذين كانا مختلفين.

حين ننظر بهذا المنظار إلى لعلاقة بين الدّين والعلم مثلًا، يكون تصوّر مثل هذا التّكامل أكثر صعوبة وتعقيدًا، وهذا صحيح إلى حدٍّ ما؛ ولكن عندما نستخدم المنهج الفلسفي المناسب، فإنّ ما نظنّه مُعقّدًا أو بعيدًا يغدو بسيطًا أو قريبَا. وقد وضعنا لذلك نظريّة خاصّة أطلقنا عليها اسم (نظريّة التّضامر)، وهي تعني: أنّ ما نراه مُتخالفًا يستر (يُضمر) في داخله مُقوّمات التّكامل؛ وذلك وَفْقَ شروط وضوابط منهجيّة حدّدتها النّظريّة.  

لتوضيح مَضمون هذه الفكرة، نضربُ المثال الآتي: يقولُ الدّين بإمكانيّة حصول المعجزات، وما المعجزة؟ هي حدثٌ تكوينيٌّ سريعٌ جدُّا، لا أكثر ولا أقل، كأن يَشفى كسر في العظم -قد يحتاج شفائه التّام إلى أكثر من شهر- في غضون ثوانٍ مَعدودة، فهذا حدث إعجازي، وميزة الإعجاز هنا هي: السّرعة غير التّقليديّة. ويُعزى ذلك في الدّين إلى تدخّل القدرة الإلهيّة لإحداثِ هذا الفارق الزّمني.

حسنًا؛ من النّاحية العلميّة هذا مُجرّد هراء.. لماذا؟ لأنّ هكذا حدث لم يُرصَد، ولا يُمكن رصده وإخضاعه للتّجربة والاختبار والقياس، ومن ثمّ لا يُمكن عدّه جُزءًا من الحقيقة. فضلًا عن ذلك، قد يعترض مُعترض بأنّ مُجرّد تدخّل قوّة مُفارقة للمادّة الطّبيعيّة يقودُ إلى كسرِ قانونِ حفظِ الطّاقة، وهذا بحدّ ذاته كافٍ لإنكار وجود مثل هذه الحوادث الخارقة.

في الواقع، هذا النّوع من التّفكير يرتكزُ على منطقٍ مقبول؛ ولكن ليس بوجهٍ مطلق، بل إلى حدٍّ ما فحسْب، وذلك لأنّ عدم رؤية الشّيء لا يدلّ على عدم وجودهِ سواء في الحاضر أم التّاريخ، نعم، يدلُّ على أنّه غير موجودٍ الآن؛ ولكنّه لا ينطبق على كلّ مكانٍ أو زمان. وفيما يتعلّق بخرقِ قانون حفظ الطّاقة، فإنّه مع الافتراض ابتداء بوجود إله يُمكن أنْ يتدخّل لإحداث المعجزة وإضافته لمزيد من الطّاقة في الكون، فإنّ هذا الإله وبالطّريقة الّتي يُضيف فيها الطّاقة يُسرّب أو يفني أو يعدم كميّة مُناسبة من الطّاقة من مكان ما آخر في الكون، فيبقى هذا القانون صامدًا، هذا إنْ كان هو بهذه الدّقة المتناهية والحتميّة الرّاسخة.

إلى ذلك فإنّ التّكامل الّذي يطرحه التّضامر لا شأن له بقضيّة إثبات المعجزاتِ من النّاحية العلميّة، فهذا مدخلٌ تقليديٌّ أعتقدُ بأنّ لا طائل من ورائه؛ لأنّه لا يقود إلّا إلى ترسيخ إمكانيّة النّقض والنّقض المضاد. أمّا ما يذهبُ إليه التّضامر فهو أمر آخر تمامًا، وهو يتلخّص في أنّه ما دام الدّين يقول بوجود المعجزات الإلهيّة في تاريخه وهي تتم بطريقةٍ روحيّةٍ؛ فإنّ ذلك يضمر الدّلالة على إمكانيّة أنْ يكتشف العلم نظيرًا لتلك المعجزات في مستقبلهِ وهي ستتم بتقنياتٍ تكنوحيويّة.

فإنْ عُدنا إلى المثال السّابق، مثال شفاء كسر العظم في ثوان، فإنّنا نتوقّع أنّ العلمَ سيصل إلى اكتشاف التقنيات اللّازمة لفعل ذلك، ربّما بالاعتمادِ على التقانة النّانوية، أو تقانة كمُوميّة مُتقدّمة، أو ربّما بتقنياتٍ جديدةٍ ستُكتشف مستقبلًا. المهمُّ في الأمر أنّ هذا ما سيصل إليه العلم، ونحن نتوقّعه فلسفيًّا بالاستناد إلى ما نعرفه من النّصوص الدّينيّة.

إنّ نظريّة التّضامر تُثبتُ وجود الفجوة بين العلمِ والدّين، فما في العلم يبقى في العلم، وما في الدّين يبقى في الدّين، فلا نُفسّر العلم بالدّين، ولا نُفسّر الدّين بالعلم؛ ولكن -وفي الوقتِ نفسه- هي تُثبتُ إمكانيّة ردم تلك الفجوة بطريقةٍ غير مباشرةٍ أيضًا، حين نفهم العلم بالعلم من طريقِ فهمنا للدّين، ويُمكننا أنْ نفهم الدّين بالدّين من طريق فهمنا للعلم. وبشأن هذا الأخير، نذكر على سبيل المثال: إنّ العلم -وتحديدًا فيما يتعلّق بميكانيكا الكمّ- يُعطي منظورًا احتماليًّا لا حتميًّا لفهم الواقع في مُستوى مُحدّد هو ما دون الذّري، وهذا يُضمر الدّلالة على أنّ فهمَ النّصوص الدّينيّة وَفْقَ مُستوى مُعيّن، يجبُ أنْ تُفهم فهمًا إحتماليُّا، أي: ليسَ حتميًّا كما هو سائد في التّفاسير الدّينية عادّة. هنا نُلاحظ مرّة أخرى، أنّنا باستعانتنا بالعلم تَمكّنَا من أنْ نفهمَ الدّين بالدّين، لا بالعلم.  

هذا نموذجٌ من طريقتنا لتفهم العلاقة المضمرة بين العلم والدّين، ووظيفتنا هي: الاجتهاد في الكشف عنها بالاستنادِ إلى المنهجيّة المقترحة، وهذا فيما لو أردنا أنْ نكسرَ جدارَ الجليدِ بين المعارف اللّامُتماثلة.   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *