هل يجبُ على المسلم أنْ يُعادي اليهود والنّصارى؟

قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].

الفهمُ الُّتراثي: 

بمعنى لا تُصافوهم ولا تُعاشروهم مُصافاة الأحبابِ ومُعاشرتهم. قالَ الزّمخشري: «وهذا تغليظٌ من اللهِ وتشديدٌ في وجوبِ مُجانبةِ المخالِف في الدّين واعتزاله». وقال غيره قريبًا منه؛ ولذا قيل: لا تُكرموهم إذْ أهانَهم الله، ولا تَأمَنوهم إذْ خوّنهم الله، ولا تُدنوهم إذْ أقصَاهم الله. ثُمّ تأتي تتمّة الآيّة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أي: الّذين ظَلموا أنفسهم بمُوالاةِ الكَفَرة. وهذا هو التّوجّه على هذا النّسق ().

الفهمُ المعاصر:

أوّلا: يجبُ علينا أنْ نُلاحظَ أمرًا أساسيًّا، وهو: إنّ على الفهمِ المعاصرِ أنْ يكون تكامُليًّا بينَ المقصد القرآني والبُعدِ الأخلاقي الأممي؛ أي: البُعد الأخلاقي الّذي تعرّفتْ إليهِ الشّعوب والأُمم في عصرٍ من العُصور.

إذا ما انطلقنا في فهمِ الآيةِ الكريمةِ وَفْقَ ما أسميناهُ (القِراءة التّساؤليّة) ()، آخذين في الاعتبار الأمر الّذي ذكرناه آنفًا، فنقول مثلًا: هلْ مُعاملة اليهود والنّصارى في هذا العصرِ وبعد التقدّم والتمدّن الّذي شهدتهُ الحضارات الإنسانيّة بالفهمِ التُّراثي، يتّسقُ (لا يتناقض) مع البُعدِ الأخلاقي الأممي؟ 

من الواضحِ أنّ الإجابة ستكون: لا يتّسق أبدًا؛ لأنّ الأعراف الدّوليّة والاجتماعيّة والواقع الحياتي تغيّر تمامًا، وهناك مُعطياتٌ كثيرةٌ للزُوم التّعايشِ الكريم بين أهلِ الأديان جميعًا على قدَم المساواةِ في أيّ بُقعةٍ من بقاعِ الأرض.

حينَ نتوقّعُ أنْ تكونَ هذه الإجابة؛ فإنّنا سنطرحُ السّؤال الثّاني، وهو: هل يتّفق هذا الفهمُ الجديدُ مع المقصدِ القُرآنيِّ من النّهي عن مُوالاتهم؟ وللإجابة عن هذا السّؤال نحتاجُ إلى معرفةِ القصدِ القُرآني أوّلًا من ذلكَ النّهي، أيْ: لماذا نَهى القرآنُ عن مُوالاتهم؟ 

إنّ معرفةَ هذا الأمر مُمكنة على سبيلِ الاحتمال (اليَقين النّسبوي). وقد قيل فيه أقوالٌ أشهرها: أنّه لمّا كانت وقعة أُحد، خافتْ طائفةٌ من النّاسِ أنْ ينتصرَ المشركينَ، ووقتئذٍ ستكون العواقب وخيمة، فأرادوا أن يحتاطوا لأنفسهم، فقالوا: نلحقُ باليهودِ، فنأخذ منهم أمانًا، أو نتهوّد مَعهم. وهذا الفعل -هو وكما- يُعبّر عنه في اللّهجةِ الدّارجة (اللّعبُ على الحَبلين)، واصطلاحًا (النّفاق). فالمقصد من هذه الدّلالة هو: النّهيُ عن النّفاق أو التّأرجح بينَ الأديان في حالةِ الحرب، أو الظّروف الصّعبة، بحيث يكون المرء مع قومهِ في النّصرِ ومع عَدوّهِ في الهزيمة؛ وذلك أنّ هذا التّذبذب يعني: أنّ عقيدةَ المرء ليست خالصة، سواء أعلى الإسلام كانت أم اليهوديّة أم المسيحيّة، بل هي عقيدةٌ مصلحيّةٌ لا صلة لها بجوهر الإيمان.

إنّ قراءةَ صورة الآية بهذه الطّريقة، تكشفُ أنّ علّة النّهي ليست مُتعلّقة بذاتِ اليهودِ والنّصارى بقدرِ ما هي مُتعلّقة بذواتِ المسلمينَ وصحّةِ عقيدتهم أنفسِهم، بحيث يتميّزُ وَفْقَ هذا المعيار، الخبيث من الطيّب، فمن يثبُت على دينهِ في السّراءِ والضّراء، ليس كمن يُتاجرُ بإيمانهِ فينتهزُ فُرصَ الرّبحِ والخَسارةِ ليتقلّبَ بينَ هؤلاءِ وهؤُلاء.

الآنَ؛ لو قارّنا بينَ هذا المقصد القُرآنيّ وبينَ البُعدِ الأخلاقي الأممي، سنجدُ أنّ هذا الأمر يُعبَّر عنه في المجتمعاتِ المتمدّنةِ باسم (الخِيانة)، وما مِن أُمّةٍ تقبلُ لأبناءِ جلدتِها أو مِلّتها أو دِينها الخيانَة، فهو فعلٌ مذمومٌ اجتماعيًّا وقانونيًّا؛ ما يعني أنّه لا إشكال في هذا النّهي إذا كان وَفْقَ هذا التّصوّر، فليس سليمًا أو صحيحًا أو مقبولًا أن يخونَ مسلم أبناء دينهِ، وليسَ من الصّحيح عند اليهود أنْ يفعلَ ذلك اليهودي مع أبناءِ دينهِ أو المسيحي مع المسيحيّين.  

مرّة أخرى؛ نُكرِّرُ أنّ هذا الفهم النّسبويّ وَفْقَ هذه الدّلالة، لا يُطلق النّهي لسببٍ مُتعلّقٍ باليهودِ أو النّصارَى لكونهم يهودًا أو نصارى، وإن كان هناك خلافٌ عقائديّ مَعهم، بل هو خاص بتنقيةِ المجتمع الإسلامي بوجهٍ خاص، والمدني بوجهٍ عام، من الخِيانةِ والانتهازيّةِ والنّفاق العمليّ بشتّى صوره.

* * *

لكن؛ ومن جانبٍ آخر: ماذا لو افترضنا أنّ المقصد كان مُتعلّقًا بالخيانةِ من جهةٍ وباليهودِ والنّصارى من جهةٍ أخرى؟ وأنّ النّهي جاء ضدّ الأمرين معًا؛ أي: ضدّ الخلل العقائديّ للمُسلم وضدّ اليهود والنّصارى لكُفرهم وضلالهم؟ في الحقيقةِ، لا يُوجد ما يمنع أيّ افتراضٍ كيفما كانت صيغته، ما دام احتمالًا مُمكنًا، ويبدو لي أنّ هذا الاحتمال وجيه بدلالته.

إنّ الافتراض بأنّ شطرًا من النّهي جاء مُتعلّقًا باليهودِ والنّصارى لذاتهم يسيرُ بنا لنطرح التّساؤل الآتي: هل صيغة النّهي عامّة ضدّ اليهود جميعًا في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، أم أنّه مخصوصٌ ضدّ جماعةٍ مُعيّنةٍ ضمنَ ظرفٍ تاريخيٍّ مُعيّن؟

سنفترضُ أنّ الإجابة هي: ضدّ اليهود والنّصارى في كلِّ زمانٍ ومكان. إنْ فعلنا ذلك؛ سنقعُ في إشكالاتٍ تتعارضُ مع الواقع التّاريخيّ نفسه؛ لأنّه تَبَعًا للفهمِ التراثي لهذا الافتراض، يجبُ عزل اليهود والنّصارى كلّهم ومن أوّلهم الى آخرهم، وإقصائهم، بل وإهانتهم أيضًا. السّؤالُ: هل هذا ما عُمِلَ به في حياةِ الرّسول -صلى الله تعالى عليه وسلّم-، أم كانت هناك عهودٌ ومواثيق ومشروع دستورٍ مدنيٍّ ينصُّ على مفهومِ (الأمّةِ الوَاحدة) بما فيها من تعدديّةٍ دينيّة؟ أين تذهب آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، وأين تذهب صلاةُ النّبي -صلّى الله تعالى عليه وسلّم- على النّجاشي، وأينَ وأينَ وأينَ…؟! 

هناك من النّصوص والوثائق ما يَكفي للاطمئنانِ بأنّ النّهج الرّسولي لم يكنْ تعميميًّا بهذا الشّأن، بل كان يسيرُ وَفْقًا للقانون القُرآني القائل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ ما يعني أنّ مُحاسبة قبائل تنكثُ العهدَ من اليهودِ أو النّصارى، خاصّ بها وليس بعمومِ اليهودِ والنّصارى وانتشارهم في الأرض. إنّ الصّيغة الّتي أتتْ بها الآية وَفْقَ دلالتنا هُنا، هي من بابِ (العام الّذي يُراد به الخاص)، ومثاله كما لو اشتهرَ القتلُ في مدينةٍ فيُذاع أنّ أهلَ هذه المدينة قَتَلة، والحالُ أنّ ليس جميعهم قتلة، بل بعضهم.

لنُراجع الفكرة الآن، هل عاملَ الرّسولُ -صلى الله تعالى عليه وسلّم- اليهودَ والنّصارى بذلك المنظور الّذي يَطرحه الفهم التُراثي؟ الإجابة: لا يُوجد ما يُثبتُ ذلك، بل العكس، يُوجد ما يُثبتُ خلاف ذلك، إذ نعلم أنّهُ تَحمّل أذى جارهِ اليهوديِّ وصلّى عليهِ عندما مات، وهذا يعني: أنّ المراد من صورةِ العموم في الآيةِ هو الخصوص، أي لا تتولّوا بعضَ اليهودِ والنّصارى، إذا ما كان التّولي يَعني الاحترام المتبادل، والوقوف على قدمِ المساواةِ إزاء القَانون، والتّعاون الإنسانيّ الّذي تفترضهُ الشّرعة الأخلاقيّة الأمميّة. من هو ذلك بعض من اليهودِ والنّصارى الّذي يجبُ ألّا يتولّاه المسلم، فيُناصبه العِداء بكلّ الوسائل المتاحة له؟ إنّه بعضهم البَاغي، المعتدِي، المتشدّد، المتطرّف، العنصري، القاتل، المغتصب، الخائن… إلخ. أي: أنّ من يتّسم بواحدةٍ أو أكثر من هذه الخصال يجبُ عدم مُوالاتهِ، بل والحرص على عزلهِ وامتهانهِ؛ لأنّه كالسّرطانِ الّذي إذا استمكن في بيئةٍ فإنّه يعيشُ على تَفتيتها. من أمثلةِ هذه السّرطاناتِ الدّينيّةِ: الحركةِ الصّهيونيّةِ في اليهودِ، وحركةِ الصّليبيّةِ العالميّةِ في المسيحيّةِ، والحركاتِ الإرهابيّةِ كتنظيمِ القاعدةِ وداعش، وغيرها في المسلمين، وما سواها في أيّ ديانةِ أو مِلّةٍ أُخرى… هؤلاءِ الّذين لا عهدَ لهم ولا ذِمّة، هم من يقع عليهم نهي التّولّي وليس أُولئك المسالمينَ الّذين يحترمونَ القَانون، ويسيرونَ في حياتهم الاجتماعيّةِ ضمن الأعرافِ المحترمةِ المتبادلة. 

إنْ عرضْنا هذه القراءة على المقصدِ القُرآني وعلى القانونِ الأخلاقي الأممي؛ سنجدْ أنّهما لا يختلفانِ عليها، فالنّاس في الإسلام لا تُحاكَم لاختلافها في الدّينِ أو العرقِ أو الجِنْسِ أوِ اللّون؛ بل تُحاكم لأفعالها المخلّةِ بالنّظام المجتمعي، والأمر هو ذاته بالنّسبة للقانون الأخلاقي الأممي.         

* * *

إنّ القراءةَ التّأويليّة لهذه الآية، تتلخّصُ فيما يأتي:

  1. إنّ الفهمَ التُراثي الإقصائيّ أو العِدائي ضدّ اليهودِ والنّصارى صحيحٌ نسبانويًّا، ووجه النّسبانويّة فيهِ أنّه مُوجّهٌ ضدّ بعضِ المعتدينَ منهم وليس جميعهم، إذ مِن الآخرين مَن هم مُسالمين، أو صالحين، أو حتّى مُساندينَ للمُسلمين مثل: حركة (ناطوري كاتا)، أو (حارس ا لمدينة) اليهوديّة الأرثوذكسيّة، أُسِّسَتْ عام 1935، وهي ترفضُ الصّهيونيّة بصورها كافّة، إذ يذهب هؤلاء إلى أنّ الصّهاينة لا ينتمون إلى الشّعبِ اليهوديّ ولا يُمثّلونه، وهؤلاء على سبيل المثال شيء واليهود الصّهاينة شيء آخر، ومثلهم من هم على شَاكلتهم في المسيحيّة والإسلام.    
  2. في الوقتِ الّذي يُركّز فيه الفهم التّراثي على الجانبِ الموضوعي المتعلّق باليهودِ والنّصارى، فإنّ الفهمَ المعاصر يُضيفُ له تَسليط الضّوء على الجانبِ الذّاتي المتعلّق بالنّفوس الضّعيفة.
  3. يردُ في الآيةِ أنّ اليهودَ والنّصارى بعضهم أولياء بعض، وهو يُشير إلى أنّ الجهات المتطرّفة في العالم تتعاون مع بعضها بعضًا بطرائق غير مُعلنة، ولا نعدم الأخبار الّتي تتسرّب عن الصّفقاتِ والتّفاهماتِ السّريّة الّتي تتمّ في الخفاءِ المتشدّدين في أرجاءِ العالم.  
  4. التّكامل بين المقصدِ القُرآني والقانون الأخلاقي الأممي، يقودنا إلى فهمٍ نسبانويٍّ يجعلُ من الآية صالحة لكلّ زمانٍ ومكانٍ، وَفْقَ ما ذكرناهُ آنفًا.
  5. مِن هذا الفِهم، يُمكن الانطلاق لقراءة الاحتمالاتِ الأخرى الّتي قد يحتفظ بها الفهم التّراثي، ومُعالجتها ضمن التبصّر التّكاملي.
  6. يُمكن اتّخاذ هذه القراءة كدلالةٍ مفتاحيّةٍ لفهمِ نصوصٍ أُخرى في القرآنِ الكريمِ ذات صلة بالموضوعِ نفسه.

* * *

وبعد، فلو أنّنا عرضنا هذا المنظور بعد تبسيطهِ على الشّعب الاستفتاء الشّعبي(*)، فستكون مشروعيّته مُتراكبة: دينيّة مُجتمعيّة أو دينيّة مَدنيّة. أمّا إن تَركنا في الاستفتاء حقل خاص لمن لا يقبل أو يرفض بل يقترح رأيًا آخر، فسوف يكون هناك بفعلِ هذه التّشاركيّة الجماهيريّة، تيسيرًا لفتحِ بابِ التّأويلِ المجتمعي؛ ما يُوسّعُ دائرة المعاصرةِ والتّفاعل الحيوي المتكامل بين النّص والواقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *