هل نحنُ نعيشُ في عالمٍ واقعي؟

سألني أحد الأصدقاء([1]قائلًا: ‹‹لديّ سؤالٌ فلسفيٌّ بعض الشّيء، هل نحنُ نعيشُ في عالم واقعي؟ ››.

قبل أن أُجيب عن هذا السّؤال، مَا التّفسير الصّحيح لمصطلح (واقع)؟ 

وهل هنالك تفسيرٌ مُطلقٌ، أم هي مسألة نسبانويّة؟

كانت إجابتي مُسهَبة بعض الشّيء هذه المرّة -وأعتذرُ عن ذلك- وهي كما يأتي: 

الأخ العزيز عبد الرحمن: سُؤالك يا صديقي ليس فلسفيًّا بعض الشّيء بل هو فلسفيٌّ بامتياز، وإذا كان كذلك، فاسمحْ لي أن أجيبك انطلاقًا من أرضيّةِ (التّضامر) الّذي أقولُ به، وكما هو مُبيّن في أدناه:

  1. لا يوجد جواب وحيد لهذا السّؤال إلّا عند من يتوهّم امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكارها بطريقةٍ تُصادر أيّ احتمالٍ بديل من الآخر.
  2. لكن إجمالًا يُمكن تُقسيم مصادر الإجابات إلى ثلاثة أقسام قد أُسمّيها نماذج معرفيّة وهي: دينيّة وفلسفيّة وعلميّة، ومن هذه الثّلاثة أقسام تتولّد فروع مُتشاركة فيما بينها، مثل: علميّة فلسفيّة، أو دينيّة فلسفيّة، دينيّة علميّة.
  3. إذا انطلق الشّخص من النّموذج العلمي البحت، سيقول لك على سبيل المثال: الواقع هو كلّ ما يقع تحتَ الحواس ويُمكن أن يخضعَ للقياسِ ولا شيء آخر غير ذلك مُطلقًا. أمَّا إذا انطلق من النّموذج الدّيني سيقولُ لك: لا، هذا الواقع الّذي نراهُ مُجرّد جزء لا يتجزأ من الحقيقةِ الأوسع، وهي: وجود عالم آخر الآن، وهو مُغيّب عن حواسنا ولا يخضع لمنطق القياس العلمي، بل هو شيء يُعرَف بالإيمان ويسلّم له فينا، ذلك الشّيء الخفي الموجود في داخلنا الّذي لا نعرف عن حقيقتهِ شيئًا كثيرًا، هو المسمّى بالرّوح، وقد يُضيف: ومن ينكر ذلك فهو… (بلا بلا بلا).

أمّا النّموذج الفلسفي البحت فقد انشطر فيه الفلاسفة بوجهٍ عام إلى شطرين كبيرين: مادّي ومثالي، المادّي قال بشيء يُطابق النّموذج العلمي وخلاصته (الموجود هو: ما هو موجود) أي لا شيء موجود إلّا إذا كنّا نراه أو ندركه باقيستنا. أمّا الشّطر المثالي، فذهبَ في بعض تفسيراته إلى الاعتداد بأنّ كلّ ما نراه مجرّد وهم محض من صنع خيالنا نحن فحسْب.

  1. ثمّ تأتي النّماذج التّشاركية؛ ليُدَعّم أصحاب كلّ نموذج أراءهم بما يتوفّر لديهم من النّموذج الآخر، فمثلًا الفلسفة المنطقيّة الوضعيّة تجمعُ بين المنطق العقلي البحث والمنطق العلمي الصّرف. والفلسفة الدّينيّة تجمع بين بعض بديهيّات العقل والمنطق الدّيني، وهكذا. 
  2. ثمّ نعود إلى أصل السّؤال الّذي تفضّلت به: ما الواقع؟ قد تقول: أنا أعلم أنّ (كلّ حزب بما لديهم فَرحون) وما أردته بسؤالي هو الجواب: وأنا أقولُ لكَ: لا جواب وحيد مطلق إلّا نسبانويًّا، أي أنّ أي جواب ستحصُل عليه هو مُطلق نسبة للنّموذج المعرفي الّذي أنتجه. هذا ما ستحصل عليه إذا ما أردتَ معرفة الحقيقة كما هي في ذاتها، لا كما هي بعد تلوّنها بلونِ نموذجٍ من النّماذج المعرفيّة الرّئيسة الثّلاثة.
  3. ولقد تساءلتُ أنا: ولكن لماذا هذا التّعدّد؟ لماذا لا يكون هناك جوابٌ وحيدٌ سهلٌ وواضحٌ ولا يختلف عليه اثنان؟ وكان ممّا اهتديتُ إليه بعد طول تفكّر وتعمّق ومُمارسة لا مجرّد قراءة لآراء الآخرين والحكم وَفْق الاقتناع -مثلما توصّل غيري لمثله ما يُشابهه ربّما- بأنّ الواقع في ذاته ليس يسيرًا إلى ذلك القدر الّذي يسمحُ بإنتاج إجاباتٍ وحيدةٍ، إذ الإجابات الوحيدة تكون نتيجة خلفيّةٍ يسيرةٍ تامّة اليُسر، فلو افترضنا عدم وجود ميكانيكا الكم ولا زمكان أينشتاين ولا ميكروبات مجهريّة ولا أمواج ولا، ولا، ولا، ولا… لو افترضنا أنّ الوجودَ طبقةً شفّافةً، ولو افترضنا أنّ عقولنا من النّوع السّهل جدًّا -غير المعقّدة- بحيث تكون مُتناسبة مع شفافيّة الطّبيعة من حولنا.. لو حصلت هذه الفَرْضيات مع افتراض إمكانيّة تكوّن عقل واعٍ في مثل هذه الظّروف، (وكلّ ذلك إمّا بفعل الطّبيعة وَفْق المنطق المادّي وإمّا بإرادة الله وَفْق المنطق الدّيني) فعندئذٍ يُمكن أن نقولَ أنّ: (١ + ١ = ٢) دائمًا وأبدًا وفي الحالاتِ والمستوياتِ جميعها، وعندئذٍ يُمكن أن تكون إجاباتنا عن جميع الأسئلةِ وحيدة. 

لكن لمّا كان الحال أنّ الطّبيعة -وَفْقَ المنظور الفلسفي العلمي- تزخرُ بالتّركيب والتّعقيد، والعقل يزخر بالتّركيب والتّعقيد، والوجود كثيف بحيث يتكوّن من طبقاتٍ وأبعاد مُتعدّدةٍ هي أربعة في الأقلّ إنْ لم نُضف لها بعد كالوزا الخامس أو أبعاد علماء الأوتار. هذا إذا ما قرأنا البساطة والتّعقيد بمنظارٍ فلسفيٍّ علمي.
وأمّا وَفْق المنظور الفلسفي الدّيني فلدينا النّصوص الّتي تُثبتُ أنّ الخلقَ مُكوّن من أكثر من طبيعةٍ ومن أكثر من شيء، هناك المادّة وهناك الرّوح وهناك مواد أخرى خُلقت منها كائنات أخرى لا نعلمها، وهناك مفهوم الطّباق والطّبقات المكوّنة للواقع الحقيقي، وإنْ سِرنا خطوة في التعمُّقِ الدّيني نجدُ أنّ بعض الصّوفية يرونَ كثرة الأسماء الإلهيّة وتوحّدها في الوقتِ نفسه -بحيث يكون كلّ اسم هو عين الأسماء جميعًا وغيرها في الوقتِ نفسه- هي الّتي كوّنت ما نراهُ من كثرة مُتوّحدة على صورتها، فكأنّ الوجودَ ظلٌّ لها… إلخ. 
إنّ ذلك كلّه -يا صديقي- يخلق البيئة المعرفيّة المنتجة للتعدّد والاختلاف؛ ومن ثَمّ يُبعد منّا احتماليّة الإمساك بجوابٍ وحيدٍ إلّا إنْ صادرنا على الأجوبة الأخرى المختلف معها.

إنّنا يا صديقي نحيا في عالمٍ مُتراكبٍ مُتداخلٍ مُتخارجٍ مُتشابكٍ ليس يسيرًا، إلّا إنْ قرأنا جزءًا منه بدلالةٍ مُحدّدةٍ فعندئذٍ نُمسك بالإطلاق المطلق، ومن دون ذلك ففي تصوّري لا نمسك إلّا بالتّناقض والأوهام.

نعم، أنا أعلم أنّ العقليّةَ غير المهيّئة لإدراك هذا التكثّف المهول في طبيعةِ كلّ شيء، تُفزَع منه وقد تَفرّ بعيدًا منه، فرار الغزال من الأسدِ، لترتمي في أحضان الجواب الّذي يُوفّره النّموذج الأقرب إلى قناعاتها المشكّلة -إلى حدٍّ ما- من بيئتها، أعلمُ ذلك، وأعطيها العذر في ذلك، بل لا نملك جميعًا إلّا أنْ نعذرَ بعضنا بعضًا؛ لأنّنا جميعًا أجزاء مُتداخلةٍ من هذا التّشابك والتّعقيد المقيّد ببعضهِ بعضًا، ومن هذا التّعقيد المقيّد، أعني ومن هذا الفَهم انبثقَ مفهوم (التضامر)، فكأنّي حين أصفُ الواقع بأنّه (مُتضامر)؛ أي: كلّ شيءٍ فيه يُضمر لا مثيله؛ فإنّني أعبّر عن التّفاصيل الّتي ذكرتُها آنفًا.

تسألُني يا صديقي ما الواقع؟ وهل نعيش في عالمٍ واقعيٍّ؟ ستكون إجابتي لك: الأجوبة مُتضامرة (القانون الثّالث).

فأعطني دلالةً مُحدّدةً أعطيكَ جوابك، ستقولُ: وما الدّلالة الّتي تُريد؟ وما طبيعتها؟
سأقولُ: الدّلالة المحدّدة هي: النّموذج المعرفي الّذي هو أغلب قناعاتك.

اذكر ذلك النّموذج الّذي تراه الأمثل من وجهة نظرك فتحصل على إجابةٍ مُطلقة نسبانويًّا.

اذكر أكثر من نموذجٍ فتحصل على أكثر من إجابةٍ مُطلقة نسبانويًّا.


[1]– الأخ عبد الرّحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *