المقدّمات

تعدّ الرّموز الأساسيّة والتّعريفات الإجرائيّة والمفهومات الأساسيّة والمصادرات بشطريها؛ الضّروريّة والتّكميليّة، الخلفيّة الفكريّة التي تنبني عليها هذه النّظرة؛ لذا عَمدنا إلى بيانها بالتّفصيل في هذا الفصل.  

رموز أساسيّة

من المتطلبات الضّرورية للتّضامر، الاطلاع على الرّموز المبينة في الجدول الآتي:

الرّمز الدّلالة
أ * مُتغيِّر يرمزُ للشَّطرِ المُظهر من العلاقة

* المرتبة السّابقة المظهرة

ب المرتبة اللاحقة المظهرة
د مُتغيِّر يرمزُ إلى الدّلالة المُحدّدة
ح مُتغير يرمزُ إلى الاحتمالاتِ المُمكنة
لا الاحتمالات الممكنة المضمرة
لا أ الاحتمالات المضمرة للمتغير (أ)
ع معلوم
ج مجهول
م معلومة معطى لمرتبة معيّنة
ل مرتبة الألوهة
ق مرتبة القرآن الكريم
ط مرتبة الطّبيعة
ن مرتبة الإنسان
ك مرتبة النّتاج أو التكنولوجيا
ظ المظهر
ض المضمر
نظ النّظير
نظ ط النّظير الطّردي
نظ ع النّظير العكسي
عك تضامر عكوس
نعك تضامر نصف عكوس
ı| التّضامر الذّاتي، يرمز الخطّ القصير على المَظهر، ويُرمز للمضمر بالطويل.
التّضامر الانعكاسي
ı|ı تضامر عكوس، لا ذاتي، موضوعي
ı||ı تضامر مشترك، ذاتي لا ذاتي، مركّب
رمز الدّلالة
+1 يرمزُ إلى وجود احتمال آخر 

تعريفات اجرائيّة      

فيما يأتي التّعريفات الإجرائيّة ([1]) لبعض الألفاظ والمصطلحات الهامة في فلسفة التّضامر:

كلّ – الكلّ:

كلّ: يراد به الشّيء أو الجزء أو التّفصيل المحدّد أو الفرد بكله. والكلّ: هو ما يستغرق مجموع أو عموم أو مجمل  كلّ([2]).

الشّيء:

الشّيء اسم يدلّ على أي نسبة من نسب الوجود، سواء أفي الحسِّ كان كالأجسام أم في الذّهن كالمخيال أم في اللّسان كالأقوال أم كان مفهومًا مجرّداً كالأعداد والكيانات الرّياضيّة، أم كان افتراضيًّا كالجسيمات الذريّة الافتراضيّة في العدم؛ فالشّيء قد يكون قديمًا أو حادثًا، جوهرًا أو عرضًا، خارجيًّا أو ذهنيًّا، معلومًا أو مجهولًا، كليًّا أو جزئيًّا، فهو ينطبق على الضّرورة والإمكان أو والامتناع ([3]). وعلى الجملة: هو لفظ دال على ما يصح أن يُعلَم أو يُحكم عليه أو يُخبر عنه.

الضَّرورة:

هيما يكون وجودها بديهيًّا ولو بدلالةٍ وحيدة ([4]).

المُظهر:

هو الشّيء (راجع تعريف الشّيء)

المَثيل:

في اللّغة: المثيل هو الشبيه والنظير؛ أي أنّ المثيل يدلّ على مناظرة الشّيء للشّيء ([5]). وفي تاج العروس: «إِذا قيل: هوَ مِثلُه، على الْإِطْلَاق، فمعناه أنّه يَسُدُّ مَسَدَّه، وَإِذا قيل: هو مثلُه في كذا، فهو مُساوٍ لهُ في جهةٍ دونَ جِهةٍ، انْتهى» ([6]). وفي الفلسفة: تماثل الشيآن تشابهًا، ولا تكون المماثلة إلّا بين المتفقين في الكيفيّة أو النوعيّة، بخلاف المساواة فإنّها بين المتفقين في الكمية؛ لأن التساوي هو تكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص. فالمتماثلان إذًا هما المشتركان في النوعية أيّ في تمام الماهية، أو هما اللّذان يسد أحدهما مَسدّ الآخر في الأحكام الممكنة، والواجبة، والممتنعة ([7]).

أمّا في التّضامر؛ فالمَثيل: هو الشّيء المحدّد أو المُظهر.

اللّامثيل:

(1) هو كلّ شيء سوى المثيل.

(2) يوجد نوعان من اللّامثيل في الأقل وهما:

اللاتماثل المباشر: وهو الّذي ينسب للشّيء لا للمرتبة.

اللاتماثل اللامباشر: وهو الّذي ينسب للمرتبة لا للشّيء.

(3) من خصائص هذه اللاتماثلات، أنّ المباشر أخص من اللامباشر، الأمر الّذي يسمح بصياغة العلاقة بينهما بالصّورة القائل: «كلّ لا تماثل لا مباشر هو لا تماثل مباشر وليس كلّ لا تماثل مباشر هو لا تماثل لا مباشر».

لا:

«لا» في اللّغة، تدلّ عموما على حالة المنع أو السلب. وأمّا «لا» أو «اللا»  في التّضامر فهي لا تفهم من حيث معناها اللُّغوي الحرفي هي تعني الأمر الأخر المخفي أو المستتر أو المُضمر. والمضمر جانب آخر مثبت وليس منفيًّا ([8]).

الإضمار:

هو الإخفاء أو السَّتر، ففي اللّغة: «اضْمَرَ الشّيء: أخفاه» ([9]).

أمّا في الاصطلاح الفلسفيِّ فالمضمر هو «حجَّة مستفادة من الأضداد» ([10])، أي أنَّك إذا أخذت أحد الضِّدَّين فيمكن أنْ تحتجَّ بوجود الآخر من ضدِّه. وقد قيل: «بضدِّها تُعرَف الأشياء» فلولا الشرُّ ما عرفنا الخير، ولولا الخوف ما طلبنا الأمان، ولولا المرض ما تنعَّمنا بالصِّحة.

هذا المعنى للإضمار هو ذاته الّذي تناوله هيغل في جدليَّته، إذ عنده «إنَّ أيّ تصوُّر من التَّصوّرات يضمُّ نقيضه على سبيل الإضمار، وأنَّه من الممكن استنباط هذا النّقيض منه واستصفاؤه» ([11]). غير أنّه وفقًا لنظرتنا أشمل من ذلك؛ إذ المقولة عندنا: «بلا مثيلها تعرف الأشياء» و «إنَّ أيّ تصوُّر من التَّصوّرات يضمُّ لا مثيله على سبيل الإضمار، وأنَّه من الممكن استنباط هذا اللّامثيل منه واستصفاؤه». وشموليّة اللّامثيل تفهم من أن الضّد أو النّقيض أحد الاحتمالات الممكنة الّتي يتضمّنها مفهوم اللّامثيل إلى جانب عدد غير محدّد من الاحتمالات الأخرى. وكأنّنا نقول هنا: إنّ أي تصوّر يضمّ نقيضة والاحتمالات الأخرى غير النّقيض معه.

المضمر:

(1) المُضمر: هو اللّامثيل بالنّسبة للمُظهر.

(2) المضمر دائمًا عبارة عن عدد مفتوح من القيم أو الاحتمالات الممكنة المتلازمة.

التّضامر:

(1) التّضامر: هو الحالة الّتي نقرأ فيها المثيل ولا مثيله، أو المُظهر وما يُضمره كوجهين متلازمين بصورة مباشرة أو غير مباشرة لحقيقة واحدة.

(2) حول الفرق بين التّضامر والمُضمر:

إذا كان لفظ الإضمار يدلُّ لغةً واصطلاحًا على وجود السّاتر والمستتِر فيه – أو كما أسميهما المُظهر والمضمر-في لحظة افتراقهما أو اختلافهما أو تمايزهما عن بعضهما، فإنّ لفظة التّضامر تدلُّ على لحظة توحّدهما، وهي اللّحظة السَّابقة لتلك الّتي يتميَّز فيها المُظهر عن المضمر، فالتَّضامر: مصطلح يدلُّ على ثنائيَّة (ستر لا ستر). وتوضيح ذلك في المقاربة الآتية:

نحن نعلم أنَّ مبدأ تكافؤ الكتلة والطَّاقة في الفيزياء الحديثة، يُخبرنا أنَّ الكتلة والطّاقة ليستا إلّا شكلَين أو صورتَين متمايزتَين لحقيقة واحدة هي المادّة. الكتلة: هي الطَّاقة لكن في حال تكثّفها. والطّاقة: هي الكتلة لكن في حالة تحرّرها.

على هذا فإنَّنا حين ننظر إلى عود ثقاب مثلًا فإنّ أبصارنا تدرك صورته المتكتِّلة، مع أنَّنا نعلم أنَّنا ننظر إلى طاقة مكثّفة، ولو أنِّنا أخذنا عود ثقاب مثلًا، فإنّ ما سنراه هو الصّورة الماديَّة المتكتِّلة (المُظهر) بينما الصّورة «الطاقويَّة» لا تظهر بعد إحراقه (المُضمر). وكما هو معلوم فإنّ الصّورة المظهرة تستر الصّورة المضمرة.

النُّقطة الأهمّ هنا هي: أنَّ المُظهر حين يستر المضمر، هو في الوقت نفسه يُظهره، لأنَّ المظهر ليس وعاءً للمضمر فيستره فحسب، بل المُظهر هو المضمر نفسه. وبهذا المعنى يكون المضمر مُستترًا وغير مستتر في الوقت نفسه، وهذا هو ما أُسمِّيه التَّضامر. لا يتوقّف التَّضامر على حد إخفاء الأشياء أو سترها بل هو: اصطلاحٌ يدلُّ على السَّتر واللاستر في الوقتِ نفسه.

هنا يبرز الفرق بين مفهومَي: المضمر والتَّضامر؛ إذ المضمر يدل على المستتر فحسب وأمّا التّضامر فيُعبِّر عن المُظهر والمضمر في لحظة توحّدهما كلحظة توحّد المادّة والطَّاقة.

الدلالة المحدّدة:

(1) الدّلالة في اللّغة: «ما يفهم من اللّفظ عند إطلاقه» ([12]).

وفي الفلسفة: دلالة حدٍّ ما: هي الّتي تتطابق مع ما صدق مفهوم ما ([13]).

في التّضامر: مفهوم الدّلالة هو أقرب إلى المتغير في الرّياضيّات الّذي تتوقّف قيمته على متغيّر آخر؛ إذ المستمع الّذي يعرف أنّ الكلام ينطوي على معنى مضمر مخصوص، يحتاج إلى «أن يهتدي إلى طريق يوصله إلى معرفة ما أُضمرَ وإلى التّمكّن من إظهاره، ولولا الشّاهد المقترن بالمضمر، لصار الكلام موصوفًا بالخفاء والإبهام، إن لم يكن مُنجرًّا إلى اللّغز والتعمية» ([14])؛ ولهذا فبواسطة الدّلالة تُحَدّد العلاقة بين المُظَهر ولا مثيله المضمر، وأمّا المُحدّدة، فهي في اللّغة: «محدّد: معيّن أو مخصص» ([15]).

في الفلسفة: «المحدّد: كلما كان معينًا، ومحكمًا، ودقيقًا، تقول: المنهج المحدّد» ([16]).

أمّا في التّضامر: فيرتبط لفظ محدّد بلفظ الدّلالة ليعطيا معنى موحّدًا، وهو وضع عبارة حدّية تقيّد إطلاق التّضامر بين الشّيء ولا مثيله في حدود مخصّصة؛ لذا فالدلالة المُحدّدة: هي نسبة تُختار لتقييد الإطلاق بين المُظهر والمُضمر ([17]).

الاحتمالات الممكنة:

الاحتمالات الممكنة: هي المُضمرات الّتي يُمكن توقّعها لمظهر مقيّد بدلالةٍ مُحدّدة ([18]).

اللّحظة الزّمانيّة:

هي لحظة عقليّة لا فيزيائية، ينتبه فيها الذّهن إلى الفرق (التكثر) بين المُظهر والمضمر.

اللّحظة اللازمانيّة:

(1) هي لحظة عقليّة لا فيزيائيّة، ينتبه فيها الذّهن إلى اللافرق بين المظهر والمضمر ([19]).

(2) نحن نتحدَّث هنا عن اللّحظة الّتي يكون المظهر وما يضمره متوحِّدان كتوحُّد جسيم موجَّه، تلك اللّحظة الّتي تتوقَّف فيها فلا تستطيع أن تقول إنَّه جسيم فقط أو موجَّه فحسب، إنَّها اللّحظة الّتي تتفلَّت من الذّهن لسببٍ غريبٍ فيها وهو أنَّها لا زمانيَّة.

عندما أسألُ نفسي: هل أنا أب أم أنا ابن؟ وعندما يكون سؤالي غير مضاف لأبي أو ابني في هذه اللّحظة. أيُّهما أنا؟ إنَّني الأب والابن، ولستُ الأب والابن في الوقتِ نفسه، إنَّها لحظةٌ موجودةٌ في اللّازمان، أو هي لحظةُ الَّلازمان نفسه.

هي اللّحظة الّتي تجعلنا نتوقَّف أمام النُّقطة لنتساءل: ما النُّقطة؟ إن كان لها بُعدٌ فهي خطٌ أو مستقيم، أو مستوى صغير وليست نُقطة، وإن كانت بلا بُعدٍ فهي غير موجودة؛ ولكن مع أنَّها ليست مُستقيمًا وليس فيها بُعد، فهي موجودة، بل الأصل الّذي تشتَّق منهُ الهندَّسة وجودها.

لِمَ لا نستطيع أن نُعرِّفها؟ يبدو أنَّها تضطر المتفكِّر فيها إلى أن يراها شيئًا شاذًّا تتوقَّف عنده قوانين الهندسة، كتلك النُّقطة المفردة الّتي انبثق منها الانفجار العظيم، هي أيضًا تتوقَّف قوانين الفيزياء عندها، ليس لشيءٍ إلّا لأنّها تسبق خلق الزمكان، إنَّها لا زمكانيَّة، النُّقطة أيضًا؛ لكنَّها بخلاف تلك هي موجودة بلا ماهيَّة وجود مُحدّدة، ولحظة إدراكنا لوجودها ولا وجودها هو ما أصفه باللّحظة اللازمانيَّة.

ليس المقصود باللّحظة اللّازمانيَّة هو لحظة انعدام الزَّمن، بل اللّحظة الّتي يكون فيها الزَّمن مُنفتحًا على جميع الاحتمالات بالتَّساوي، إنَّها لحظة يتساوى فيها المُظهر والمضمر، لا يتميَّز أحدهما من الآخر، كلاهما مُظهر، وكلاهما مضمر في الوقتِ نفسه. هذه اللّحظة إنْ استطاع المفكِّر استحضارها؛ فسيدرك معنى التّضامر لأنَّ هذا هو معنى التّضامر.

هل نتحدَّثُ هنا عن مفهوم ميتافيزيقيِّ؟ الجواب: نعم، ولا.

نعم، لأنَّنا نتحدَّث عن قضيّة مفهوميَّة فكريَّة بحته، نريدُ أن نراها في الأشياء.

ولا، لأنَّ الفيزياء الكموميَّة تُعطينا تصوُّراتٍ عن المستوى الدَّقائقيِّ للمادَّة تتطابق أو تكاد مع هذا المفهوم. ففي عالمنا المحسوس الّذي أُسمِّيه مع عالم الأحياء التطوريَّة (ريتشارد دوكينز) بالعالم المتوسِّط، تمييزًا له عن مستوى عالم الذرَّات، وعن مستوى عالم المجرَّات الّذي يحتاج إلى سرعات تبدأ من سرعةِ الضَّوء. أقول: في عالمنا لو رمينا كرة تنس على حائط فسوف ترتدُّ إلينا ضمن حسابات قوانين الحركة المعروفة؛ ولكن لو فعلنا الفعل ذاته في عالم الدَّقائق الذريَّة، لرأينا أنَّ الكرة ترتدُّ في كلّ مكان، ولا ترتدُّ في أيِّ مكان، وتخترق الحائط ولا تخترق الحائط، وتكون واحدة ولا تكون واحدة، وواحد من تلك الاحتمالات أنْ ترتدّ بالقوانين المعروفة في العالم المتوسِّط. في هذا المستوى نكون في لحظة لا زمانيَّة.

هذا يعني أنَّ التّضامر ليس مفهومًا ميتافيزيقيًّا بحتًا، بل لعلَّنا نصفه بأنّه ميتافيزيقيِّ محايث، أي: مفهوم عقليِّ له نوع تطابق مع الواقع الماديّ أو يُمكن وصف ذلك بالقول: مفهوم علي ينطبق على الواقع نسبويًّا. 

(3) لا زمانية اللّامثيل:

في الَّلحظة التي أسميناها اللحظة اللازمانيَّة، عندما ننظر إلى المادَّة في عود الثِّقاب نعلم أنَّها طاقة، وعندما ننظر إلى الطَّاقة نعلم أنَّها مادة، إذن هما شيء واحد من هذه الحيثيَّة. ومن هذه الحيثيَّة بالتَّحديد فإنَّ المادَّة والطَّاقة ليستا متناقضتَين بل هما لامتماثلتَين لأنَّ الشَّيء لا يكون نقيض نفسه من الحيثيَّة ذاتها.

متى يمكن أنْ نرى التَّناقض؟ نراه في الَّلحظة الزمانيَّة أي تلك التي تلي الَّلحظة اللازمانيَّة، وأعني بذلك: أنَّنا عندما نضيف اعتبارًا عقليًّا متمثِّلًا بذهاب صورة وحلول صورة بديلة، فإنَّنا نفهم أنَّ البديل نقض المُستبدَل، لأنَّهم الايمكن أنْ يكونا حاضرَ ينفي الوقت نفسه، يمكن القول إنَّ الشَّيء يحمل بذور نقيضه.

بتعبير آخر: عندما يتحوَّل عود الثّقاب إلى طاقة، صورة الطاقة نقضت صورة المادَّة، ونعلم أنَّهما صورتان متعاقبتان، لايمكن أن ْتجتمعا، إذن فهما متناقضتان. لكن متى ظهر لنا هذا التَّناقض؟ عندما تناسينا أنَّ الصورتَين هما شيءٌ واحد.

إنَّنا عندما نستحضرُ الَّلحظة التي يكونان فيها شيئًا واحدًا يختفي التَّناقض، وعندما ننس ىهذه الَّلحظة يحضر التَّناقض.

ولمَّا كانت لحظة التوحُّد حاصلة في كلِّ حال، سواء أكان المظهر هو المادَّة أم الطَّاقة، قلنا إنَّهما لامتماثلان، إنّ تلك الَّلحظة لا زمانيَّة تمييزًا لها من اللحظة الجدليَّة، التي تتقيَّد بشكل له زمان، ويتحرَّك في المكان.

 

مفاهيم أساسيّة

فيما يأتي عدد من المفهومات والقيم والعلاقات الّتي يستندُ إليها النسق المعرفي لهذه الفلسفة، وكما مبين في الآتي:

حول مفهوم الجدل

يؤرّخ للجدل عادة في أنّه يرجع إلى فلاسفة اليونان، وقد كان عندهم يعني فنّ الحوار أو النّقاش في القوانين الأكثر عموميّة الّتي حكم الطّبيعة والمجتمع والفكر. لم يكن ذلك الحوار أو النّقاش في تلك القوانين تقليديًّا، بمعنى أنّه لم يكن يسعى لكشف الأصح فحسب، بل كان يتعدّاه إلى التأمّل في المفارقات، وبحسب المصادر الموسوعيّة، فإنّ هذا النّوع من الجدل نشأ على يد الفيلسوف اليوناني (زينون) ([20]) من طريق مفارقاته الّتي استثارت الفلاسفة في عصره وفي العصور الّتي تلته، ومن مفارقاته، مفارقة “العداء” ومفارقة “السّباق بين أخيل والسّلحفاة” ومفارقة “السّهم الطّائر” وغيرها. في مفارقة العداء، افترض (زينون) أنّه لكي يصل العدّاء نقطة النّهاية يجب عليه أن يبلغ أوّلًا منتصف المسافة بين النّقطتين، بالتّأكيد، ولكي يبلغ العدّاء منتصف السّباق يجب عليه أن يبلغ منتصف هذه المسافة أيضًا، أي: ربع المسافة الكليّة، ولكي يقطع ربع المسافة الكليّة عليه أن يقطع ثمنها أيضًا، وهكذا. ولمّا كان يوجد عدد لانهائي من أنصاف المسافات قبل إنهاء السّباق، وكلّ منتصف يحدّد مسافة يجب على العدّاء أن يقطع نصفها قبل أن يبلغ نهايتها؛ فإنّ ذلك يعني عدم وجود مسافة أولى على العدّاء أن يقطعها لأنّ نصفها هو الأوّل وعلى هذا يبقى العدّاء مسمرًا عند نقطة البداية، ولا يُمكن للحركة أن توجد. بوجهٍ مقارب افترض (زينون) أنّ العداء السّريع (ولو كان أخيل أسرع أبطال اليونان الأسطوريين) لن يستطيع تجاوز سلحفاة بدأ تقبله بالتقدّم أبدًا؛ وذلك لأنّ اللّحاق بالسّلحفاة يفرض عليه أن يقطع أوّلًا المسافة الّتي تفصله عنها، وكما بيّن (زينون) نفي مفارقته الأولى سيجبُ على عدّائنا السّريع أن يبلغ عددًا لانهائيًّا من النّقاط قبل لحاقه بالسّلحفاة. أمّا مفارقة «السّهم الطّائر» فيذهب (زينون) إلى أنّ من يراقب السّهم المنطلق يجد أنّه يشغلُ مواضع مُحدّدة في لحظاتٍ مُحدّدة، ولمّا كان الجسم الّذي يحتل موضعًا محدّدًا لا بد من أن يكون ساكنًا فيه، فسيكون السّهم ساكنًا دومًا ولا يُمكنه أن يطير! إنّ (زينون) كان يعلم –بالتّأكيد-أنّ السّهم يطير والعدّاء يسبق السّلحفاة ويبلغ نهاية السّباق؛ إلّا أنّه كان يعني ضرورة التعمّق في فهم الحركة وتحليلها؛ لذا قدّم حججًا منطقيّة ليبين لمعاصريه أنّ الحركة لا تحدث بالأسلوب الّذي يعتقدونه، وهذا ما أثبته العلم حديثًا في فيزياء الكم؛ إذ تبيّن في تلك الفيزياء أنّ الحركة ليست كما نعهدها دائمًا، فهناك حيث المستويات متناهية الصّغر تغدو الحركة احتماليّة غير متوقّعه، وعلى الطّرف الآخر حيث الأحجام متناهية الكبر تخبرنا نظريّة النّسبيّة أنّ الزّمان والمكان يتشوّهان بفعل جاذبيّة النّجوم والمجرّات، وبتشوّه الزّمان والمكان تتشوّه الحركة، ولا يعود يُمكن قياسها بالمقاييس التقليديّة الّتي نعهدها ([21]).

كانت مفارقات (زينون الإيلي) في القرن الخامس قبل الميلاد، تحوّلت وتحول الجدال حولها وحول أمثالها إلى فنّ للتّحاور بطرح الفكرة والفكرة المضادة لها من طريق السّؤال والجواب، وهكذا ولد نمط تفكيري جديد، تطور مع السّفسطائيّين إلى منهج مهني تعليمي نقدي، ووسيلة لعب بالألفاظ لإخفاء الحقيقة.

في السّفسطة نجد نوعًا آخر من أنواع الجدل، جدل يبحث عن الحقيقة «خارج عالم الظواهر بوصفه عالماً وهمياً، فقد حولت السفسطائية الفكر من الاهتمام بالطبيعة إلى الاهتمام بالإنسان، وقلب تأسسه، وغيّرت معاييره؛ إذ تركت الظواهر الخارجية جانباً وجعلت من الإنسان موضوعاً أساسياً للتفلسف والتفكير قبل الموضوعات الأخرى، فالإنسان الفرده ومعيار الحقيقة. لهذا اهتمت السفسطائية بالمعرفة والذات والأخلاق» ([22]). ويُمكن فيها – كما يرى (بروتاجوراسProtagoras ) الّذي عاش بين عامي 481 و411 ق.م-أن يكون الإنسان مقياس كلّ شيء، وقد بدأ كتابه المتناقضات بالعبارة القائلة: إنّه يُمكنه قول قولين متعارضين عن أيّ شيء، أي أنّه يدّعي أنّه يستطيع أن يجعل الصّواب خطأ والعكس صحيح، رافضًا بذلك للفلسفة والعلم السّائد ينفي عصره، وقد يكون هذا هو السّبب الّذي عرّض السّفسطة لهجوم علني من الفلاسفة أمثال: أفلاطون وأرسطو وشعراء المسرح الكوميدي ([23])، فالسّفسطائي حسب رأي أفلاطون: «صورة زائفة للفيلسوف، همّه الوحيد تعليم فنّ الخطابة وأخلاق النّجاح والمتعة والمنفعة، وتأكيد الذّات، وذلك للارتزاق واقتناص النّاس من ذوي الحبّ والمال» ([24]).

ثمّ جاء سقراط ([25]) وابتدع منهجًا جديدًا في التّفكير ليكون بمنزلة صورة متقدّمة لمفهوم الجدل الفلسفي، حيثُ صار أسلوب جديد للوصول إلى الحقيقة، يُمكن تسمية بمنهج «التهكم والتولد» وهو يرتكز على أمرين:

الأوّل هو التهكّم: وقد بناه على تصنُّع الجهـل، والتّظـاهر بالتّسـليم لوجهـة نظـر الخصوم، ثمّ الانتقال إلى إثارة الشّكوك حولها، ثمّ يستخلص من آراء الخصوم لوازم لا يستطيعون الالتزام بها، لكونها متناقضة مع آرائهم ومعتقداتهم؛ وبذلك يوقعهم فـي الحرج والتّناقض، وكان قصد سقراط من هذا تنقية أذهان النّـاس مـن المعلومـات الفاسدة، وتطهيرها من القضايا الكاذبة والمعارف الخاطئـة الّتي ورثوهـا عـن السّفسطائيّين، والأمر الثّاني التولّد: أي تولّد الحقيقة من نفوس الخصوم، باستنباطها من طريق توجيـه الأسئلة إليهم في نسق منطقي وترتيب فكري، ولم يكن حـواره ينتهـي إلى نتيجـة معيّنة، وإنّما كان القصد منه تنبيه الأذهان إلى ضرورة التزام الدّقة في اختيـار الألفـاظ، وإلى أنّ المعاني موجودة في النّفس، ولا سبيل إلى استخراجها إلّا بالحوار.

وصار الجدل مع أفلاطون ([26]) منهج وعلم، وقد قسّمه إلى «جدل صاعد ascending» ينقل الفكر من الجزئي إلى الكلّي، من المدركات الحسيّة إلى المعاني الكليّة، أي: إلى التعقّل الخالص إلى المثل و «جدل نازلdescending » ينزل بالعقل من أرفع المثل إلى أدناها بتحليلها وترتيبها في أجناس وأنواع.

وقد تمتّع الجدل عند أرسطو ([27]) بقيمة كبيرة، بوصفه وسيلة للتّدريب على التفكير وطرائقه. حيثُ أطلق عليه اسم «منطق الاحتمال logic of probability»؛ لأنّ موضوع الاستدلالات الّتي تكون مقدّماتها محتملة. مميّزًا بذلك بين الجدل الّذي ينظر في الاحتمالات وبين علم البرهان أو علم التّحليلات؛ وبهذا يُصبح رأي أرسطو في الجدليّة عكس ما كان عليه عند أفلاطون. فالجدليّة عند أرسطو أدنى من العلم لأنها مجال للآراء المتناقضة فقط ولكنها من جهة أخرى ضرورية في العلم إذ أنها المجال الذي يرتكز عليه العلم ([28]).

إنّ تشخيص أرسطو للجدل على أنّه يتضمن موضوعات استدلالاتها تكون احتماليّه، هو في واقع الأمر، قريب من مفهوم الاحتمالات الممكنة الّتي يذهب إليها مفهوم التّضامر؛ إلّا أنّ الفرق بينهما هو أنّ الاحتمالات الممكنة المضمرة تكون متلازمة، في حين لا يشترط منطق الاحتمال الأرسطي ذلك. وفي كلّ الاحوال فإنّ الجدل الأرسطي يُضاف إلى الأنواع المضمرة في مفهوم الجدل العام.

لقد بلغ الجدل مع (هيغل) ([29]) ذروته، وأصبح منهجًا فلسفيًّا شاملًت، «قدّم معها لعالم كلّه الطبيعي من هو التّاريخي والعقلي أو لمرة على أنّه صيرورة، أيّ في حالة حركة وتغير وتحوّل وتطوّر دائم». لقد ارتكز الجدل عنده على ثالوث اشتهر به وهو: الموضوع، ونقيض الموضوع، ومركب الموضوع ونقيضه ([30]).

ثمّ تطور عن الجدل الهيغلي جدلًا آخر لا مثيل له تمامًا، هو: الجدل الوجودي أو جدل العواطف عند (كيركغورد)، مقابل جدل الرّوح أو العقل عند (هيغل). حيثُ انتقد (كيركغورد) جدل (هيغل) لقيامه على مبدأ التّناقض بين الذّات والموضوع وتقسيمه العالم إلى موضوعي وذاتي، وعدّه العالم -بما فيها لإنسان- موضوعًا غريبًا عن الإنسان. لقد «كانت سيادة الموضوعيّة في فكر (هيغل) دافعًا (لكيركغورد) لكي يعود إلى الطّرف الأقصى؛ إلى الذّاتيّة المتطرّفة، والوجود الذّاتي هو وجود متناقض وعيني ومتوتّر ولا يُمكن اختزاله في مقولات العقل المجرد» ([31]).

وبرز مع ماركس ([32]) وأنغلز ([33]) نوع آخر من انواع الجدل وهو الجدل العلمي الّذي يضم القوانين الّتي تحكم تطور الوجود وقوانين المعرفة، فقد استأصلا المضمون المثالي لفلسفة «هيغل»، وأقاما الجدل على فهمهما المادّي للعمليّة التّاريخيّة، وتطوّر المعرفة، وعلى تعميمها للعمليّات الواقعيّة الّتي تحدث في الطّبيعة والمجتمع والفكر. هكذا أصبح الجدل المادّي منطقًا يعدّ الفكر والمعرفة مساويين للوجود، الّذي هو في حالة حركة وتطوّر، ومساويين للأشياء والظّواهر، وهي في حالة صيرورة في عملية التّطور، وهو المنهج الفلسفي لبحث الطبيعة والمجتمع، فيه يعدّ التناقض المقولة الرّئيسة؛ لأنّه يكشف عن القوة الدافعة ومصدر كلّ تطور، كما أنّه يحتوي على مفتاح جميع المقولات الأخرى، ومبادئ التطور الجدلي: قانون نفي النّفي، قانون الانتقال من التغيرات الكميّة إلى التغيرات الكيفية، قانون صراع الأضداد والتّناقض.

* * *

في الطّرف المقابل لمفهوم الجدل هذا بكل تنوعاته وتطوراته، يأتي تعميم التّضامر الّذي ينصّ على أنّ «كلّ شيء يضمر لا مثيله»، وهو نصّ يُشبه إلى حدّ كبير مفهوم الجدليّة، وبخاصّة الجدليّة الهيجليّة الّتي لخّصها هيجل بقوله: «إنّ أيّ تصوّر من التصوّرات يضمّ نقيضه على سبيل الإضمار» ([34]). فهل إنّ التّضامر هو لون مطوّر من ألوان الجدليّة الّتي سبق أن ذكرنا نماذج رئيسة منها، أم إنّه مفهوم ذو دلالة خاصّة، تختلف في مضمونها الفلسفي عن مفهوم الجدليّة؟  لمعرفة الإجابة عن ذلك سنعقد مقابلة بينهما وكما مبين في الآتي:

أوّلًا: من حيث المنهج الفلسفي

المنهج الفلسفي عند هيجل هو منهج تحليلي تأليفي في آن واحد، وليس معنى ذلك أنّه مجرّد جمع لهذين المنهجين المتناهيين؛ إنما هو يمزج بينهما ويدمجهما في ذاته بحيث ترى التّحليل والتّأليف في كلّ خطوة من خطوات سيره ([35]). هذا المنهج الفلسفي يُسمّى المنهج الجدلي الّذي يُسمّى المنهج المطلق أيضًا، فليس فيه أيّ افتراض من بدايته إلى نهايته، إنّه عن التّأليف أو المركّب من المنهجين السّابقين ([36]). أمّا المنهج الفلسفي في التّضامر منهج تحليلي وتركيبي، وليس تحليليًّا تركيبيًّا في الوقتِ نفسه؛ إلّا في بعض الحالات، فقد تتطلّب بعض القضايا التّعامل معها بالتّحليل فقط، وغالبًا تكون ضمن ما نسميه «التّضامر الذّاتي» كما قد تتطلّب قضايا أخرى التّعامل معها بالتّركيب، وغالبًا تكون من نوع التّضامر الموضوعي، وهناك بلا شك المشتركة، ووقتئذٍ نلجأ إلى المنهج الّذي يجمع بين التّحليل والتّركيب.

ثانيًا: من حيث الحصر بمنطق وحيد

تقرّر لدى هيجل أنّ المنهج الجدلي له علم منطق وحيد هو الّذي اشترطه هيجل لمنهجه الفلسفي. أمّا نحنُ فنرى أنّ جميع أنواع المنطق كالصّوري لأرسطو، ومنطق المشرقيين لابن سينا، والمتعالي لكانط، والجدلي لهيجل، والاختباري لباكون والمسمّى «الأورغانون الجديد»، والمنطق الرّياضي لليبنتز وفريجة وراسل. ([37]) وغير ذلك من أنواع المنطق سواء أموجدةً كانت أم محتملة الوجود؛ يُمكن أن تمنهج التّضامر، أي: أنّها بتعددها تصلح لأن تضبط التّضامر وأن ينضبط بقواعدها. ولا يقيّد ذلك الانفتاح للتّضامر على أنواع المنطق المختلفة إلّا مفهوم الدّلالة المُحدّدة. على حين جدليّة هيغل فهي -وحسب ضوابط هيغل، بخلاف التّضامر- لا تستطيع أن تتمنهج إلّا بمنطقها هي، ولا منطق لها سواها.

ثالثًا: من حيث دائريّة المنطق الجدلي

يتميّز المنطق الهيجلي بأنّه مغلق على نفسه، أشبه ما يكون بالدّائرة الّتي تلتقي نهايتها ببدايتها، وهذه الميزة افترَضتها طريقة تفكير هيغل. وتوضيح ذلك: أنّ المنطق الهيغلي، يتناول الفكرة الشّاملة في مراحل ثلاث:

في المرحلة الأولى: يدرس الفكر الخالص أو الفكر في ذاته ولذاته «فالمنطق هو علم الفكرة الخالصة أو هو علم الفكرة الشّاملة في وسطها الفكري الخالص…» ([38]).

في المرحلة الثّانية: يدرس الفكر حين ينتقل إلى الآخر، أي نقيضه، أو حين يخرج من عالمه الخاص إلى عالم آخر غير ذاته، من الفكر الخالص إلى المادّة الصّلبة «فالفكرة الشّاملة في فلسفة الطّبيعة، تضع نفسها في تخارج، وتسلخ نفسها من وجودها المناسب…» ([39]).

في المرحلة الثّالثة، تدرس هذا الفكر نفسه، حين يعود من الآخر إلى ذاته إلى حياته الروحيّة متحرّرًا من عبوديّة الطبيعة.     

«فمهمّة المنطق -كما تصوّرها هيجل- هي تتبّع الدّيالكتيك حتّى نهايته…» ([40])؛ وهذا يفسّر لنا السّبب في أنّنا حين نصل إلى نهاية المنطق لا نجد أمامنا متناقضات، فليس ثمّة تقسيمات فرعيّة بعد ذلك لأنّ الفكر الخالص قد وصل إلى نهايته، وما دام أنّه لم يعد هناك انتقالات ولا مقولات فرعيّة؛ فإنّه لم يبقَ أمامنا سوى الفكرة المطلقة في نقائها الخالص، وهي لهذه الصّورة الخالصة للفكر ولهذا فإنّنا نجد أنفسنا من جديد -في نهاية المنطق-مع البداية الّتي بدأنا منها ([41]).

أمّا في التّضامر فالأمر يختلف؛ لأنّه يتحرّك في عددٍ غير محدّد من أنواع المنطق المعروفة أو ما سيُعرف منها، وهو في كلّ واحد منها له خصائص تتناسب وذلك المنطق. لهذا فهو منفتح على جميع الاحتمالات، لا يُمكن وصفه بالدّائري كما هو الشّأن في منطق هيغل. إضافةً إلى أنّه لا يُمكن -في الوقتِ نفسه- سلب مفهوم الدّائرية عنه. إنّه دائري حين ينظر له من جهة المنطق الدّائري، وهو ذو نهايات مفتوحة حين يُنظر له من المنطق ذي النّهايات المفتوحة كالمنطق الاحتمالي أو الرّياضي أو غيره.

من هنا كان منطقنا؛ منطق متضامر، تضمر كليته التعدّد، ويضمر كلّ معدود فيه ما لا يماثله من المعدودات الأخرى. فإنّ افترضنا أنّ حالة الإطلاق قد تصل بنا إلى الدّوران على النّفس، فهذا –جدلًا- وارد؛ ولكنّه لا يستغرق التّضامر ككل، بل هو منضو ضمن الاحتمالات الممكنة لتقابل اللامتماثلات.

منطق التّضامر يشتمل على التعدّد، وفي الوقتِ نفسه ينطوي في كلّ معدود، وهو من حيث اشتماله على الجميع يُعدّ منطقًا كليًّا، هو يتلوّن بلون كلّ منطق على حدة، وفي هذا التلوّن يخرج من الانغلاق أو الدّوران الحصري على الذّات. أي: أنّ التّضامر يُمكن أن يكونَ منطقًا جدليًّا نسبة للمنطق الجدلي؛ ولكنّه في الوقتٍ نفسه يُمكن أن يكون ليس جدليًّا نسبة لأنواع المنطق الاخرى.

رابعًا: من حيث انعكاسيّة المبادئ الجدليّة

من المبادئ الّتي يستند إليها المنهج الجدلي:

«إنّ كلّ تعين سلب، وإنّ كلّ سلب تعين».

«إنّ الايجاب والسّلب يتحول كلّ منهم إلى الآخر».

«إنّ الهوية لا تنفصل عن الاختلاف» … إلخ.

 هذه مبادئ صحيحة في مضانها؛ إذ اشتمال الشّيء في ذاته على نقيضه هذا وارد في الطّبيعة. أمّا هل كلّ شيء يضمن نقيضة في الفكر وفي الطّبيعة، أم لا؟ فهذا تجيب عنه فلسفة هيغل ضمن حدود منطقها. أمّا ما نريد أن نلفت إليه هنا فهو: هل مبدأ التّضامر الذي ينصّ على «أنّ كلّ شيء يضمر لا مثيله»، هو تعبير عن هذه الجدليّة الهيجليّة أم أنّه شيء آخر؟

إنّ منطوق مبدأ التّضامر يُشير إلى التّشابه مع المفهوم الجدلي، إذ:

كلّ سلب هو لا مثيل لتعين وبالعكس،

وكل إيجاب هو لا مثيل لسلب وبالعكس،

وكل هويّة هي لا مثيل لما يخالفها وبالعكس،

ولكن هل هو تطابق تام أم نسبانوي؟

 في الحقيقة، هو تطابق نسبانوي؛ إذ وكما ذكرنا، فإنّ التّضامر يُمكن أن يتلوّن بلون أي منطق وأن يتطابق معه؛ ولكنّه ليس تطابقًا تامًّا يستغرقُ فيه أحدهما الآخر، بل هو انطباق نسبانوي، أي أنّ التّضامر يُمكن أن يكون دلالة هيغليًّا بالاستناد إلى منطق هيغل لا بالاستناد إلى منطقه هو؛ إذ منطق التّضامر لا يقتصر على منطق بعينه. ما يُحقّق هذه النّظرة هو: أنّ مبدأ التّضامر حين يُنظر إليه بالاعتماد على الخصائص الذّاتيّة لمنطق التّضامر نفسه؛ فإنّه يتجاوز المنطق الجدلي، ليُعطي أفكارًا ودلالات أخرى؛ إذ في منطق التّضامر لا تفارق نظرتنا لشرطيّة الاحتمال المفتوح ورمزها (ح + 1). وعلى هذا تُصبح المبادئ الهيغليّة في قراءة التّضامر بالشّكل الآتي:

كلّ سلب يضمر (تعين + 1)

ما الّذي يُمكن أن يضمره السّلب غير التّعين وَفْقَ منطق التّضامر؟

يُمكن أن يضمر السّلب: السّلب المحض، التّعين المحض، لا سلب ولا تعين، أكثر من تعين، أكثر من سلب +1، وحين نجمع الاحتمالات المضمرة نجد أنّها لا تُساوي المظهر هو: السّلب.

نعم، حين نأخذ أحد الاحتمالات ونبحث عمّا يضمره، قد يتضمّن وجود بقيّة الاحتمالات؛ ولكن لا يصحّ العكس أيضًا. أي: كلّ احتمال يُمكن أن يتضمّن بقيّة الاحتمالات ولكن لا يصحّ أن يكون مجموع الاحتمالات مساويًا لأحدها؛ وذلك لأنّ علاقات التّضامر غير انعكاسيّة ([42]).

بتعبير أيسر: لا يصحّ عكس المبدأ في التّضامر لأنّ المضمر يتضمّن قيمة مجهولة، تُؤدّي إلى خرق التّناظر ومن ثمّ التّطابق الّذي يصحّ معه الانعكاس. معنى ذلك أنّه وفي منظور التّضامر:

قد يصحّ أنّ كلّ تعين سلب؛ ولكن لا يصح العكس.

وقد يصح أنّ كلّ سلب تعين؛ ولكن لا يصح العكس.

وهكذا جميع المبادئ الّتي تستند إليها الجدليّة الهيجليّة.

ننتهي من ذلك إلى القول: إنّ التّضامر يختلف عن الجدل من حيثُ أنّه لا يقبل الانعكاس، في حين يفترض المنهج الجدلي ذلك الانعكاس كضرورة جدليّة داخليّة.   

خامسًا: من حيثُ التّثليث الجدلي

(1) معلوم أنّ الايقاع في المنطق الهيغلي منظّم على شكل ثلاثي؛ إذ هناك سلسلة من المثلّثات الّتي تسير من تلقاء ذاتها سيرًا ضروريًّا، وأنّ الحدّ الأوّل من المثلّث يكون مباشرًا دائمًا، والحدّ الثّاني متوسّطًا، والحدّ الثّالث هو جمع وتأليف بينهما.

«فالبذرة وجود مباشر بالقياس لما ينتج عنها من نبات، والوالدان بالنّسبة لنسلهما وجود مباشر كذلك، إلّا أنّ البذرة والوالدين يعتبران نسلًا لشيء آخر، والطّفل بغض النّظر عن وجوده المتوسّط يعتبر مباشرًا لأنّه موجود. والقول أنّى مقيم في مدينة برلين –وهذا وجودي المباشر- تتوسّطه تلك الرحلة الطّويلة الّتي قمت بها إلى أن وصلت إلى هذه المدينة …» ([43]). يُمكن القول: إنّه ليس ثمّة شيء لا في الأرض ولا في السّماء ولا في الرّوح، ولا في مكان آخر لا يتضمن المباشرة والتوسّط معًا ([44]). إذا كانت المباشرة هي: البداية أو أيّ نقطة بدء أو فرض نبدأ منه، فالتوسّط هو على العكس، هو: أيّ نتيجة أو نهاية «لأنّ التوسّط يعني إنّك تتّخذ من شيء نقطة بداية تسير منها إلى شيء آخر، بحيث يكون وجود الشّيء الثّاني متوقّفًا أو متعمدًا على وصولنا إليه من خلال شيء آخر متميّزًا عنه» ([45]). تلك هي خاصيّة الضّلع الثّاني لأيّ مثلّث، فهو يعني –دائمًا- أنّنا نصلُ إليه من طريق شيء آخر، وأنّه يحمل لذلك سلبًا أو نفيًا لهذا الشّيء الأوّل الّذي اتّخذنا منه قنطرة للعبور. والضّلع الثّالث يجمع دائمًا بين المباشر والتوسّط أو هو المركّب في كلّ مثلث من الضّلعين الآخرين، وهذا المركّب يزيل الاختلاف والتّناقض الموجود بين الضّلع الأوّل والثّاني ويحتفظ بهما في آن.

خذ مثلًا مثلّث: الوجود –العدم– الصّيرورة، تجدُ أنّ الاختلاف والتّناقض بين الوجود والعدم وهما ضلعي المثلّث المباشر والمتوسّط، يندمجان في وحدة تُسمّى الصّيرورة، وفي الصّيرورة لم يُلغ الاختلاف تمامًا بل تحوّل إلى وحدة أضداد، وهنا -وعلى هذه الحالة- يُطلق هيغل مصطلحًا يعدّه من أكثر المصطلحات الفلسفيّة أهميّة وهو «الرّفع». معنى الرّفع هو: أنّ الاختلاف والتّباين بين المتناقضات يرتفع؛ لكنّه لا ينعدم، بل يبقى كعاملٍ حي يكون مضمون المقولة الثّالثة، ثمّ الضّلع الثّالث يكون ضلعًا أوّل في مثلث جديد، وهكذا. يُلاحظ هنا أنّ المثلّث الثّاني يحتفظ في جوفه بالقضيّة ونقيضها الخاصّة به، والقضيّة ونقيضها الخاصة بالمثلث الأوّل أيضًا، ومع التسلسل يسير المنهج الجدلي دون أن يفقد شيئًا على الإطلاق، ففي كلّ خطوة من خطواته يحتفظ بجميع الخطوات السّابقة.

هذا باختصار شديد، مبدأ التّثليث الفلسفي في جدلية هيغل، فهل يسير التّضامر على ذات المبدأ مع تغيير في المسميات فحسب؟

تتكون علاقة التّضامر من ثلاثة مفهومات أساسيّة وهي: المظهر، المضمر، الدّلالة المُحدّدة. وللوهلة الأولى نحن إزاء مثلّث قد يُقابل المظهر فيه الضّلع المباشر، والمضمر يُقابل ضلع التوسّط، ثمّ الدّلالة المُحدّدة تقابل الضّلع الثّالث المركّب.

في الواقع إنّ افتراض هذا التّقابل باطل من أساسه، وبُطلانه ليس لوجود اختلاف في استخدام المفهومات، أو ترجمتها بمصطلحاتٍ أخرى، بل لأنّه لا يوجد تقابل بين الاثنتين من الأساس. صحيحٌ أنّ مبدأ التّضامر يتكوّن من هذه المفهومات الثلاثة؛ ولكنّها لا تشكّل مفهوم المثلث المتداخل مع نفسه أبدًا، وتوضيح ذلك كالآتي:

التّضامر يفترض أنّ الأولويّة للمظهر، والمظهر ليس شرطًا أن يكون الوجود، بل قد يكون العدم؛ وذلك لأنّ التّضامر لا يفرق بين الوجود والعدم، فأيّهما افتُرضت أولويته على الآخر، فإنّه يكون بمنزلة المظهر النّسبانوي للعلاقة المراد قراءتها وَفْقَ دلالة مُحدّدة. لماذا لا يقطع بالقول إنّ الأوليّة للوجود على العدم؟ لأنّنا نعتقد أنّ تلك قضيّة احتماليّة لا يُمكن البتّ فيها بالضّرورة، وما كان احتماليًّا جاز حمله على الوجهين.

إذن، المظهر أوّلًا في التّضامر بغض النّظر عن ماهيّة ذلك المظهر؛ ولهذا فكلّ شيء بلا استثناء ما إن يُستحضر ذهنيًّا لعلاقة تضامر فإنّه يكون مظهرًا. فعند تحديد المظهر، يُصبح كلّ ما عداه بمنزلة المضمر فيه أو المضمر بالنّسبة له. فالمضمر هو: كلّ شيء ما عدا ما حُدِّدَ كمظهر. فلو حدّدنا ساعة اليد –مثلًا- كمظهر، فإنّ كلّ ما عدا تلك السّاعة من أشياء في الوجود والمعرفة هي مضمرات بالنّسبة لها.

هنا نُلاحظ أحد أهم الفوارق بين الثّنائيّة الجدليّة وبين الثّنائيّة التّضامريّة، وهو أنّ الجدليّة تفترض أنّ الضّلع الثّاني يجب أن يكون النّقيض للضّلع الأوّل في مثلثها. أمّا في التّضامر، فإنّ ما يقابل المظهر ليس نقيضه تحديدًا، بل هو كلّ شيء من نظائر وأشباه ومضادات ومناقضات ومباينات ومقابلات وغير ذلك. فساعة اليد، لها نظائر من القالب نفسه، ولها أشباه من قوالب أخرى، ولها مضادات بخصائص أخرى ولها مناقضات بمواصفات معاكسة، ولها، ولها، ولها. كل ذلك يُثبت أمرًا وهو: أنّ المضمر ليس نقيض المظهر بالضّرورة، بل هو متضمّن للنّقيض كواحد من الاحتمالات الكثيرة. من هنا أطلقنا مصطلح اللّامثيل على المضمر؛ ليس لأنّه سلب للمظهر، بل لأنّه أكثر من سلب، إنّه عندنا وبالتّحديد: مجموع الاحتمالات الممكنة.         

إنّ الضّلعين في مثلّثنا ليسا متكافئين، فالمظهر جزء، والمضمر كلّ ما عدا ذلك الجزء. هذا قبل أن نضع في الاعتبار الضّلع الثّالث –إذا جاز التّشبيه بأضلاع المثلث- وهو الدّلالة المُحدّدة.

رأينا أنّ الضّلع الثّالث في الجدليّة هو: المركب من القضيّة ونقيضها. أمّا الضّلع الثّالث في التّضامر، فليس له علاقة مباشرة بالمظهر والمضمر. إنّه ليس تركيبًا لهما، بل هو قيد أو شرط افتراضي يُراد من وراءه إقصاء الاحتمالات الممكنة غير الضّروريّة في العلاقة التّضامريّة.

في مثال ساعة اليد، عندما نقول: إنّ المضمر هو كلّ شيء ما عدا السّاعة، فهذا تحليل اعتيادي لا يُساعد على الوصول كشف أيّ شيء جديد، وهو أشبه ما يكون بتفسير الماء بالماء؛ ولكن عندما نضع دلالة مُحدّدة -وهي بمنزلة قاعدة اقتران- مثل: عمر الإنسان، هنا ستكون لدينا علاقة ذات أبعاد جديدة تمامًا، وما يتحصّل من ذلك التصوّر الآتي:

ساعة اليد تضمر لا مثيلها بدلالةٍ (عمر الإنسان).

لمّا كانت الدّلالة المُحدّدة تتضمّن عدّة احتمالات ممكنة من قبيل:

–  إن عمر الإنسان يبدأ من نقطة ويتزايد تصاعديًّا ثمّ يصل حدًّا فاصلًا لينقلب تنازليًّا.

– إن عمر الإنسان محدود.

– إن عمر الإنسان ليس محدّد.

– إن عمر الإنسان قد يقطع فجأة لأسباب قاهرة.

– + 1 (وهو احتمال آخر أو أخر يُمكن إضافته).

أقول: لمّا كانت هذه بعض الاحتمالات الممكنة الّتي تتضمّنها الدّلالة المُحدّدة، فإنّ هذه الاحتمالات تُعد مضامين مضمرة في مضمون ساعة اليد المظهرة. على هذا فيُمكن أن نفهم أنّ ساعة اليد تدلّ إضافةً إلى ما هو مألوف منها من الدّلالة على التّوقيت الزّمني، فإنّها تدلّ على:

– إنّ التّوقيت الزّمني فيها يبدأ تصاعديًّا ثمّ ينقلب تنازليًّا. على هذا فبداية التّوقيت ليس السّاعة الثّانية عشر، بل الثّانية الأولى بعد السّاعة الثّانية عشر.

– إنّ الزمن فيها محدود سواء اكانت من 12 ساعة أو 24 أو أكثر، ولا ننسى اننا نتحدث عن الساعة اليدوية كونها المظهر.

– إنّ الزمن في الساعة ليس محدد، بمعنى ان كلّ ثانية هي البداية ويمكن ان تكون هي النهاية. وذلك منطقي لأنّه مرتبط بكون الزمن محدود.

– إنّ الساعة قد تتوقف بشكل مفاجئ لأي سبب كان، كالعطل مثلا، أو نفاذ الطاقة، ولا شك ان ذلك فيه تقابلات مع مرض الإنسان أو موته.

إنّ هذه المضامين والتي حصلنا عليها من عدد من الاحتمالات وَفْقَ الدّلالة المُحدّدة، هي مضمرة في ساعة اليد. ونحن حين نغير الدّلالة كأن نجعلها مثلا: المحبة، أو الكتاب، أو قنفذ البحر، أو ما إلى ذلك، فإنّ الاحتمالات المضمرة الّتي ستظهر لنا ستكون مختلفة تماما.

إنّ اكتشاف هذه التّضامرات، يفسّر التّرابط العلائقي والتعالقي بين الأشياء، وهذا التّفسير من شأنه أن يكشف قوانين مضمرة يُمكن بالاعتماد عليها التحرّك في هذا النّسيج المترابط بين الأشياء. الأمر أشبه بشيفرة الحمض النّووي (DNA) فهي على تعقيدها، تُعدّ النّسيج الموحد للكائنات الحيّة كافّة، ومعرفة قوانين هذه الشّيفرة، تمكن من الاختيار والمفاضلة والتّحسين وفوائد أخرى جمّة ([46]). بالمثل، ما نتوقّعه من إدراك التّضامرات بين الأشياء وَفْقَ الدّلالات المُحدّدة. إننا نقوم في هذا العمل الفكري قيام الكيمائي في مختبره الّذي يمزج بين عناصر كيمائيّة معيّنة وَفْقَ قياسات مُحدّدة ليكتشف المركّبات النّافعة من الضّارة، وليكتشف مع ذلك أسرار الطّبيعة وقوانينها الكيمائيّة. 

(2) كما سبق أن اتّضح، يقوم الجدل عند هيجل على ثالوث اشتهر به وهو: الموضوع، ونقيض الموضوع، ومركب الموضوع ونقيضه، أو الإثبات والنّفي ونفي النّفي كما لخّصته الجدليّة الدّيالكتيكيّة الماديّة أو الماركسيّة في قانونها الثّالث ([47]). وهذا يُمكن ترميزه بالصّيغة:

إنّ لكل (أ) مثبت يوجد نقيض هو (-أ) أي: النّفي. 

ومن ضرب (-أ) في نفسه أو نفي النّفي لتكوين المركب ينتج (أ2).

أمّا التّضامر فيتكوّن من المظهر والمضمر، وكلاهما مُثبت بحسب مسلمات التّضامر، إضافةً إلى أنّ المضمر ليس نقيض المظهر بل إنّ التّناقض أحد المضامين الّتي قد يتضمّنها المضمر وقد لا يتضمنها، وإن تضمّنها فهو لا يقف عند حدّها. فالتّضامر يفترض أنّ:

لكل (أ) يوجد (لا أ)، و (لا أ) = الاحتمالات المتلازمة الممكنة.

لنأخذ مثالًا يوضّح هذه المقارنة: إنّ مقولة الوجود عند هيجل تستصفي اللّاوجود أو العدم، ومن مركب الوجود والعدم يُستَصفى ما يسمّى (الصّيرورة) ([48])، والصّيرورة هي حركة الانتقال (من … إلى)، فإذا قلنا إنّ (أ) تصير فلا بدّ من أن يكون معنى ذلك أنّها تصير (ب) أي إلى شيء آخر مختلف عنها، إذ لا يُمكن لـ (أ) أن تصير (أ) لأنّه ليس ثمّة في هذه الحال انتقال ولا صيرورة ([49]).

وأمّا في التّضامر، فمقولة الوجود تفترض إضمار اللّاوجود، واللّاوجود هنا لا يعني العدم بمعنى انعدام الشّيء كليًّا، بل هو يعني: مجموع الوجود السّابق والوجود اللّاحق والوجود الممكن الآخر؛ الموجود غير المعلوم حاليًّا. هذا ما يعبّر عنه في التّضامر بالصّيغة:

(أ) تضمر (لا أ)

(لا أ) = (أ*)، (أ**)، (أ***)، (أ****). إلخ.

فإذا كانت الجدليّة تفترض الصّيرورة، فإنّ التّضامر يفترض التكثّر والتنوّع، أي: ظهور المتشابهات في النّوع الواحد، وظهور الأنواع المختلفة في الوقتِ نفسه لا بشرط التقيّد بمبدأ الصّيرورة. 

(3) وهذا يقودنا للحديث عن فرق آخر، وهو أنّ الجدل يفترض أن الفكرة تحدث نقيضها فتفضي الفكرة النّقيضة إلى تقويض الفكرة الأصليّة لتحلّ محلّها، وتتكرّر العملية، وما يجري هنا: الحادث يسلب وجود الأقدم، ليحلّ محله. أمّا التّضامر فإنّه لا يفترض ذلك، أي: لا يفترض أن الفكرة تقوض الأقدم لتحلّ محلها، بل يفترض أن الحادث (المضمر) يكثر أو ينوع الأقدم (المظهر)، وربما يفترض التّقويض عرضًا ضمن الخيارات أو الاحتمالات الممكنة ولكنّه لا يشترطه كضرورة أبدًا.  

أيضًا، فإنّ الجدل الهيجلي قائم على أساس عدم إمكانيّة الفصل بين النّقائض، وعلى كشف مبدأ هذا الاتّحاد في صنف أرفع. أمّا التّضامر فهو قائم على أساس عدم إمكانيّة الفصل بين الفكرة أو الموضوع (المظهر) وبين الاحتمالات الممكنة (المضمرة) فيه. وعلى كشف مبدأ هذا التكثر والتنوع في التوحّد.

ومن جانب آخر، نجد أنّ الجدل ينزع نحو الاكتشاف، ويتلخّص اكتشاف الجدل الهيجلي في أنّ أي تصوّر من التصوّرات يضمّ نقيضه على سبيل الإضمار وأنّه من الممكن استنباط هذا النّقيض منه واستصفاؤه ([50]). بالمثل فإنّ التّضامر كذلك ينزع نحو الاكتشاف؛ إلّا أنّ الفرق بينهما أنّ اكتشاف الجدل محصور في حيّز المركب الناتج عن وحدة الأضداد، وهو يكاد يكون لدائرة أوسع من الدّائرة الأصليّة. أمّا اكتشاف التّضامر فهو منفتح على جميع الاحتمالات الممكنة؛ ما يعني أنّه قادر على أن يرسم دوائر متعدّدة متداخلة وغير متداخلة، متسلسلة وغير متسلسلة، متشابهة ومختلفة… دون أيّ حرج أو تضييق؛ ما يُعطي الاكتشاف التّضامر مساحة أكثر شموليّة، ويجعله قابل لتقبل النّظرات المتعدّدة، ومتجاوز لحدود النّظرة الأحاديّة.

وإذا كان هناك من توافق أو تشابه بين الجدل الهيجلي وبين التّضامر، فهو أنّهما معًا يقولان إنّ كلّ المتواليات الفكريّة أو حتّى كلّ متواليات الظّواهر ترتبط منطقيًّا بعضها ببعضها الآخر.

إضافةً إلى ذلك عبر هيجل عن اللّحظة الجدليّة بكونها الانتقال من حدّ إلى حدّ مُناقض له، وعلى التّحفيز الّذي تقدّمه تلك اللّحظة للعقل كي يتخطّى هذا التّناقض إلى المركب؛ فإنّ هناك اللّحظة التّضامريّة، الّتي تتمثّل في الانتقال من حدّ معيّن إلى حدود محتملة منطقيًّا، هي بدورها تحفّز العقل على الاكتشاف، وهو هنا أكثر وفرة كونه يتّجه إلى الانفتاح على الكثرة والتنوّع. إذن:

* لا يوجد في علاقة التّضامر قضيّة ونقيضها ومركبها، بل يوجد قضيّة ولا مثيلها أو قضيّة واحتمالاتها المضمرة. 

* لا يوجد صراع جدلي داخلي ولا توجد وحدة أضداد، بل يوجد استنباط للاحتمالات وتكامل بين اللامتماثلات.

* في التّضامر لا تتسلسل المثلّثات، بل تتكثر الاحتمالات الممكنة غير المُحدّدة وتتنوّع.

لعلّنا بهذا نكون قد وضّحنا بعض الجوانب الّتي يتميّز فيها التّضامر من الجدل الهيغلي درءًا لشبهة الخلط بينهما.

* * *

هذه أهم ملامح الفرق بين الجدل الهيجلي والتّضامر، وإذا ما خرجنا من إطار هذه المقارنة إلى الإطار الأوسع للمسألة، وهو موضوع الجدل نفسه، نجد أن التّضامر يُعيد قراءة ظهور الجدل وتطوّره عبر التّاريخ من طريق قراءته أو نظرته الفلسفية الخاصة. فبالعودة إلى مفارقات (زينون)، نجد فلسفة التّضامر تقف عند تلك المفارقات لتطرح السّؤال الآتي: لماذا خالف (زين) النّمط التّقليدي في التّفكير وتحدث عن تلك المفارقات؟ الإجابة في منظور التّضامر هي: لأنّ الفكر شيء وكلّ شيء يضمر لا مثيله، وقد تمثّل اللّامثيل عند (زينون) بتلك المفارقات. وذات الأمر يُقال عن الانقلاب في المفهومات -عند السّفسطائيين-من النّظر في عالم الظّواهر إلى عالم الذّات الإنسانيّة، وظهور ظاهرة النّظر في المتناقضات، فهو في إطار التّضامر يُفهم على أنّه ظهور لـ (لا مثيل) النّمط التّفكيري السّائد آنذاك، وظهور جدل التهكّم والتولّد السّقراطي، والجدلين الصّاعد والنّازل الأفلاطونيين، ومنطق الاحتمال الأرسطي، وجدل هيغل والجدل المادّي الدّيالكتيكي، وجميع أنواع الجدل الأخرى الّتي تطرّق لها الفلاسفة مثل: ديكارت وكانط وهاملان وكيركغود ومكتجارت وغيرهم. كلّ نوع من هذا الأنواع هي (لا تماثلات) متضامرة، بعضها يدعو لظهور بعضها الآخر.

حول مفهوم النيوتروسوفيا

(1) النيوتروسوفيا Neuter-sophy كلمة مؤلّفة من مقطعين؛ الأوّل بمعنى (محايد)، والثّاني هي كلمة يونانية بمعنى (حكمة). ومن ثمّ يُصبح المعنى الكلمة في مجملها (معرفة الفكر المحايد). هي موقف فلسفي مُحايد من الأطراف المتعارضة، وضع أصولها الفيلسوف الأمريكي (من أصل روماني) (فلورنتن سمارندكه Florentin Smarandache)، أستاذ ورئيس قسم الرّياضيّات والعلوم بجامعة نيومكسيكو الأمريكية.

(2) الفكرة الأساسيّة تتلخّص في النّظر في عدّة زوايا مختلفة في التصوّرات والأنساق القديمة؛ حيثُ يوضّح أنّ أيّ فكرة صادقة في نسق إسنادي مُعيّن يُمكن أن تكون كاذبة في نسق آخر، والعكس بالعكس.

(3) الفرضيّة النيوتروسوفيّة: لنفترض أنّ (أ) هي فكرة، أو قضيّة، نظريّة، حدث، كيان… وأنّ (ليس أ) هي (نفي أ)، وأن (نقيض أ) هي مضاد (أ). فإنّ (حياد أ) تعني ما لا هو (أ) ولا هو (نقيض أ) وتعني (أ َ) هي نسخة (أ). أي: أنّ الحياديّة تقع فيما بين النّهايتين. فعلى سبيل المثال: إذا كانت (أ) = أبيض، فإنّ نقيض (أ) = أسود. لكن (ليس أ) = أخضر، أحمر، أزرق، أصفر… أو أيّ لون عدا الأبيض والأسود. و (أ َ) = أبيض قاتم أو أيّ درجة من درجات الأبيض.

(4) القضيّة الأساسيّة، أي فكرة (أ) صادقة بنسبة ص%، محايدة بنسبة ح%، وكاذبة بنسبة ك%. وهكذا فلكي نُحيّد فكرة ما، يجب أن نكتشف جوانبها الثّلاثة بأكملها: جانب المعنى (الصّدق)، وجانب اللامعنى (الكذب)، وجانب عدم إمكانيّة البتّ (اللاتحديد)؛ ومن ثمّ معكوساتها وتآليفها، وبعد ذلك سوف تُصَنف الفكرة كحياديّة، وهي مؤسّسة ليس فقط على تحليل القضايا المتقابلة (المتضادة) كما تفعل الدّيالكتيك، ولكنً على تحليل القضايا المحايدة فيما بينها بالمثل أيضًا ([51]).           

 (4) تضامريًّا: لما كانت النيوتروسوفيا تتخصّص في مدى الحياد بين المتعارضات. ولمّا كان مدى الحياد هو أحد الاحتمالات الممكنة في التّضامر. فقد صحّ الاستعانة بها كأداةٍ مُناسبة لهذا المدى الحيادي في القراءة التّضامريّة.

هذا يعني، أنّنا حين نتحدّث جانب عدم إمكان الترجيح، كأن يكون على سبيل المثال هل نشأة الحياة بالخلق أم التطوّر، فإنّ النيوتروسوفيا كاحتمال ممكن تخبرنا إنّ اللاتغليب لأحد المنظورين على الآخر هو المنطق الأسلم في هذه الحالة. فيكون هذا الرّأي احتمالًا ممكنًا مقبولًا بدلالته.

حول مفهوم النّسبانويّة

(1) النّسبانويّة هي: نموذج تشاركي بين الإمكانيّة النّسبيّة للذّات الإنسانيّة والقابلية الاحتماليّة للموضوع الخارجي.

(2) يتّضح مفهوم النّسبانويّة أكثر بالمُقابلة بين النّسبيّة الذّاتيّة والنّسبوية الموضوعيّة، وكما مبين في الآتي:

النّسبيّة عادة ذاتية وهي المعبر عنها بـ «الانسان مقياس كلّ شيء» ([52]).

النّسبويّة عادة موضوعيّة وهي المعبر عنها بـ «نسبية اينشتاين».

النّسبيّة: تفترض الحقيقة وفق التغير في الذات والثبات في الموضوع.

النّسبويّة: تفترض الحقيقة وَفْقَ الثبات في الذات والتغير في الموضوع.

النّسبانويّة: تفترض الحقيقة وفق تقابل متغيرين بثبات احتمالي.

مثال: هل العسل حلو … والعلقم مر؟

العسل عند الانسان حلو، ولكن في منظور دودة المش هو مر كالعلقم، فحلاوة العسل إذن لا يمكن أن تكون صفة مطلقة موضوعية وإنما هي ترجمة اصطلاحية خاصة للمؤثرات التي تحدثها جزيئات العسل في العضو الحسي لدى الكائن الحي. والآن:

وفق للنسبية الذاتية يقال: العسل حلو فقط، لماذا؟ لأن الانسان هو المقياس.

وفقا للنسبوية الموضوعيّة يقال: العسل قابل أن يكون حلوا أو مرا أو حتى بلا طعم وذلك بحسب الكائن الذائق، فطعم العسل يختلف بحسب نقطة الاسناد المرجعي، انجاز التعبير.

وفقا للنسبانوية: العسل (حلو لا حلو)، أي الشيء ولا مثيله، وما يحدد الطعم، هوا لتقابل بين تعددية الاعضاء الحسية في الكائنات وقابلية العسل نفسه في أن يعطي جميع أنواع الاطعمة.

ان قابلية العسل هذه تشبه قابلية الضوء الابيض الذي ينضوي على جميعا لألوان ولا تستطيع العين رؤيتها الا بمساعدة محددات خارجية كالموشور او امتصاص الاجسام لبعض الترددات وعكسها للبعض الآخر. فالضوء الابيض نسبة لعين الانسان ابيض، ونسبة لعين كائن آخر قد يكون اخضر، ونسبانويا هو (ابيض لا ابيض).   

إذن: تعدديّة النّسبيّة الذّاتيّة × احتمالية النّسبويّة الموضوعيّة = النّسبانويّة.

(3) كما يُمكن صياغة الفرق بين هذه الثّلاثة مفاهيم بالصّورة:

النّسبيّة ذاتية بحتة لأنّها تُعطي الأولوية لذات الفرد على الموضوع.

النّسبويّة موضوعيّة صرفه لأنّها تُعطي الأولوية للموضوع على ذوات جميع الأفراد.

النّسبانويّة ذاتموضوعيّة لأنّها تُعطي الأولوية لبعض الأفراد على الموضوع أو بالعكس. فالنسبانويّة هي: الحالة الثّالثة بين النّسبيّة والنّسبويّة.

(4) النّسبانويّة هي: (النّسبيّة لا النّسبيّة) أو (النّسبويّة لا النّسبويّة) بدلالةٍ كلّ من الذّات والموضوع.

(5) النّسبانويّة تعني: أنّ لا تعميم إلّا وهو مقيّد بدلالةٍ مُحدّدة.

(6) تُثبت النّسبانويّة المثيل ولا مثيله بدلالةٍ تتّصف بالسنخيّة لكلّ احتمال من الاحتمالات الممكنة. 

حول مفهوم التّأويلانويّة

(1) التّأويلانويّة هي: المنظور المعرفي الّذي يتعامل مع الثّنائيات من قبيل: (الذّات/ الموضوع) أو (العقل/ الواقع) أو (الفهم/ النّص) … وما إلى ذلك.

(2) وفقًا لمراتب التّضامر، فإنّ الإنسان كمرتبة يتموقع بين المراتب الأربعة الأخرى وهي: الإلهيّة، والطّبيعة، والنّص الدّيني، والنّتاج، وهو في تموقعه هذا يشكل خمس ثنائيّات رئيسة هي: (الإنسان/ الألوهة)، (الإنسان/ الطبيعة)، (الإنسان/ النّص)، (الإنسان/ النّتاج)، (الإنسان/ الإنسان).

(3) في كلّ ثنائية من هذه الثّنائيات، ينبثق أثر التّأويلانويّة في الوعي الإنساني.

(4) والتأويلانويّة هي: الآراء أو الأفكار أو الشّروحات أو النّظريّات أو ما إلى ذلك، والمنبثقة عن التّفاعل بين النّشاط العقلي المتكوثر وبين الواقع الخارجي –بما يتضمنه من ذوات- القابل لأكثر من احتمال ممكن.

(5) ينبني هذا المنظور على تصوّرنا لطبيعة المعرفة الإنسانيّة، حيثُ نعتقدُ أنّها وبأيٍّ من الثّنائيات المذكورة تتحقّق فيما لو توفّر ثلاثة شروط لازمة لذلك، وهي:

أوّلًا: وجود الشّيء المراد معرفته.

ثانيًا: وجود النّموذج المعرفي.

ثالثًا: وجود الذّات العارفة.

إذ إذا كان الشّيء المراد معرفته غير موجود أصلًا، أي: عدمًا محضًا؛ فهذا يعني عدم وجود نموذج معرفي للتعرّف إليه، وهذا واضح بنفسه بالضّرورة، فاذا فُقد الأب قبل أن يُنجب مثلًا، فلا ابن لذلك الأب يُمكن الحديث عنه ولا بأيّ وجهٍ من الأوجه. وإذا انتفى الشّرط الثّاني وهو النّموذج المعرفي، فلا يعود لوجود العارف من عدم وجوده من قيمة معرفيّة نسبة لذلك المفقود، فتنتفي المعرفة بانعدام وجود القابل لمعرفته من حيثُ الأصل.

وإذا وجد الشّيء المُراد التعرّف إليه، بأيّ مستوى من مستويات الوجود كان، أعني: حسيًّا كان أو لفظيًّا أو ذهنيًّا أو روحيًّا أو احتماليًّا أو أي نوع من أنواع التّقسيمات الّتي ذهب للقول بها كائنًا من كان. وسواء أواقعيًّا ذلك الشّيء كانأم عقليًّا أم خرافيًّا أم مُفارقًا غيبيًّا، مهما كان؛ فإنّ ذلك الشّيء بوجوده يضمر وجود قابليّة تعريفه بكلّ أنواع النّماذج المعرفيّة المُحتملة المُمكنة؛ فالنّماذج المعرفيّة قائمة في الأشياء القابلة للمعرفة قيام تضامر؛ وهذا يعني: أنّ معرفة الشّيء تتكثر بعدد النّماذج المعرفيّة الّتي تُستظهر منه بواسطة العارف، فعلى سبيل المثال: حين نرى قلمًا على المنضدة، نُدرك -وفقًا للنّموذج الحسّي- الطبيعة الوجوديّة الماديّة لذلك القلم، وفي الوقتِ نفسه نستطيع أن نُدرك -وَفقًا للنّموذج العقلي- القيمة العدديّة لذلك القلم، فنعرفُ أنّه قلمٌ واحد، ونحن أصلًا أدركنا أنّه قلمٌ وليس شيئًا آخر كنتيجة لنموذج معرفي تجريدي سابق؛ إذ لو لم نرى قلمًا قبله ولو لم يُجرّد العقل المعنى الكلّي للقلم ويحتفظ به لما أمكن -ومن الوهلة الأولى- معرفة أنّ ما على الطّاولة قلم، ولو وضعنا أي جهاز مبتكر جديد على الطّاولة ورآه أحدهم من دون أيّ معرفة سابقة، فلن يتمكّن من معرفته معرفةً مباشرة كمعرفته بالقلم، بل سوف يسأل عن ماهيّته أوّلًا، فإن عرف بذلك أمكنه معرفة ما على شاكلته مستقبلًا. هناك النّموذج الفيزيائي والكيميائي لمعرفة القلم، حيثُ يَنظر العلماء من طريق اختبارهم السّابق لخصائص ما هو نظير له، وليس بعيدًا أن يكون لذلك القلم إشارات أو رموز غيبيّة يُخبر عنها النّموذج المُختص بها. وهكذا؛ نعلمُ أنّ جميع الاحتمالات المُمكنة لأيّ نموذج معرفي هي مُضمرة في أيّ شيء قابل للمعرفة، فالتّلازم التّضامري قائم بالضّرورة بينهما.

لكن؛ ما القيمة المعرفيّة لوجود شيء ولقابليته في أن يُتعرّف إليه بأيّ احتمال مُمكن من النّماذج المعرفيّة، إذا كان العارف غير موجود؟

هنا تتّضح أهميّة التّمييز بين قيمتين مُعرّفتَين: القيمة المعرفيّة الإنسانيّة، والقيمية المعرفيّة الوجوديّة. إذ وجود الشّيء يستلزم وجود قابليّته للنّماذج المعرفيّة؛ وعلى هذا فله قيمة معرفيّة ذاتيّة منطوية به، سواء أوُجد الإنسان العارف لها أم لم يوجد، فنحن نعلم أنّ الإنسان وُجد مُتأخّرًا جدًّا بعد تكوّن الكون، فهل يعني هذا أنّ الكون لم يكن فيه قوانين لأنّ الإنسان غير موجود؟ إطلاقًا، كانت القوانين هناك ولا تزال باقية لأنّها موجودة معرفيًّا ووجوديًّا، فلمّا أتى الإنسان وقابلت قابليّته قابليّة الكون على التعرّف إليه، حصل التّجانس، فحصلت المعرفة.

الآن، لنذهب في تصوّر الآتي: لو افترضنا أنّ كارثة كوكبيّة حصلت كتلك الّتي حصلت للدّيناصورات وأدّت إلى انقراض الإنسان كلّه إلّا واحدًا، وبعد أمد مجهول وُجِدت كائنات واعية أخرى غير الإنسان لا تمتّ له ولا لوعيه بصلة، ثمّ إنّ تلك الكائنات أرادت التّعرّف إلى ذاتها وإلى الكون المحيط بها، فحينئذٍ قد يرى ذلك الإنسان الّذي بقي نماذج معرفيّة لم يكن يعهدها من قبل تتناسب مع الوعي الجديد، وعندئذٍ سيعلم -من دون النّاس الّذين انقرضوا- أنّ الكون كان يضمر نماذج للتعرّف إليه غير ما اختلفوا فيه، ووقتئذٍ –أيضًا- يُمكن القول: إنّ قابليّة التعرّف تتناسب طرديًّا مع قابليّة العارف. إنّ المُراد بهذا التصوّر التّخيلي هو توضيح أنّ القيمة المعرفيّة الوجوديّة ليست محدودة بحدود القيمة المعرفيّة الإنسانيّة، وليست مشروطة بها، بل هي سابقة عليها؛ لكن -ومع هذا- فإنّ وجود الكون بلا الإنسان أو أيّ كائنات عارفة به هو وجود لقيمة معرفيّة وجوديّة مضمرة غير مظهرة لعارف؛ أي أنّ الكون بلا إنسان يفقد قيمته المعرفيّة الإنسانيّة أو الكائناتيّة لا قيمته المعرفية الذّاتيّة.

من هنا، فللتّكامل بين القيمة المعرفيّة الإنسانيّة والقيمة المعرفيّة الوجودية يتطلّب ذلك توفّر الشّروط الثّلاثة معًا، بل ويتطلّب تلازمها بالضّرورة. وهذا يوصلنا إلى النّتائج الآتية:

أوّلًا: استحالة وجود إنسان بلا نموذج معرفي واحد في الأقل بالضّرورة.

ثانيًا: تتسلسل طبيعة المعرفة لدى الإنسان من وجود ما هو خارج عنه أوّلًا ثمّ توسّط وجود نموذج معرفي مضمر ثانيًا، وأخيرًا التّناسب بين قدرة العارف على إظهار ما هو مضمر من النّماذج المعرفيّة بما يتناسب وما هو مضمر من إمكاناته.

هذا يعني: أنّ الإنسان لا يولد صفحة بيضاء بالمعنى السّلبي، بل بيضاء بالمعنى الإيجابي، وهو المعنى الّذي تكون فيه المعرفة (موجودة لا موجودة – نسبانويًّا)، فأمّا كونها موجودة فلأنّ القوانين الّتي يتشكّل منها الكون يتكوّن منها الإنسان نفسه، بما فيه من معرفة مضمرة، فالإنسان وفقًا لهذا الاعتبار لا يأتي فارغًا، بل مضمرًا لمطلق القابليّات المُمكنة في الوجود، وتأمّل في مثال الطّفل الّذي يأتي إلى الدّنيا بلا لغة مُحدّدة، للوهلة الأولى تستطيع أن تقول إنّه أتى وعقله صفحة بيضاء من كلّ لغة، وهذا معنى سلبي للبياض، وما نقوله: إنّ ذلك المعنى صحيح نسبانويًّا، أي صحيح إيجابيًّا، ووجه الإيجاب فيه: أنّ عقل هذا الطّفل له القابليّة على تعلّم أي لغة في الكون بحظٍّ مُتساوٍ، وتلك القابليّة تعني أنّه يضمر  تلك الإمكانيّات اللامحدودة. وبتعبيرٍ آخر: لو كان عقله صفحة بيضاء سلبيّة لما أمكن أن يتعلّم أي لغة، ولو كانت مكتوبة سلفًا بلغة أو لغات مُعيّنة لما أمكن تعلّم سواها؛ لكنّنا نرى الطّفل قابلًا لأن يتعلّم أي لغة بلا استثناء؛ إذًا فصفحة عقله البيضاء إيجابيّة. لهذا نذهب إلى القول بالتّكامل التّلازمي بين الشّروط الثّلاثة لتحقيق المعرفة الّتي نتحدّث عنها.

(6) وما ينتج عن التّفاعل بين الإمكانية الذّاتيّة المتكوثرة وبين القابليّة الموضوعيّة المتعدّدة هو الصّياغات التّأويلانويّة اللامتماثلة.

(7) وعلى هذا فجميع النّظريات والتّفسيرات والقوانين والآراء، علميّة كانت أو دينيّة هي عبارة عن صيغ تأويلانوية إنْ للذّات أو الموضوع.

(8) أيضًا، فإنّ ما من شيء في سياق المعرفة إلّا وهو خاضع لخاصيّة التعدديّة التّأويلانويّة.

(9)  وأنّ أيّ تأويل هو صحيح نسبانويًّا بدلالته، وهو مطلق نسبانويًّا بدلالته أيضًا.

(10) يبرز هذا المنظور أكثر ما يبرز من طريق قانون التّضامر الثّالث (قانون تضامر الأجوبة) الّذي ينصّ على أنّه ما من سؤال إلّا وله أكثر من إجابة وحيدة؛ إذ وكما يتّضح هنا، أنّه لمّا كان كلّ شيء خاضع للتأويلانوية، ولمّا كانت التّأويلانويّة تعني التعدّد في الصّيغ المطروحة وَفْقَ دلالاتها؛ فإنّ ما ينتج عن ذلك هو تعدّد الأجوبة الموضوعة بالضّرورة.

* * *

(11) إذا كان لفظ التّأويل يستخدم أكثر ما يُستخدم في مجال تفسير النّصوص، وإذا كان يعني التّأويل على غير ظاهر النّصوص لأسباب تدعو لذلك، كالأسباب العقلية الّتي تمنع الأخذ بما يتبادر إلى ظاهر النّص؛ فإنّ التّأويلانويّة هو تعميم للتّأويل، فهو لفظ يستخدم في مجال تفسير النّصوص والقضايا العلميّة والاجتماعيّة والأدبيّة وغيرها.

(12) بحسب هذا المعنى للتأويلانوية فإنّ الاحتمال الممكن المستنتج من علاقة التّضامر يتضمّن إمكانيّة التّعامل مع كلّ من الطّبيعة والنّص بوجوهٍ متعددة لقراءات مختلفة ممكنة ([53]).  

* * *

(13) فيما يأتي عدد من الآراء بشأن التّأويلات العلميّة:

* كان أينشتاين وكثيرٌ من العلماء يرون أنّ مدرسة كوبنهاغن تمدّنا بالتّأويلات المفتوحة للواقع؛ إذ معادلات الكوانتم هي: نوع من التّأويلات الرّياضيّة أكثر ممّا تخبرنا عن الواقع الحقيقي. فالكوانتم تُنادي بأن لا شيء حقيقي، ولا يُمكننا قول شيء عمّا تفعله الأشياء عندما لا نُشاهدها ([54]).

* يرى فيلسوف لعلم دوهيم أنّ التّجربة في الفيزياء تُؤدّي إلى الملاحظة المثقلة بالنّظرية دائمًا، فالتّجربة ليست مجرّد مُلاحظة لظاهرة ما، بل هي كذلك تأويل نظري لهذه الظّاهرة ([55]).

* إنّ الأفكار النّظريّة للفيزيائيّين كثيرًا ما تؤثّر في النّتائج التجريبيّة؛ كالذي اعترف به بعض الفيزيائيين، لا سيما وأنّ التّجارب عادة ما تسمح بالتأويلات المتعدّدة المختلفة. فلو أنّ هذه النّتائج محكمة في دلالتها لما آل عدد من الفيزيائيين – فيما بعد- إلى تجاوز نتائج النّسبيّة الخاصّة والتّناقض معها، ونسف ما تفترضه من ثبات سرعة الضّوء والحركة النّسبيّة، فأطروحة السّرعة المتغيّرة للضّوء قد تبنّتها نظريّات كثيرة دعت إلى مراجعة النّسبيّة الخاصّة وتصحيحها أو تقويضها، فبعض نماذج هذه النّظريات يتعارض مع نسبية الحركة كالّذي فعله (ماكيويجو) ونظرية (موفات). كما تنبأ آخرون بأنّ الضّوء الّذي يختلف تردّداته أو ألوانه ينتقل بسرعات مختلفة، كالنّموذج الّذي عمل عليه المشار إليه مع (ستيفن ألكسندر ولي سمولين). إضافة إلى نماذج أخرى تعول على اختلاف سرعة الضّوء طبقًا لاختلاف الزّمكان وطاقات التردّد معًا. فهذه النّظريّات بعضها يصلح كنماذج كونية، وبعضها كنظريّات في الثّقوب السّوداء، وبعضها كحلول لمسألة الثّقالة الكموميّة([56]).

* قام بور بتأويل موجة شرودنجر في الكوانتم وهي شيء تجريدي دون أن يكون لها حقيقة في الفراغ لأنّها تحتوي على عدد تخيلي هو (جذر سالب واحد) إلى ما أطلق عليه موجة احتمال؛ لذلك هي موجة غير قابلة للقياس، فهي ليست كموجة الماء أو الصّوت ذات الأبعاد الثّلاثيّة الحقيقيّة، بل موجة رياضيّة مجرّدة؛ ما يعني أنّ هذه الموجة ليس لها وجود مادي مستقل، أو أنّها ليست من مكوّنات الطبيعة، وإنّما ذكرت لتقريب فهمنا للطّبيعة، فما موجود منها لا يزيد على التّعابير الذّهنية الّتي لا تعكس حقيقة الواقع بشيء ([57])

* يعتقدُ الفيزيائي (جيمس جينز) أنّه عندما لا توجد معرفة إنسانيّة فلا وجود للموجات؛ لكونها ليست جزءًا من الطّبيعة، وإنّما من محاولاتنا لفهمها. ويشمل الحال جميع القوى الكهربائيّة والمغناطيسيّة فهي ليس لها وجود دون الإنسان أو الذّات العارفة، بل إنّها –بحسب رأيه- من ابتكار عدد من العلماء: هايجنز وفرزنل وفاراداي وماكسويل ([58])

* من أهمّ التّأويلات ما قدّمه نيلز بور حول مبدأ التّتام أو التّكميل، ومفاده هو: أنّ معرفة جوانب منظومة ما تحول دون معرفة جوانب أخرى من هذه المنظومة، كما في عدم إمكانيّة معرفة موضع الجسيم وحركته في الوقتِ نفسه ([59]).

* يرى الفيزيائي (فريجوف كابرا) أنّ الرّصد للجسيمات غير المرئيّة كالإلكترونات وما إليها هو رصد غير مباشر، مثل رؤية نقطة سوداء على لوح فوتوغرافي، أو سماع قعقعة صوتيّة لعدّاد جيجر، أو مشاهدة آثار الجسيم في غرفة الفقاقيع لدى المسرعات أو المصادمات؛ فمن معرفة ثخن المسار وانحنائه نتعرّف طبيعة الجسيم الّذي يكون هذا المسار، وهي أشبه بالطّريقة الّتي تخلّف فيها طائرة نفّاثة ذيلًا في السّماء، فليس ثمّة دليل على وجودها، وإنّما هي اختراعات ذهنيّة فحسب ([60])

* وضع (بوانكاريه) نظريّة تسمى (الاصطلاحيّة) رأى فيها أن ميكانيكا نيوتن وقوانينها ليست سوى اصطلاحات يفترضها الذّهن دون أن يكون لها علاقة بالقبليّات ولا حتّى بالتّجربة، فقانون العطالة أو القصور الذّاتي –مثلًا- لا يعدّ قبليًّا ولا تجريبيًّا. فليس هناك حادثة يُمكن أن تكون بمعزل عن تأثير سائر القوى الطبيعيّة الخارجيّة ([61]).

* * *

(14) التّأويلانويّة: هي محاولة فهم النّص أو الواقع بطريقة لا تعزل الذّات عن الموضوع، مشروط بلا تجاوزية الذّات للموضوع.

(15) التّأويلانويّة: هي اللّاتوقّف عند حدّ ظاهر النّص ومظهرية الواقع، واللّاسير بمعزل عن حرفيّة النّص وحدية الواقع.

(16) التّأويلانويّة = التّأويل النّصي + تأويل العلمي.

(17) التّأويلانويّة تبحث في الاحتمالات الممكنة لفهم النّص أو الواقع دون اشتراط التّطابق.

(18) الاحتمالات الممكنة في التّأويلانويّة هي تطابقات نسبانوية سواء للنّص أم الواقع.

(19) العلاقة المعرفيّة بين المراتب هي: علاقة تقابل تأويلانويّة.

(20) التّأويلانويّة تتبنّى منظور (التّطابق لا التّطابق – نسبانويًّا) بدلالةٍ النّص أو الواقع.

(21) التّأويلانويّة لا تنطلق إلّا من مُظهر راسخ نسبانويًّا.

(22) من مباني تأويلانويّة العلم:

عند طرح سؤال من قبيل: هل الجسيمات المجهريّة بحسب الوصف العلمي موجودة أم لا؟ فإنّ الإجابة سيختلف حولها، وفي أحسن الأحوال ستغلب النّزعة البرجماتيّة، وبحسبها فإنّ هناك حوادث تخضع للملاحظة في غرفة الاختبار، وتلك الحوادث حين تُصَنّف أجزاءها على أنّها جسيمات؛ فإنّ بالإمكان وصفها بدوالٍ رياضيّة مُعيّنة ضمن نظام نظري مُحدّد، وبعدئذٍ يُمكن التنبؤ ببعض نتائجها. وكل ذلك لا علاقة له بحقيقة هذه الجسيمات إن كانت موجودة بالفعل كما في الوصف العلمي أم لا. الأمر الّذي يصحّ فيه وصف الفيلسوف الهولندي (اسبينوزا) القائل: «العلم صادق لأنّه ناجح، وليس ناجح لأنّه صادق» ([62]).

إنّ هذا يُعطينا تصورًا عن وجود فجوة بين النّظريّة والواقع، وكون النّتائج تأتي متوافقة مع الواقع فهذا لا يلغي وجود تلك الفجوة، وبمجرّد وجود مثل هذا الفاصل فهذا يعني حضور البعد التأويلانوي في النّتاج العلمي.

حقيقة التّأويلانويّة هنا تكمن في أنّ الذّات تبتكر شيئًا رياضياتيًّا تفترض تمثيله لواقع مجهول الحقيقة، فالجسيمات الذّريّة ليست ككرات البلياردو أو الكواكب مما يُمكن رصدها رصدًا مباشرًا. إنّ ما يُرصد هو الأثر فقط، وأمّا حقيقة المؤثّر أو طبيعته فهي مجهولة. فإن تمكّنت التقنية مستقبلًا من رصد تلك الجسميات رصدًا مباشرًا، وتم التحقّق من واقعيتها كما هو متصوّر عنها، كما نحن متحقّقين من الطّائرة في ذاتها وأثرها، وقتئذٍ ستطابق النّظريّة الواقع وتختفي التّأويلانويّة بدلالةٍ ذلك التّحقق؛ إذ من الممكن أن يكون لها حضورٌ بدلالاتٍ أخرى.

(23) التّأويلانويّة: تعني أنسنة النّص أو الواقع أنسنة نسبانويّة.

(24) تفقد التّأويلانويّة حضورها في حالتين: إذا ما جرد النّص أو الواقع من الأنسنة تجريدًا كليًّا، أو إذا ما فرضت الأنسنة على النّص أو الواقع فرضًا شموليًّا. 

(25) تجد التّأويلانويّة حضورها في النّزعة البرجماتيّة في العلم والنّزعة التماثليّة في الفهم.

 (26) بماذا يختلف مفهوم التّأويلانويّة عن التّأويل؟

للتأويل ثلاثة معانٍ أساسيّة، وهي:

الأوّل: إرجاع الكلام إلى ما يحتمله من معنى، ولو كان بالاقتراب منه.

الثّاني: صرف الكلام عن المعنى الرّاجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.

الثّالث: التّلاعب بالكلام وَفْقَ أحكام قبليّة أحاديّة المنظور ([63]). 

أمّا التّأويلانويّة فهي الاحتمال الممكن استلاله من تقابل شيئين لا مُتماثلين بدلالةٍ مُحدّدة.

مثال توضيحي: ما معنى كلمة الفجر في الآية القرآنية (وَالْفَجْرِ)؟

– وفقًا للتّأويل بالمعنى الأوّل: إنّ معناها: أوّلًا لنهار. وهذا هو الأقرب للذّهن وبخاصّة وقد تلتها لآية القائلة (وَلَيَالٍ عَشْرٍ).

– وفقًا للتّأويل بالمعنى الثّاني: يُمكن أن يكون المعنى -وكما ذكر عدد من المفسّرين (المؤولين)- النّهار بطوله، أو أول يوم من المحرم لأن السنة تتفجر منه. أو أوّل ذي الحجة.

– وفقا للتأويلانوية: قيل: أقسم بالصخور التي تتفجر منها عيون الماء.

نلاحظ هنا أمرين لا متماثلين: أولهما يتعلّق بالزّمان والآخر بشيء مادّي (الصّخور)، وثانيهما يتعلّق بالدّلالة المشتركة بينهما، وهي هنا مصدر اللّفظ اللّغوي الثّلاثي وهو (ف ج ر)؛ إذ بالرّكون إلى هذا المصدر نُقِل المعنى إلى مستوى آخر، مستوى اعتباري لايماثل الدلالة اللفظية الاساسية او المعنى المتداول أو المألوف. إذ بهذه النقلة تحول المعنى من الدلالة اللفظية او المعنى الاساسي الى دلالة اخرى علاقية مستفادة من ذلك المصدر.

وفي جانب آخر لن يكون غريبا ان نضيف مثلا: الانفجار العظيم الذي خلق فيه الكون أو نشأ بحسب النظرية. فهو حدث عظيم ومتفرد ولعله أعظم من تفجر المياه من الصخور. نعم نحن نعلم ان هذا الانفجار لا يزال نظرية احتمالية ليس إلا، ولكن هذا لا يصد عن ادراجه ضمن المفهوم العام للقسم بالفجر، إذ التأويلانوية تقوم في أصلها على اجتلاب الاحتمالات وضمها لبعضها البعض.
صحيح ان الأقرب الى الفهم هو أن الفجر يعني أول النهار وهو الشائع ايضا؛ ولكن هناك لكلّ مفسّر أو مؤول دلالة مُحدّدة وَفْقَ منظوره حَمَلَته إلى إضافة المعنى العلاقي الخاصّ به.  ونحن ان اعملنا الاتساع في الفهم فسيمكننا ان نعد كل تفسير حقلا قابلا لإضافة افتراضات علاقية أو تأويلانوية أخرى، ومنها يُمكن القول: لفظة الفجر تحتمل الدّلالة على مولد حضرة الرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، بل ولا أجد مايمنع من تعميمه ليشمل ولادة أي شيء حين تتفجر فيه الحياة او من خلاله.

ونحن إن نظرنا إلى جميع تلك الأوجه، فلا نستطيع أن نغلق فهم القرآن الكريم على التّفسير (المعنى الأساسي) دون التّأويل (المعنى العلاقي)، ولا العكس. إضافةً إلى أنّنا لا نستطيع أن نغلق الحقيقة على أحد الأوجه المذكورة ضمن مستوى التّفسير أو مستوى التّأويل. بل نقول بنوع من الارتباط التّلازمي أو الحقلي بينهما. ونحن نطلق على هذا التّرابط اسم (التعنقد التّشابكي) لكونه يكون عناقيدي مفهوميّة متشابكة. وهنا نستعين بالمنظور الّذي طرحه (ايزوتسو) حول طبيعة العلاقة بين ما يسمّيه بالمصطلحات المفتاحيّة لنعكسها على فهمنا لطبيعة العلاقة بين الأوجه اللّامتماثلة للتّفسير والتّأويل (التّأويلانويّة)، وكما مبين في الصّورة الآتية:

 إنّ التّأويلانويّة هي المنظّمة المفهوميّة الّتي تتعامل مع مثل هكذا تعنقدات متشابكة، تجمع بين التّفسير والتّأويل، وبين المعنى الأساسي والمعنى العلاقي، وبين الفهم ولا مثيله، في منظور تكاملي أو تشاركي واحد. فالتّأويلانويّة ليست مجرّد محاولة اكتشاف المعنى الاقتراب منه، بل هي تبحث عن التّشاركات مع النّظائر لها في مستويات أو مراتب أخرى، بالارتكاز إلى دلالاتٍ تشاركيّة مُحدّدة بين تلك المستويات أو المراتب.

(27) التّأويلانويّة تعمل في المجال الّذي تتقابل فيه التّأويلات اللامتماثلة. وعلى سبيل المثال:

في التّأويل الفيزيائي: افترض (ايفيريت) عام 1956 اعتمادًا على ما يُعرف بتناقض قطّة شرودنجر، أنّ واقعنا الكوني ليس الوحيد، ليفتتح باب نظريّات متعدّد الأكوان. اقترح الفيزيائي الرّوسي (أندريه ليند) أيضًا، أنّ ظروف التمدّد التضخّمي قد تكرّرت مرّات ومرّات في مناطق منعزلة منتشرة في الكون مؤدية إلى عوالم جديدة منفصلة ضمن شبكة كونية لا نهائيّة، بحيث تتوالد ذاتيًّا. الفكرة الّتي يُدافع عنها (ليند) أنّ التضخّم ليس له بداية لتكون له نهاية، وما دام التضخّم الكوني متواصل فإنّ التذبذبات الكموميّة مستمرّة، ووَفقًا لمبدأ (هليزنبرغ) فإنّ الأكوان الانتفاخيّة تتولد طوال الوقت من داخل الأكوان الموجودة من قبل، وبعد أن تتخلق فإنّها سرعان ما تنمو كبرعم ينفصل، ثمّ إنّها تلد أكوانًا خاصّة بها، وهكذا تتكوّن فقّاعات كونيّة قابلة للتضخّم باستمرار دون انقطاع. وقد تدخل بعض الأكوان ضمن هذا السّيناريو في طور التقلّص ومن ثمّ الانسحاق والاختفاء، أو يتخافت التضخّم شبيهًا بما تحدّث عنه نسخة جوث الأصليّة، ومن الجائز إمكان وجود نوع من الشّيفرة الوراثيّة تسبب أن تكون الأكوان المتولّدة شبيهة بآبائها، كما يُمكن أن تكون هناك طفرات وراثيّة أيضًا، وقد يكون كوننا طافرًا من كون آخر يحمل قوانين فيزيائيّة مختلفة ([64]).

في التّأويل الصّوفي: الإنسان نسخة مصغّرة عن الكون، والفرق أنّ الكون متفرّق في الخارج مجتمع في الإنسان، ويعبّرون عن ذلك بقولهم: الإنسان كون صغير والكون إنسان كبير ([65]).

في التّأويلانويّة: يُلاحظ أنّ هناك مشتركًا مفهوميًّا بين التّأويلين: كونيّة الإنسان وإنسيّة الكون، فيعدّ هذا المشترك دلالة مُحدّدة بينهما، وبعد تحديدها ينطلق لتطبيق قوانين التّضامر، بحثًا عن التّكامل بين التّأويلين. وكما مبين في الآتي:

– لمّا كان الإنسان يتوالد وينضج ويهرم ويموت، فإنّ ذلك يضمر الدّلالة على أن الأكوان تتوالد وتنضج وتهرم وتموت.

– لمّا كان هناك نموذجان مقترحان لتكوين الإنسان، النّموذج الخلقي وهو التّكوين المباشر والنّموذج البثي وهو النّاتج من التّناسل، فإنّ ذلك يضمر الدّلالة على أنّ تكوين الأكوان يتم بنموذجين وليس نموذجًا وحيدًا، وإن كان نموذج الاستنسال هو الأكثر تكوينًا.

– لمّا كانت بعض الولادات تولد ميتة، فهذا يضمر الدّلالة على أن بعض الأكوان لا تكتمل بل تفنى فور انفصالها عن الكون الأم.

– لمّا كان التّكاثر الإنساني يتمّ بين جنسين، فهذا يضمر الدّلالة على أنّ هناك نموذجين لا متماثلين من الأكوان، ومن طبيعة التآثر بين تلك الأكوان تحصل عملية إنتاج الأكوان الأطفال.

وهكذا يُمكن الاسترسال مع هذا التّقابل بين التّأويل الفيزيائي والتّأويل الصّوفي، وهذه العملية التفاعليّة بين تأويلين لا متماثلين، لكلّ منهما مقبوليّته في مجاله، تسمّى: العملية التّأويلانويّة.

في مثل هذه الحالة التّأويلانويّة لا تقوم بذاتها، بل بتعاطيها مع النّماذج المختلفة من التّأويلات؛ ما يعني أنّها تعميم للتّأويل، إذ تأويلانويّة تأويل وليس كلّ تأويل تأويلانويّة.

 

حول مفهوم الاحتمالات الممكنة

(1) من النسبيّ المحدود نرتقي نحو المطلق المفارق، ومن الماهيَّة المعقولة نجرّد المفهوم الكلّي اللامحدود، ومن الجزئي المحسوس نسبر أغوار اللانهايات، ودائمًا، هناك بداية معلومة ونهايات مفتوحة، وتلك النّهايات هي ما نسميه بـ «الاحتمالات الممكنة «.

(2) هي جمعيّة ما يأتي:

ح1. النّقيض أو النّفي (المستوى الجدلي).

ح2. الحياد (المستوى النّيوتروسوفي).

ح3. النّسبانويّة (المستوى التّضامري).

ح4. التّأويلانويّة (المستوى العلمي أو الدّيني).

ح5. إضافةً إلى ثابت التّضامر ورمزه (+1)

(3) الاحتمالات الممكنة تعني:

المضمر (ض) لا يماثل المُظهر (ظ)، والصّياغة الرّمزيّة لذلك هي:

ظ ı| ض  ولمّا كان:

ض = ح1، ح2، ح3، ح4، +1

فإنّ: ظ ı| ح + 1 (بالاستعاضة)

فهذا معنى أن (ض) لا تماثل (ظ).

(3) أيّ احتمالٍ مُضمر يضمر بدورهِ احتمالاتٍ لا تماثله. إذ لمّا كان وجود أيّ مظهر بدلالة محدّدة، يدلُّ على وجود عدد غير محدّد من المضمرات. ولمَّا كان كلّ مضمر لحظة حضوره يصبح مُظهرًا. فهذا يعني أن أيّ مضمر قابل للانفتاح بدوره على عدد ٍغير محدّد من المضمرات بدلالة محدّدة. والمضمرات الثَّانية قابلة لما قبلته سابقاتها، والثَّالثة والرَّابعة… وإلى ما لانهاية. من هنا، فإنّ كلّ مظهر يمكن أن ينفتح على عدد غير محدّد من التشعّبات والتسلسلات اللانهائيّة.

هذا هو شأن أيّ شيءٍ في الوجود ِأو المعرفة، يمكن أن ينفتح على كلّ شيء، وإذا ما كان مقترنًا بدلالاتٍ محدّدة، فإنّ ذلك يكشف عن جمال ِالنِّظام فيما يظهر أنَّه تشابك فوضويّ من اللانظام.

حول مفهوم الدّلالة المُحدّدة

(1) التّعريف العام للدّلالة:

هي: «كون الشّيء بحالة إذا علمت بوجوده انتقل الذّهن إلى وجود شيء آخر».

(2) سبب الدّلالة:

إنّ الذّهن لا ينتقل من شيء إلى شيء بلا سبب، وليس السّبب إلّا العلم بالملازمة بين الشّيئين خارج الذّهن. وتلك الملازمة على ثلاثة أقسام: إمّا ذاتية وإمّا طبعيّة وإمّا بوضع واضع (وضعيّة)، وتبعًا للملازمة تكوّنت أقسام للدّلالة.

أمّا الدّلالة الذّاتيّة فسببها فيما إذا كان بين الدّال والمدلول ملازمة ذاتيّة في وجودهما الخارجي، كالأثر والمؤثر، فمثلًا: ضوء الصّباح يدلّ على بزوغ الشّمس دلالة عقليّة، حتّى قبل رؤية بزوغها بالفعل. أمّا الدّلالة الطبعيّة فهي ممّا يقتضيه طبع الإنسان، من قبيل: أن يُقال: (آخ) عند الحسّ بالألم، و (آه) عند التوجّع، و(أف) عند التأسّف والتضجر، أو فرقعة الأصابع عند السّأم، أو العبث بأشياء كاللّحية عند التفكّر، أو التثاؤب عند النّعاس … إلخ. هذه الطّباع تختلف باختلاف النّاس وليست كالأثر بالنّسبة للمؤثّر الّذي لا يتخلّف ولا يختلف. على حين الدّلالة الوضعيّة، هي فيما إذا كانت الملازمة بين الشّيئين تنشأ من التّواضع والاطّلاع على أنّ وجود أحدهما يكون دليلًا على وجود الثّاني. كالخطوط الّتي اصطلح على أن تكون دليلًا على الألفاظ، كإشارات الأخرس وإشارات البرق واللّاسلكي والرّموز الحسابيّة والهندسية ورموز سائر العلوم … إلخ. فإذا علم الإنسان بهذه الملازمة وعلم بوجود الدّال ينتقل ذهنه إلى المدلول.

(3) مفهوم الدّلالة المُحدّدة في التّضامر:

في فلسفة التّضامر يتم التّعامل مع دلالة مخصّصة أو ذات مفهوم خاص يصطلح على تسميتها: (الدّلالة المُحدّدة). وهي دلالة تقييديّة، وظيفتها: نقل الذّهن من حالة التّعميم إلى حالة التّخصيص، في سياق صياغات العلاقات التّضامريّة. مثلًا عند القول: جنس الذّكر يضمر لا مثيله، فإنّ ذلك اللّامثيل ينقل الذّهن إلى التّعميم والاطلاق ليشمل كلّ شيء إلّا الذّكر، فكأننا نقول: جنس الذّكر يضمر الوجود بأسره. لكن لو قلنا: وجود جنس الذّكر يضمر لا مثيله بدلالةٍ جنس الكائنات الحيّة فعندئذٍ سوف يتقيد الذّهن بمجال محدّد من التّفكير، فتصبح الدّلالة على الإضمار في جنس الذّكر متعلّقة بأنواع الأجناس، وهي هنا ستكون: الأنثى، الخنثى، متعدّد الجنس، أحادي الجنس…إلخ. ولو أنّا خصّصنا الدّلالة أكثر بأنّ قلنا مثلًا: بدلالةٍ الجنس الإنساني، لأصبح جنس الذّكر يضمر في وجوده الدّلالة على وجود جنس الأنثى، والخنثى، وما عرف بالجنس الثّالث.

إذن، الدّلالة المُحدّدة هي: «ما تُقيّد انتقال الذّهن من وجود الشّيء إلى وجود ما لا يماثله في حدودها هي». أو هي: «انتقال الذّهن من المُظهر (الدّال) إلى المضمر (المدلول) المقيد بدلالةٍ مُحدّدة».

(4) ضرورة الدّلالة المُحدّدة في التّضامر:

إذاكانت طبيعة التَّضامر تفترضُ وجودِ المُظهر ابتداء.

وتفترضُ إمكانيةالاستدلال على وجودِ مضمرات لاتماثل المُظهر.

فإنّهُ يفترض أيضًا وجود محدّد مُعيّن مسبقا يخصّص تعميم هو يقيّد إطلاقة.

إنَّ افتراض هذا المُحدّد مستفاد من طبيعة المُظهر نفسه.

المُظهر بطبيعته مُحَدّد، ولهذا فهو يُفترض أنْ يكون مُرتبطًا بمضمراتٍ محدَّدة.

لا يوجد مظهر غير محدَّد على الإطلاق. حتى المطلق هو محدَّد في حدود ِفهمنا للإطلاق، وإنْ نزَّهنا المطلق من فهمنا للإطلاق، فقد حدَّدناه في تنزيهنا ذاك أيضًا.

نعم، المطلق في ذاته لذاتهِ مطلق، أمَّا لنافه ومحدَّد بشكلٍ من أشكال ِالتَّحديد.

الكلّي محدَّد في حدودِ المفهوم الذي تمَّ تجريده منه.

واللانهايات محدَّده في حدود بدايات سبَّبت تكوينها وامتدادها.

إذن: كلُّ شيء، كل مظهر، له تعلّق ضروري بشكلٍ من أشكالِ التَّحديد. ومن هذه الضَّرورة، برزت الحاجة الىتخصيص مايتعلّق بالمظهر من مضمرات بتحديد معيَّن.  وهذا التَّحديد أسميناه: الدّلالة المُحدّدة. فالتضامر لا ينفك عن تلك الدلالات المحددة، والا فقد معناه.

(5) أهميةالدَّلالةالمحدّدة:

هي الشَّرط الذي يحدِّد مسار عمليَّة التَّفكير بين الَّلحظة اللازمانيَّة وبين الَّلحظة الزمانيَّة.

فلو سُئلنا: هل المادَّة هي الطاقة؟

إنْقلنا: المادَّة هي الطَّاقة، فسنصطدم بثنائيّتهما، وتكون الإجابة خاطئة.

وإنْقلنا: المادَّة غير الطَّاقة، فسنصطدم بوحدتهما، وتكون الإجابة خاطئة.

لذا نحتاج إلى دلالةٍ محدّدة، وحين نضعها فستكون الإجابات بالشَّكل:

المادَّة هي الطَّاقة بدلالة ِالَّلحظة اللازمانيَّة.

المادَّة غير الطَّاقة بدلالةِ الَّلحظة الزَّمانيَّة.

وبدلالة أخرى تكون هنا كإجابة أخرى.  

 (6) خاصيَّة الدَّلالة المحدّدة:

تتَّصف الدلالة المحدّدة في أنّ َلها أوَّل وهو المظهر ولكن ليس لها آخر. وبتعبير آخر: تُخبرنا الدلالة المحددة أن المظهر محدود في مظهريّته غير محدود في مضمريّته.

(7) مكوّنات الدّلالة وصيغتها التّضامريّة:

تتكون الدّلالة في صيغتها العامّة من ثلاثة مكوّنات:

الدّال: مثل صوت طرقة الباب.

المدلول: الطّارق للباب.

الدّلالة: انتقال الذّهن من الدّال إلى المدلول.

ولمّا كانت علاقة التّضامر هي: كلّ شيء يضمر لا مثيله بدلالةٍ مُحدّدة. فهذا يعني:

كلّ دال يضمر مدلوله بدلالةٍ مُحدّدة. ولما كانت الصّيغة الرّمزيّة لعلاقة التّضامر، هي:

المظهر (أ) ı| المضمر (لا أ) ← القيد (د)   فإنّ:

أ = المُظهر = الدّال

لا أ = المُضمر = المدلول

د = الدّلالة المُحدّدة = الدّلالة

(8) توزيع الدّلالة المُحدّدة:

يُمكن للدّلالة أن تَنقل من المظهر إلى المضمر، وكما مبيّن في الآتي:

إذا كان (أ) يضمر (لا أ) بدلالةٍ (د)

وكان (لا أ) = (ب) فإنّ ذلك يحتمل الصيّغ الآتية:

 أ ı| لا أ ←د   ……………… (المقّدمة)

أ ←د ı| ب    ………………..(الاحتمال الأوّل للنّتيجة)

أ ı| ب ←د    ……………… (الاحتمال الثّاني للنّتيجة)

إنّ ما يحدّد ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، أي: متى تكون الدّلالة تابعة للمظهر ومتى تكون تابعة للمضمر؟ هو الفهم الّذي يشترط رفع التّناقض.

(9) تبادل الدّلالة المُحدّدة:

«إذا تضامر علمان، فيمكن أن يكون كلّ منهما الدّلالة المُحدّدة للآخر».

يُمكن صياغة ذلك بالشكل:

«إذا تضامر (أ) و (ب)، فإنّ (أ) هو (د) بالنّسبة لـ (ب) وبالعكس».

حيث إنّ: كلّ من (أ، ب) علم قائم بذاته، (د) رمز الدّلالة المُحدّدة.

(10) الفرق بين الدّلالات:

هنا فرق بين الدّلالة المُحدّدة في التّضامر وبين التّضامر نفسه كدلالة. فالدّلالة المُحدّدة هي: ما سبق بيانه من كونها القيّد أو الضّابط الّذي يحدّد مسار علاقة التّضامر في مجال محدّد أو معيّن. أمّا دلالة التّضامر فهو: ما يستدلّ على وجوده من احتمالات مضمرة يُمكن أن يَدلّ المُظهر بوجوده على وجودها. وبهذا المعنى:

المُظهر هو دليل المُضمر.

والمضمر مدلول المُظهر.

والتّضامر هو: عملية الاستدلال على المدلول من الدّليل.

 والدّلالة التّضامريّة: المتحصّل من انتقال الذّهن من المُظهر إلى المُضمر.

حول مفهوم الـ (لا) التّضامريّة

(لا) في اللّغة، تدلّ على أحد الأوجه الآتية:

إمّا النّهي كما في قولك: (لا تكتبْ).

أو النّفي للجنس، مثل: (لا رجل في الدّار).

أو العطف، مثل: (نجح زيد لا عمرو).

أو الزّائدة، مثل: (ما جاءني زيد ولا عمرو)

أو حرف جواب، مثل: إذا سألك أحدهم، هل نجح أخوك؛ قلت: لا.  

ما يُلاحظ على هذه الأنواع أنّها تشترك بسمة عامّة، وهي: وظيفة المنع أو السّلب، فهل هذه هي وظيفة (لا التضامري) أيضًا؟ وبصيغة أخرى؛ حين نقول: إنّ الشّيء يضمر لا مثيله، فهل نرمي إلى أنّ اللّامثيل هو سلب تعين الشّيء؟

الجواب: هو لا. إذ لو كنّا نُريد أن نسلب أو ننفي تعين الشّيء لقلنا: «إنّ الشّيء يضمر لا شيئيته»، والحال هنا ليس كذلك؛ ولذا فلا مثيل الشّيء لا يدلّ على سلب الشّيء، بل على إثبات أشياء أخرى غير المثيل.

أضف إلى ذلك، وجود مفهوم الإضمار بين الشّيء ولا مثيله، وهو مفهوم يختلف في معناه عن معنى مفهوم المساواة أو المطابقة. فعندما نقول: (1 يساوي 1)، فهذه المعنى يختلف عن قولنا: (1 يضمر 1)، إذ المساواة تعني: أنّ كلّ من المتساويين مشتملًا على الآخر لزومًا أو بينهما تضمن متبادل. أمّا الإضمار فيعني: احتمال الاشتمال واحتمال التضمّن المتبادل، والفرق واضح بين اللّزوم وبين الاحتمال.         

من هنا، فإنّ وجود مفهومي: الإضمار والمثيل بين المقدّمة والنّتيجة، تغير مسار عملية الفهم جملة وتفصيلًا. فلا يعود بإمكاننا الوقوف عند تصوّر أنّ لا مثيل الشّيء يعني سلبه أو نفيه، بل يضع أمامنا عددًا من الاحتمالات، يُمكن أن يكون السّلب أو النّفي من ضمنها.

* * *

كان حديثنا عن (لا التّضامريّة) من حيث اللّغة، والمقايسة المنطقيّة، وأمّا الآن فسنتحدّث عنها بلغة المفهوم الدّال على المضمون، ولفعل ذلك سنستعين بالسّؤال الآتي: ما الفرق بين الوعي واللّاوعي؟

لا شكّ في أنّ النّظر نظرةً مجرّدة إلى ثنائيّة: (وعي/ لا وعي) تُعطينا دلالة التعيّن وسلبة، أو الوجود ونفيه. لكنّنا هنا لسنا في حالة تجريد، إنّنا نتحدّث عن مفهومات متداولة في علم النّفس في أقل تقدير، وللوعي واللّاوعي معنى معروف، وهو يختلف عن الثّنائيّة المجرّدة.

الوعي: هو ما يُكون لدى الإنسان من أفكار ووجهات نظر ومفهومات عن الحياة والطّبيعة([66]).

اللّاوعي: وَفْقَ النّظريّة الفرويديّة، هو: محتويات ذهنيّة تقمعها التربية منذ الطّفولة، فتُدفَن تحت حاجز الكبت الّذي يمنعها من الوصول إلى الوعي. تستمرّ هذه المحتويات في التّأثير في الوعي، وهي قابلة لأن تشكل جزءًا منه.

نُلاحظ هنا: أنّ الوعي هو تعبير عن شيء موجود. واللّاوعي هو –أيضًا- تعبير عن شيء موجود، كلّ منهما في مستوى أو مجال من مجالات العقل، وإذا كانا كلاهما موجود، فهذا يعني: أنّ الـ(لا) هنا لم تدلّ على النّفي كما هو شأنها، بل على إثبات لمضمون آخر في مستوى آخر.

بتعبيرٍ آخر: اللّاوعي لا يعني في علم النّفس نفي تعين الوعي أو سلبه لوجوده، بل تعني إثبات وجود تعين آخر لا يماثل الوعي، وذلك الوجود المتعين له خصائص تختلف عن خصائص الأوّل، وهو غير منفصل عنه، بل موجود في الموقع الذّهني نفسه، بل ويؤثّر أحدهما في الآخر ويتأثّر به. ولا يُمكن فصلهما عن بعضهما.

إنّ المواصفات المذكورة سلفًا في ثنائيّة (الوعي/ اللّاوعي) هي: ما نصطلح عليه اسم: التّضامر، الوعي واللّاوعي متضامران؛ لأنّهما غير مُتماثلين، وغير منفصلين.

نحن حين نقول: الوعي يضمر لا مثيله. وحين نقول: إنّ لا مثيل الوعي هو اللّاوعي؛ فنحنُ لا نعني باللاوعي نفي الوعي أو سلب وجوده، بل نعني الوجود الآخر الّذي لا يشبه الوجود الأوّل ([67]).

إذن، تدلُّ (لا التّضامريّة) على وجود المستوى الآخر من الموجود، وهو المستوى الّذي نسمّيه المستوى المضمر؛ ولهذا فـ (لا التّضامريّة) لا تنفي موجود بل تُثبت وجود أكثر من موجود.

* * *

علينا الآن واستكمالًا لخصائص (لا) التحدّث عن المستوى المتداخل لحضورها في التّضامر.

إذ لمّا كان المعنى الاصطلاحي لمفهوم المضمر هو الاحتمالات الممكنة، ولمّا كانت (لا) مقترنة بالتضامر؛ فإنّ ذلك يعني أنّ فاعلية (لا) القطعيّة بالنّفي أو النّهي في غير التّضامر، تتحوّل إلى مستوى الاحتمال التّضامر. أي: أنّ الـ (لا) في التّضامر تدلّ على الاحتمال وليس القطع أو اليقين. ولمّا كان المضمر يحتمل جميع الأوجه بما فيها النّفي؛ فتأثير (لا) سيظهر في الاحتمالات الممكنة كاحتمال يدلّ على النّفي وكاحتمال يدلّ على الوجود الآخر، وكاحتمالاتٍ أخرى.

وخلاصة القول:

الـ(لا) في التّضامر تدل على جميع الاحتمالات الممكنة – بضمنها النّفي-الّتي تعبّر عن حالة اختلاف المضمر عن المظهر؛ لأنّ اللاتماثل لا يتحقّق إلّا بتلك الكثرة من الاحتمالات المضمرة.

 * * *

وفقًا لمفهوم (لا التّضامريّة) تبيّن أنّ النّظريّة لا تقرأ الشّيء بما يضادّه أو يناقضه أو يعاكسه، بل بما لا يُماثله وهو أعمّ من جميع دلالات التّخالف. ولنضرب مثالًا على شكل سؤال وهو:

ما مضمر (الذّكر) بدلالةٍ الجنس؟

الجواب: نكتب صيغة علاقة التّضامر-وهو هنا تضامر ذاتي؛ لأنّه لم يقترن بشيء آخر يختلف عنه-وتلك الصّيغة، هي:

أ ı| لا أ ← د

أ ı| (ح + 1) ← د

نعوّض في العلاقة بالشّكل:

ذَكر ı| لا ذكر ← جنس الكائن الحي.

فنستنتج الاحتمالات الممكنة، وهي:

لا ذكر = الأنثى، الخنثى، أحادي الخليّة، ثنائي الجنس، الجنس الثّالث + 1

يفهم من هذه النّتيجة الأمور الآتية:

  1. إذا كان المضمر هو (لا) المظهر، فإنّ هذه الـ (لا) لا تعني النّفي أو الضدّ أو العكس، بل لها معنى اصطلاحي خاص ربّما لا يُعمل به إلّا في التّضامر فحسب.
  2. (لا ذكر) لا تعني تتوقف عند معنى عدم الذّكورة، ولا تتوقف عند معنى الأنثى أيضًا؛ بل تعني جميع الاحتمالات الممكنة لأنواع الجنس المختلفة غير الذّكورة.
  3. رأينا في النّتيجة (+1) وهي كما قلنا تعني أنّ المضمر يحتمل وجود جنس آخر واحد في الأقل. وعلى هذه الشّاكلة تُقرَأ جميع أنواع التّضامرات، سواء أكلماتٍ كانت أم جملًا أم نظريّات أم أشياء موجودة.

مثال الكلمات:

الحبّ يضمر لا حب.

الطّول يضمر لا طول.

وأمثلة الجُمل:

* (الكّل يُساوي مجموع أجزائه) يضمر [لا (الّكل يساوي مجموع أجزائه)]

* (لا يُمكن أن يحيط المنتهي باللامنتهي) يُضمر [لا (لا يُمكن أن يحيط المنتهي باللّامنتهي)] ([68]).

وأمثلة النّظريّات:

* (نظريّة النّسبيّة) تضمر [لا (نظريّة النّسبيّة)]

* (نظريّة نيوتن) تضمر [لا (نظريّة نيوتن)]

وأمثلة الأشياء:

* المادّة تضمر لا المادّة.

* الصّلابة تضمر لا الصّلابة.

* * *

لمّا كان المُضمر لا يعني بالضَّرورة أنْ يكون النَّفي للمُظهر، فلا لا يُشترط أنْ تكون هناك علاقة جدل بالمعنى الدّيالكتيكي المحدود بين المُظهر والمضمر.

حول مفهوم التّناقض

إنّ منطوق نظريّة التّضامر بشكلها العام وهو «كلّ شيء يضمر لا مثيله» يحمل العقل على تصور التّقابل التّناقضي بين الأشياء، إذ لما كانت (أ) تضمر (لا أ) فمن المنطقي أن يسبق الذّهن إلى أنّ التّضامر يعني التّناقض. لكنّنا نشدّد على أنّ مفهوم التّضامر لا يُساوي مفهوم التّناقض وإن كان المنطوق قد يُوحي بذلك. وهذه الملاحظة يُمكن توضيحها من خلال التحليل أدناه:

التناقض لغة: نقض الشّيء أفسده بعد إحكامه، ونقض اليمين أو العهد نكثه، ونقض ما أبرمه فلان أبطله، وناقض غيره: خالفه وعارضه. وتناقض القولان: تخالفا وتعارضا، والكلام المتناقض هو الّذي يكون بعضه مقتضياً إبطال بعض ([69]).

والتّناقض، في اصطلاح الفلاسفة، هو اختلاف تصورين أو قضيتين بالإيجاب والسلب. مثل قولنا (ب) و(لا – ب)، أو قولنا (ب) صادقة و (ب) غير صادقة أي كاذبة. قال ابن سينا: «التّناقض هو اختلاف قضيّتين بالإيجاب والسّلب بحيث يلزم عنه لذاته أن تكون إحداهما صادقة، والأخرى كاذبة» ([70]). إنّما تكونان كذلك إذا اتّفقتا في الموضوع والمحمول لفظًا ومعنى، واتّفقتا في الكُلّ والجزء، والقوّة والفعل، والشّرط والإضافة، والزّمان والمكان، أمّا إذا اختلفتا في شيء من هذه الأشياء لم يجب أن تقتسما الصّدق والكذب، وإذا كانت القضيّتان مخصوصتين كفى في تناقضهما هذه الشّروط، أمّا إذا كانتا محصورتين زاد شرط آخر وهو اختلافهما في الكميّة.

التّناقض أيضًا هو الجمع في تصوّر واحد أو في قضيّة واحدة بين عنصرين متنافرين كقولنا دائرة مربّعة، أو ضياء مظلم … إلخ.

النّقيضان هما الأمران المتمانعان بالذّات، بحيث يقتضي تحقّق أحدهما انتفاء الآخر. ونقيض كلّ شيء رفعه، والمراد بالرّفع ما يستفاد من كلمة (لا) و (ليس) كقولنا: الإنسان واللاإنسان.

ومبدأ التّناقض: هو القول إنّ الشّيء نفسه لا يُمكن أن يكون حقًّا وباطلًا معًا، وهذا القول إنّما هو نتيجة لمبدأ الهُويّة أي لقولنا: (ما هو هو).

بهذا المعنى الموسّع نريد فهم حقيقة مفهوم التّضامر بالنسبة لمفهوم التناقض، ويُمكن تلخيص ذلك بالفقرات الآتية:

(1) إذا كان التّناقض يعني؛ أنّ (ب) إذا كانت صادقة بذاتها فإنّها تناقض (لا– ب) إذا كانت كاذبة بذاتها، فإنّ (لا – ب) من وجهة نظر التّضامر هي واحد من عدّة احتمالات ممكنة لا تماثل (ب)، أي أن:

(ب) تناقض (لا – ب) لا تساوي (ب) تضمر (لا ب)

لأنّ (لا ب) = (لا – ب) + 1

لعلّ من اللّطيف وصف هذه بمقولة الفيزيائي (نيلز بور): «نقيض عبارة صحيحة هو عبارة خاطئة، ولكن نقيض حقيقة عميقة يُمكن أن تكون حقيقة عميقة أخرى» ([71]). أي لا خطأ في الحقائق وإنّما تضامرات.

(2) إذا كان التّناقض يعني الجمع بين عنصرين متنافرين في قضيّة واحدة كقولنا: دائرة مربّعة مثلًا؛ فإنّ التّضامر لم يفترض ذلك في الواقع المحسوس ثلاثي الأبعاد أبدًا؛ ولكنّه لا يستبعد وجود مثل هذه الدّائرة المربّعة في المستويات الطوبولوجيّة أو متعدّدة الأبعاد.

بتعبيرٍ آخر: إنّ التّضامر يشترط في علاقته وجود عنصر أساسي وهو الدّلالة المُحدّدة، وهذه الدّلالة يشترط فيها المعقوليّة المنطقيّة الّتي لا تتعارض مع الثّوابت المتعارف عليها والمشتركة بين الفلسفة والعلم والدّين. ففي التّضامر لا يصح القول مثلًا: الدّائرة تّضمر لا مثيلها وهو المربّع. ولا يصح كتابة العلاقة بالشّكل:

دائرة ı| لا دائرة = دائرة ı| مربع

لأنّ هذه العلاقة غير مكتملة الشّروط لافتقارها إلى عنصر الدّلالة المُحدّدة. فإذا افترضنا أن قائلًا يقول: إنّ الدّلالة المُحدّدة هي الهندسة الاقليديّة، أي أنّ العلاقة تُكتب بالشّكل:

دائرة ı| مربع ← الهندسة الإقليديّة

فإنّ النّتيجة تكون: مجموعة خالية.

أمّا إذا تغيّرت الدّلالة المُحدّدة، فكانت بالشّكل مثلًا:

 دائرة ı| مربع ← فضاءات نظريّة الأوتار الفائقة

فهذا ممكن أن يحصل؛ لأنّ الأبعاد في تلك النّظريّة تصلُ إلى ستةٍ وعشرين بُعدا، والفضاءات المقترحة لتلك الأبعاد تتّصف بالغرابة الكافية لإمكانيّة تصوّر مثل هذا التّضامر.

هذا التّعليل ذاته يُقال بالنسبة لـ مبدأ التّناقض وهو القول: «إنّ الشّيء نفسه لا يُمكن أن يكون حقًّا وباطلًا معًا»، وهذا القول إنّما هو نتيجة لمبدأ الهُويّة أي لقولنا: (ما هو هو).

إذًا، لمّا كان التّضامر يشترط ذكر الدّلالة المُحدّدة ولمّا كان شرط هذه الدّلالة ألّا تكون متعارضة مع الواقع الوجودي أو المعرفي الّذي تمثله، فهو بهذا لا يتساوى مع مفهوم التّناقض.

(3) فيما يتعلّق بمفهوم التناقض القائل: «إنّ النّقيضان هما المتمانعان بالذّات، بحيث يقتضي تحقّق أحدهما انتفاء الآخر، ونقيض كلّ شيء رفعه، والمراد بالرّفع: ما يُستفاد من كلمة (لا) و (ليس) كقولنا: الإنسان واللاإنسان أو الإنسان ليس الإنسان.

  فالجواب هو: إنّ هذا المعنى يتحقّق بدلالةٍ (لا) فإذا كانت الـ (لا) نافية، فإنّ التمانع يحصل بالفعل، وأمّا إن لم يكن معناها النّفي كما هو شأن (لا التّضامريّة) ([72]) فإنّ مفهوم الرّفع والتّناقض نفسه ينتفي.

غير أنّ ممّا يدلّ على اختلاف لا التّضامريّة عن لا النافية هو أنّ: جميع التّضامرات لا يحصل فيها رفع بين متضامرين، بمعنى: أنّ التّضامر لم يتطلّب إبطال المظهر لصالح إثبات المضمر أو بالعكس، بل هو يُثبت طرفي التّضامر. لا بأس هنا في أن نذكر نصًّا للفيزيائي (فيرنر هايزنبرغ) يسوق فيه عبارة عن ميكانيك الكم، يمكنها أن تُعطي ذات المعنى بالنّسبة لفرضيّة التّضامر، يقول فيه: «إن نظريّة الكم قد علّمتنا أنّ من الأحسن أن نتصرّف كما يأتي: حيثما يُمكن استعمال مفهومات ميكانيك نيوتن لتوصيف ظواهر الطّبيعة تكون صيغ قوانينه صحيحه تمامًا ولا لزم لتعديلها؛ ولكن الظّواهر الكهرطيسيّة لا يُمكن توصيفها توصيفًا مُلائمًا بواسطة مفهومات نيوتن. فالتّجارب الّتي تتناول الحقول المغناطيسيّة والأمواج الضّوئية… تقود إلى منظومة مغلقة جديدة من التّعاريف والمقولات والمفهومات الّتي يُمكن تمثيلها برموز رياضيّة، منظومة مُتماسكة بالأسلوب نفسه الّذي كان في منظومة ميكانيك نيوتن؛ ولكنهما يختلفان في الجوهر» ([73]). فما يفعله التّضامر هو أمران أساسيان: أولهما؛ إنّه يقوم بتحديد إطلاق المظهر في مستوى مُعيّن، وثانيهما؛ يفتح باب احتمالات الاستقراء للمستويات الأخرى ([74]).

 

حول مفهوم التّعاكس

مع ما قد يُوحي به مفهوم التّضامر من التّعاكس -خاصّة عند إطلاق التعميمات- مثل: الإطلاق يضمر اللاإطلاق أو اليقين يضمر اللايقين… إلخ، فإنّ الملاحظ من مسلّمات الفرضيّة ومباحثها أنّ التّضامر بعيد كلّ البعد عن معنى التّعاكس. وفيما يأتي بيان ذلك:

التّعاكس في اللّغة: «عكس الشّيء قَلَبَهُ، رَدَّ آخره على أوله… إذا عكست أحرف كلمة بلح فإنّها تصبح حلب»، وللتّعاكس في اللّغة معنى آخر أيضًا، وهو: «التّضاد، كقولك: مضيتُ في طريقي ومضى صديقي في طريق معاكس» ([75]).

في الاصطلاح الفلسفي، هو: «استدلال مباشر يقوم على استنتاج قضيّة من قضيّة أخرى بتصيير الموضوع محمولًا، والمحمول موضوعًا، مع بقاء السّلب والإيجاب بحاله، والصّدق والكذب بحاله» ([76])، وفيه حالتان:

الحالة الأولى: يُستفاد من (كلّ أ هو ب): (أنّ كلّ ما هو نفي لـ ب، هو نفي لـ أ).

الحالة الثّانية: يُستفاد من (إذا كان أ صحيحًا، كان ب صحيحًا)؛ أنَّه (إذا كان ب فاسدًا، كان أ فاسدًا) ([77]).

إذا كان هذا هو معنى التّعاكس في اللّغة والاصطلاح، فهو لا يمتّ بصلة لمفهومات التّضامر؛ لا من حيث الجملة ولا من حيث التّفصيل. فقد تبيّن أنّ (لا التّضامريّة) ليست ناهية وليست نافية وعلى هذا فإنّ المعنى في التّضامر لا ينقلب إلى الضدّ أو النقيض ولا يشترط أن يصير الموضوع محمولًا والمحمول موضوعًا، كما هو الشّأن في التّعاكس.

من جهة أخرى، علينا القول: إنّ نتائج التّضامر لا تمنع أن تكون عكسيّة، فذلك منوط بالدّلالة المُحدّدة وقدرة الباحث في التّضامر على الاستنباط، بمعنى: أنّ التّعاكس كنتيجة واحدة من نتائج كثيرة مُحتملة للتّضامر هو أمر وارد أو غير ممتنع؛ ولكن التوقّف عنده هو الممتنع.

حول مفهوم الضّرورة

ما الضّرورة؟ وهل الضّرورة ضرورة؟ في هذا المبحث سنحاول مُناقشة ذلك لما لهذا المفهوم من أهميّة في التّضامر.

(1) تعريفُ الضَّرورة:

الضَّرورةُ لغة هي: الحاجة، أو المشقَّة الّتي لا تدفع ([78]).

أمّا في الاصطلاح الفلسفيّ فالضّرورةnecessity هي: مقولة أو اسم لما يتميَّز به الشّيء من وجوبٍ أو امتناع ([79])، فهي أمّا إيجابيَّة وهي الوجود، أوسلبيَّة وهي العدم، ويُقابل الضَّرورة الإمكان possibility، أو الجواز contingency. والضَّروري «هو ذلك الشّيء الّذي لا يُعَدُّ حقًّا وحسب؛ لكنَّه سيظلّ حقًّا في كلّ الظروف» ([80]).

وما تتَّصفُ به الضَّرورة هي كونها «تنبع من الجوهر الداخليّ للظَّواهر، وتُشير إلى انتظامها وترتيبها وبنائها» ([81]).

(2) أقسام الضّرورة:

للضَّرورة من حيث أنواعها تقسيمات عديدة، بعضها ثلاثيّ يتمثَّل في: الضَّرورة المنطقيَّة والضَّرورة الطبيعيَّة والضَّرورة المعنويَّة، وبعضها خماسيّ يُضاف فيه لما سبق ذكره: الضَّرورة الميتافيزيقيَّة والضَّرورة الإلهيَّة، وهناك تقسيمات أخرى.

(2-1) الضَّرورة الإلهيّة:

تؤدّي هذه الضّرورة دورًا بارزًا في ميدان اللّاهوت، وتُقال على واجب الوجود، ذلك أنَّ الموجود: واقعي أو ممكن أو ضروري. الضَّروري هو الّذي لا يُمكن أنْ يكون بخلاف ما هو كائن، أي: لا يُمكن تصوّر نقيضه، كما أنَّه لا يحتاج في وجوده إلى علَّة أو شرط، كواجب الوجود عند ابن سينا والجوهر عند اسبينوزا. والله وحده الموجود الّذي يتَّصف بهذه الصِّفة. يقول ابن سينا: «كلّ وجود للشّيء فإمَّا واجب، وإمّا غير واجب، فالواجب هو الّذي يكون له دائمًا، وكل ذلك أمّا بذاته، وأمّا له بغيره». فالله واجب الوجود، أي ضروري الوجود؛ والموجودات كلّها ممكنة، وعلى أساس التَّفرقة بين الواجب والممكن بنى الفارابي برهانه على وجود الله، وصاغه فيما بعد ابن سينا ([82]). كما عدَّ الأكويني أنّ وجود الله ضروري بوصفه عين ماهيَّته، وتصوّر الفلاسفة المحدثين أيضًا، أمثال: ليبتز ([83]) وديكارت: أنَّ الله واجب (ضروري) الوجود على أساس أنَّ ماهيته تقتضي وجوده بالضَّرورة ([84]).

في الجانبِ الآخر نجد أنَّ الفلسفة المادية الّتي اتَّخذ أصحابها مناهج مُضادة تذهب إلى النَّفي التَّام لوجودِ أيّ عالم آخر سوى العالم الفيزيائي المادّي، فالمادّة هي: الحقيقة الوجوديَّة المطلقة وبالعلم فقط وبمنهجه الصَّارم يُمكن كشف أسرار هذا العالم وسبر أغواره، والاعتقاد أنَّ هناك عالمًا آخر غير منظور هي مجرَّد هلوسات ذهنيَّة لا قيمة لها، ومن زعماء هذا المنهج نيتشه وفريدريك انجلز وكارل ماركس الّذي قال: «الإنسان هو عالم البشر، الدّولة، المجتمع. هذه الدَّولة وهذا المجتمع ينتجون الدّين الّذي هو وعي مطلق خاطئ؛ لأنَّ أسبابه (الدَّولة والمجتمع) هي عالم خاطئ»، فالمادَّة ووجودها هي الضَّرورة الّتي تفسِّر نفسها بنفسها. في هذه الفلسفة تنتقل الضَّرورة اللاهوتيّة إلى الجانب النَّقيض، إلى اللاضرورة اللاهوتية.

(2-2) الضَّرورة الميتافيزيقيّة:

تنطبق الضَّرورة الميتافيزيقيةعلى الأحكام التركيبيَّة الوصفيَّة القبليّة، فهي ليست تجريبيَّة استقرائيَّة، أي: لا تخضع لقانون العلية ولا هي تحليليَّة، أي ليست لزومًا منطقيًّا. هذه الضّرورة كسابقتها، عدّها بعضهم مثل( كانط): «علمًا ضروريًّا تمامًا لطبيعةِ العقل البشري»([85])، بل وذهب إلى أبعد من ذلك حين قرَّر أنَّ الميتافيزيقيا هي «الطّفل المدلَّل لعقلنا»، وكما أنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يحيا بلا تنفّس، فهو لا يقوى على أن يتخلّى عن الميتافيزيقيا([86]). غير أنّ كثيرين من المناطقة المُحدثين أمثال (فتغنشتين) و(رسل)،أنكروا تمامًا أن تكون القضايا الميتافيزيقية ضروريَّة، ولم يعترفوا إلّا بالضَّرورة المنطقيَّة([87]).

(2-3) الضَّرورة المنطقيَّة:

وهي الضَّرورة الّتي يقتضيها مبدأ عدم التَّناقض في منطق أرسطو الصُّوري.مثال ذلك:

أن (أ) لايكون مساويًا لـ (ج)، إلّا إذا كان كلّ منهما مساويًا لشيء ثالث مثل (ب).

فإذا فرضنا أنَّ (أ=ب) و(ج =ب) لزم من ذلك أنَّ (أ=ج).

فضرورة هذه النَّتيجة تابعة إذن لصدق المقدّمتين السَّابقتين.

وهي ضرورة استنباطيّة لزوميَّة، تُقال على الأحكام والقضايا حصرًا، ويُطلق عليها المناطقة المحدثون اسم القضايا أو الأحكام التحليليَّة، أي: الّتي تتحدّد قيمة صدقها من اتّساق الألفاظ الدَّاخلة في تركيبها، أي: اتّساق الموضوع والمحمول أو عدم اتساقهما، وتدخل ضمنها الضَّرورة الرياضيَّة. تلك الضَّرورة الّتي أرسى قواعدها أرسطو ولخَّصها في مبادئ ثلاثة:

1- مبدأالهُويّة (أ = أ).

2- مبدأ عدم التَّعارض،الشّيء وضدّه لايجتمعان.

3- مبدأ استبعاد المنتصف (الحد الثّاث المرفوع)، فإمَّا الشّيء وإمّا ضده.

لكن لما جاء هيجل بمنطقه الجدلي عَصف بهذه المبادئ عصفًا، فجدليته تقول: إنَّ الشّيء يحوي نقيضه. ومن ثمّ يسقط مبدأ الهُويّة، ومبدأ عدم التَّعارض، ومبدأ استبعاد المنتصف؛ لأنَّ هذه المبادئ مبنيَّة على خلو الشّيء من نقيضه([88]).

لم يكن هيغل وحده الّذي تجاوز المنطق الصّوري الأرسطي، وعدَّه ليس ضروريًّا، بل وبحسب ما يذكر (علي حرب) في سياق نقده للمنطق الشّكلاني، فإنّ الانقلاب على هذا المنطق قديمة وحديثه بدأ مع (نيتشه) الّذي ضرب مفهوم المطابقة وحاول تفكيك الحقيقة بقراءته للأشياء على أنَّها شبكات من المجاز والاستعارة ([89]). وهذا ما فعله -بشكل خاص-المفكّرون المعاصرون كـ (جيل دولوز) و(ميشال فوكو) و(جاك دريدا) و(ريتشارد رورتي) و(جياني فاتيمو) وسواهم من نقَّاد الحداثة. فجيل (دولوز) وبفضل منطقه بوجهيه: منطق المعنى ومنطق الحسّ، حاول التحرّر من منطق الهُويّة والمطابقة والاستدلال، القائم على فرض قواعد مجرَّدة أو تصوّرات متعالية على الأحداث والتّجارب، إلى منطق الممارسة الفلسفيَّة القادرة على خلق المفهومات وسط ما لا ينفك يحدث ويتشكَّل من الكثرات أو ما يتحوَّل من الصَّيرورات. أمّا (ميشال فوكو)، فإنّه بتحليلاته الحفريَّة تعدَّى منطق الحدود والقضايا نحو منطقة للفكر مستبعدة من التَّفكير تتشكَّل من المنطوقات الّتي تتيح للمنطق أنْ يشتغل وللقضايا أنْ تلتئم، وأمّا (جاك دريدا)، فإنّه بطريقته التفكيكيَّة، قد خلخل البداهات الّتي يتأسّس عليها المنطق ([90]). على حين حاول (ريتشارد رورتي)، بذرائعيته ضرب مفهوم الماهيّة للكلام على الأشياء بوصفها شبكات لا تتناهى من الرّوابط والعلاقات ([91]). في حين حاول (جياني فاتيمو) بقراءته التأويليَّة لـ(هيدغر)، إحلال منطق التّأويل محلّ منطق التَّأسيس وذلك بتعامله مع اللّغة كوسيط أنطولوجي لا يُمكن رفعه أو استبعاده ([92]). وقبل ذلك كان (هيدغر) أوّل من نقد-من بين المحدثين- بوجهٍ مباشر وصريح المنطق الصّوريّ، ففي كتابه «مقدِّمة إلى الماورائيات» يقول: إنَّ المنطق شكَّل عند ظهوره علامة على أفول الفكر الفلسفي ([93]). إلى ذلك ينحو (علي حرب) نحو منطق تحويليّ، يسعى من خلاله إلى القراءة بمنطق الحدث والعلاقة والتحوّل والتَّوليد، الّذي لا ينفك يختلف ويتباين ويتكاثر ويتجدَّد «على نحو يتيح لنا أن نقرأ فيه دومًا ما لم يُقرأ من قبل» ([94]).

عطفًا على نقد المنطق الصوري، فقد تعرَّضت الضَّرورة الرياضيَّة للنَّقد بدورها، فقد كتب (برتراندراسل) يقول: «إنَّني أريد الحقيقة المجرَّدة الّتي لا تقبل الشَّك. بالطّريقةِ نفسها الّتي يطلب بها النَّاس الإيمان. لقد اعتقدتُ أنَّ الحقيقة المجردة سوف أجدها في علوم الرّياضيّات؛ ولكنَّني اكتشفت أنَّ الرّياضيّات مليئة بالقصور. فإذا كانت الحقيقة يُمكن اكتشافها من طريق الرّياضيّات، فإنّ ذلك سوف يكون من طريق نوع جديد من الرّياضيّات. يُبنى على أساسٍ صلب. وعلى حين العمل نحو هذا الهدف على أشدّه، كنت دائمًا أتذكَّر قصَّة الفيل والسّلحفاة. لقد صنعت فيلًا تستطيع أن تعتمد عليه كلّ الرّياضيّات؛ ولكنَّني وجدت أنَّ هذا الفيل يتأرجح؛ لذلك سندته بسلحفاة حتّى لا يسقط؛ ولكن السّلحفاة نفسها غير مستقرة مثل الفيل، وبعد أكثر من عشرين عامًا من الجهدِ الشَّاق، وصلتُ إلى النّتيجة المرة، وهي: أنَّني لا أستطيع أنْ أفعل شيئًا يجعل الرّياضيّات حقائق لا يقربها الشَّك» ([95]). فعبّر بذلك عن أزمة شكّ في وجود أساس ثابت وصلب للعلوم الرياضيَّة، مؤكّدًا أنّ جميع المحاولات للتغلّب على التَّعارض المنطقي قد باءت بالفشل، ولم تسلم الرّياضيّات الكلاسيكيّة (الّتي تعتمد على الأعداد: 1، 2، 3، …) من التّشكيك؛ فعلى الرَّغم من بداهةِ إدراكها، وكونها لا تحتاج إلى براهين إلّا أنَّ عالم الطوبولوجيا ([96]) (بروير) هاجمها بعد أن اكتشف أنَّها فيها نظريّات رياضيّة كثيرة غير صحيحة. فمثلًا الأعداد الحقيقيَّة، إمّا أنْ تكون موجبة، وإمّا سالبة، وإمّا صفرًا. لكن (بروير) أثبت وجود عدد حقيقيّ، ليس موجبًا أو سالبًا أو صفرًا، وانتهى في العام(1353هـ/1934م) إلى القول إنَّ «النَّظريّة الّتي يثبت صحتها بالتَّجربة، يُمكن القول إنّها صالحة حاليًّا، ولا يعني هذا أنَّها حقيقة مؤكَّدة»؛ الأمر الّذي أحدث ثورة في فلسفة العلوم.

(2-4) الضَّرورة الطبيعيّة:

هي الضَّرورة التجريبيَّة أوضرورة الأمر الواقع، ومثال ذلك: إذا قلنا: إنَّ المرجل ينفجر في درجة معيّنة من الضَّغط، دلَّ هذا القول على أنَّ الانفجار تابع لشرطٍ معين، فهذه هي الضَّرورة.

لقد رفضت المثاليَّة هذه الضَّرورة، إذ بخلاف الماديَّة الّتي تُؤمن بموضوعيّة السَّببيَّة وكلّيتها، وتعدّ العلاقات السَّببيَّة علاقات بين الأشياء نفسها، كائنة خارج الوعي ومستقلّة عنه. فإنّ المثاليَّة الذّاتيّة تنكر السَّببيَّة كلّيًّا، وترى فيها مجرَّد نتيجة لتعاقب الأشياء. نجد ذلك عند (جون لوك) الّذي يرى أنّ السَّببيّة لا حقيقيَّة لها، وأنَّه لا معنى للسَّببيَّة سوى ما ينطبع في الذّهن بتأثير التّعاقب من ارتباط ظاهرة سابقة وظاهرة لاحقة، فنتوقع بناءً على هذا حصول الظّاهرة اللّاحقة إذا وجدت الظّاهرة السّابقة، ويكون هذا التوقّع ذاتيًّا بحتًا لا مدخل فيه للضّرورة أو للموضوعيّة ([97]). وكذا نجد ديفيد هيوم يذهب إلى أنّنا لن نجد «سببًا ونتيجة يُمكن لنا أن نخمّن منها فكرة القوّة أو الارتباط الضّروري»([98])، فما عليه الأمر هو مجرد تتالي الأحاسيس البشريَّة الّتي تدرك السَّببيَّة كعلاقة ضروريّة وتعدّ أنَّها وُجدت في عالم الظّواهر بوساطة الذّات المدركة، وعلى هذه الشَّاكلة؛ ولكن من حيث الطَّابع القَبْلي للسَّببيَّة ذهب كَانط إلى: «عدّ قانون الذّهن الخاص هو توحيد الكثرة، على صورة تأليفات كلّية، ومن ثمّ ضروريّة»([99])، الأمر الّذي يعني أنّ الضّرورة ليست موجودة في الأسباب الطبيعيّة، بل في الذّهن.

قد تعترف المثاليَّة الموضوعيّة بوجود السّببيّة مستقلّة عن الذَّات المُدركة؛ ولكنَّها ترسي جذورها في الرّوح، أو في الفكرة، أو في التَّصور الّذي تعدّه مستقلّاً عن الذَّات. من جهةٍ ثانية، نَظر الأشاعرة في علم الكلام الإسلامي في قضيّة العلاقة بين العلّة والمعلوم، أي: العلاقات الضَّرورية الثَّابتة بين الظَّواهر، وأنَّ كلّ ظاهرة طبيعية مقيِّدة بشروط توجب حدوثها اضطرارًا، بمعنى أنّ هناك ارتباطًا صارمًا بين الأحداث والظَّواهر، بحيث إنَّ إحداها العلة تستلزم حتمًا الأخرى المعلول في ظروف مُحدّدة. وتقرّر لديهم أنَّ العلاقة بين العلّة والمعلوم هي علاقة اقتران تتباعي، إذ يوجد بين ما يُسمّى علّة وبين المعلوم مشيئة الله، فالعلّة ليست شرطًا لحدوث المعلول عندهم، ولهذا فإنّ الملاحظة والتَّجربة والاستقراء لا تعبّر عن الضّرورة في حالتها المطلقة، بل هي وَفْقَ هذا المنظور احتماليَّة. عدا عن ذلك فإنّ الغرائب الّتي تذكر في الفيزياء الكموميّة، والنظريَّات الفيزيا-رياضيَّة الحديثة الّتي لا تزال قيد التَّحقق كنظريّة الأوتار الفائقة، تضع قضيّة الضّرورة الطّبيعيّة في مستوى محدّد كنموذج وحيد من نماذج متعدّدة محتملة.   

(2-5) الضَّرورة المعنويّة:

هذه الضَّرورة لا توجب أن يكون نقيض الشّيء ممتنعًا في العقل أو الواقع، أي: لا تعبّر عن مبدأ عدم التَّناقض ولا عن علاقة التَّضاد، بل توجب فقط أن يكون النّقيض قليل الاحتمال. فهي تعبر عمَّا يجب أنْ يكون من النَّاحية الخلقيَّة والوجدانيَّة.مثال ذلك: نجاح الطَّالب أو رسوبه في الامتحان، ووفاة شخص واحد من عشرةِ آلاف شخص في السّنة، وحصول المرء في المجتمع على ربح متناسب مع قيمته العقليّة، فهي كلها ضرورات معنويَّة لا ضرورات طبيعيّة. وقد تحدَّث (ليبنتز) عن الضَّرورة المعنويَّة بوصفها وسطًا بين الضَّرورة المطلقة والحريَّة المطلقة، وأساسها أنَّ الموجود العاقل لا يستطيع أنْ يختار أحد الممكنات إلّا إذا وجده أحسن وأسمى من غيره.

وهي ضرورة رفضها الجبرية بزعم أنَّ إرادة الإنسان العاقلة عاجزة عن توجيه مجرى الحوادث، وأنَّ كلّ ما يحدث للإنسان قد قُدِّر عليه أزلاً، فهو مسيَّر لا مخيَّر، وعلى هذا فما يسمَّى ضرورة معنويَّة هو مجرد شكلانيّات ليس إلّا.

(3) هل الضَّرورة ضرورة؟

لقد رأينا فيما تقدَّم أنَّ جميع أنواع الضّرورات يثبتها بعضهم وينفيها بعضهم الآخر، من هذا نعلم أنَّ الضَّرورة ليستْ ضرورة عند الجميع، بل هي تتأرجح بين الإنكار واليقين، فهي ما بين وبين.. فلم نجد ضرورة مطلقة يجمع عليها الجميع من كلّ النَّواحي وبجميع المعاني.كلّ ضرورة ضرورة عند بعضهم وليست ضرورة عند آخرين. من ذلك نصل إلى أنّ مفهوم الضَّرورة لا يتطابق مع معنى لفظة الضّرورة نفسها.. فإذا كان معنى الضرورة فلسفيًّا أمّا الوجوب أو الامتناع، فإنّ هذين المعنيين يُفترض أنْ يُفهما على أنهما احتماليَّان، أي الضَّرورة الواجبة تحتمل لا مثيلها، والضَّرورة الممتنعة تحتمل لا مثيلها أيضًا.

من الواضح أنَّ علينا أنْ نغيِّر مسار فهمنا لضرورة الضَّرورة؛ وذلك لأنَّنا ومع التَّعارض في فهم الضَّرورة بين القبول والرَّفض- بصورته الشَّاملة- لا نملك معيارًا مُحايدًا تُجمع عليه العقول أو نماذج التَّفكير المختلفة، بحيث يُمكن معه ترجيح أحدهما على الآخر؛ لذا فإنّ ترجيح أحد الرَّأيين على الآخر يعني أنَّنا وبقدر ذلك التَّرجيح نكون قد شكَّكنا في المُرجَّح نفسه، والأمر هنا يشبه اللّامقايسة في فيزياء الجسيمات، فاليقين في موقع الجسيم الذريّ يقابله بالمقدار نفسه لا يقين في حركته وبالعكس، وعلى هذا فالمعرفة بقدر ما تكون يقينيَّة في جانب تضمر ظنيَّة الجانب الآخر.

من هنا تبرزُ الحاجة إلى فهم مفهوم الضَّرورة بِفَهم جديد، فَهم يُثبت الوجهين اللامتماثلين – وجه إثبات الضَّرورة ووجهة إنكارها- بحيث يُصبح هناك هامش مريح للاختيار، إذ ما دام الوجه الّذي نختاره يضمر الاحتمالات الأخرى، وما دمنا موقنين بذلك التّضامر؛ فإنّ نظرتنا لن تكون قطعيَّة أو حِدِّيَّة بل ستكون نهائيّة، والنِّهائيَّة عندنا تعني الوجه الثَّابت الّذي يضمر عددًا غير محدَّد من الاحتمالاتِ المضمرة الّتي لا تماثله.

إنَّنا حين نقترح أنْ تُفهم الضَّرورة على أنَّها احتماليَّة، أي: أنَّها غير مقيَّدة بشرطين محددين هما: إمّا الوجوب وإمّا الامتناع، بل واجبة تحتمل الامتناع وممتنعة تحتمل الوجوب؛ فإنّنا لا نفعل ذلك تكلّفًا، ولا نحاول أنْ نصبغَ هذا المفهوم بما ليس فيه، بل العكس هو الصَّحيح، إنَّ ما نفعله هو نفض الغبار عن حقيقةِ هذا المفهوم؛ وذلك لأنّه -ونتيجة لنمذجة العقل وَفْقَ أنواع من المنطق الصّوري- حُجبت جوانبه الاحتماليَّة خلف مظهريّته القطعيّة، فبات لا يُفهم إلّا بزاوية مُحدّدة. ما نقترحه نحن هنا هو تجاوز هذا الاحتجاب، أي: تجاوز المُظهر إلى الأخذ بالمُظهر والمُضمر معًا، فهذا من وجهة نظرنا هو الأصح في فهم حقيقة مفهوم الضَّرورة.

لعلَّ فكرتنا تتّضح أكثر من خلال مناقشة قضيّة الموت للكائنات الحيَّة وكون تلك القضيّة ضرورة طبيعية أم لا؟ إذ من المعلوم بالضَّرورة أنَّ كلّ كائن حيٍّ يَمرّ بما يُسمَّى دورة الحياة الطبيعيَّة، وهي تتمثَّل –بوجهٍ عام- في ثلاث مراحل: الولادة فالنّضج ثمّ الموت؛ ولكن عندما يثبت اكتشاف كائنات حيَّة قابلة لعدم الموت كقنديل البحر من النوع Turritopsis Nutricula أو دودة الأرض schmidtea mediterranea أو حتّى بعض النَّباتات … فهل انتُهكت ضرورة الموت؟ أي: هل انتفى مفهوم الضَّرورة عن الموت أو بات الموت ليس بضرورة؟

الأمر ليس كذلك؛ لأنَّنا ما زلنا نرى بقيَّة الكائنات الحيَّة تَمرُّ في دورةِ الحياة الطبيعيَّة وتموت، بل وحتَّى تلك الّتي لا تموت هي في الواقع تموت إذا ما عُرِّضت لظروفٍ بيئيَّةٍ مُميتة لها، وهذا يعني أنَّ ضرورة الموت لا تزال فاعلة، الأمر الّذي يعني أنَّ لا موت بعض الكائنات في ظروف طبيعيَّة مواتية لها، لم يهتك أو ينتهك ضرورة الموت، بل انتهك جانب الإطلاق أو التّعميم في مفهوم تلك الضَّرورة. بتعبير آخر: إنَّ ذلك يُثبت أنَّ الضَّرورة يجب أنْ تُفهم بأنَّها محتملة لا أن تُفهم  بأنَّها إمّا واجبة أو ممتنعة. 

إنَّ الشَّرط لتكون فيه الضَّرورة ضرورة، هو أنْ تحتمل لا ضرورتها، فإن لم تُضمر الضَّرورة لا مثيلها، فهي عندئذٍ ضرورة؛ ولكنَّها ليست بضرورة مطلقة أو كليَّة أو شاملة أو ما إلى ذلك … ستكون حينئذ ضرورة مقيَّدة بدلالةٍ القائلين بها دون سواهم. فالضَّرورة هي: ما يكون وجودها يقينيّ بدلالةٍ معيَّنة، ولا يقينيّ بدلالات أخرى. إنَّها اليقين الّذي يُضمر جميع الاحتمالات الممكنة الّتي لا تماثله.

هنا، علينا التّركيز على نقطة نظنّها بالغة الأهمية، وهي أنَّ الضَّرورة حين تضمر لا مثيل ضرورتها، فإنّ ذلك اللّامثيل لا يعني نفي الضَّرورة، ففي مثال ضرورة الموت للكائنات الحيَّة، رأينا أنَّ انتهاك الضَّرورة لم يقوِّض الضَّرورة أو ينفيها، بل ما فَعَله هو تحويل إطلاقها إلى نسبيَّة، وعموميّتها إلى خصوصيَّة، شموليّتها إلى تعدديَّة؛ إذ ظهر لنا أنَّ الموت بشروطه الطبيعيَّة المتمثّلة بدورة الحياة ضرورة لمعظم الكائنات الحيَّة وليس لجميعها، إذ بعض الكائنات لا تموت إلّا بظروف غير طبيعيَّة لها، وفي المقابل هناك كائنات حيَّة تموت في اكتمال دورة حياتها الطّبيعيّة نتيجة للمرض أو الحوادث المختلفة. هكذا نعلم أنَّ لا مثيل الضَّرورة لا يعني عكسها أو سلبها، بل إنَّ اللّامثيل -كمصطلح في فلسفةِ التّضامر- يعني الاحتمالات الممكنة الّتي لا تشبه المُظهر، وهو الشّيء أو الافتراض أو الفكرة موضوع النّقاش.

إذن، هل الضَّرورة ضرورة؟ الجواب: نعم، الضَّرورة ضرورة؛ لكن نسبانويًّا، لماذا؟ لأنَّ بعضهم يفترضها، بل ويقطع بوجودها، فلا يُمكن بعد ذلك أنْ تخرج من ضرورة وجودها. ممّا ذُكِر آنفًا نخلص إلى ما يأتي:

أوّلًا: الضّرورة تضامريًّا: صفة احتماليَّة متضامرة، يثبتها جزم بعضهم بوجودها نسبانويًّا.

ثانيًا: بناءً على الفقرة أوّلًا الضَّرورة لا تخضع لثنائيَّة (إمّا واجب–وإمّا ممتنع) بل لثنائيَّة (أمّا واجب يحتمل الامتناع- وإمّا ممتنع يحتمل الوجوب).

ثالثًا: بناءً على الفقرة ثانيًا، الضَّرورة نسبانويّة الإطلاق؛ وذلك لأنّها من حيث المختلفين حولها بهذا الكيف، إذ كلّ نموذج فكريّ يراها بمنظاره الخاص، ومن نسبانويتها هذه تنبثق مطلاقنويّتها، إذ هي لكلّ نموذج تعدّ مطلقة؛ فالضَّرورة الميتافيزيقيّة –على سبيل المثال- نسبة للميتافيزقيّين مطلقة، والضَّرورة الطبيعيَّة نسبة للطبيعيّين مطلقة، وهكذا باقي الضّرورات، فكلّ ضرورة تتّسم بكونها مطلقة في نسبانويتها أو نسبانوية الإطلاق.

نحن نُعبِّر عن ذلك بقولنا: إنَّ نسبانويَّة الضَّرورة تُضمر إطلاقها، وهنا يجب ملاحظة أنَّ الإطلاق لم يُلغ النّسبانويّة أو ينقضها أو يتركَّب معها ليكون شيئًا ثالثًا، بل إنَّ الإطلاق والنسبانويَّة مثبتان كلاهما في الوقت نفسه، وكلّ منهما له تأثيره الفاعل في الوقت ذاته، هما وجهان لحقيقة واحدة، وجهان غير ممتزجان أو متحايزان أو متضايفإنّ. هما معًا شيء واحد له تلك الخاصِّيتان: النّسبانويّة المطلقة أو الإطلاق النسبانويّ.. إنَّهما متضامران.

(4) الضَّرورات في النّموذج التّضامري

تتّسم البديهيّات في التّضامر بكونها نسبانويّة، بمعنى أنّه ليس شرطًا أن تتّفق جميع العقول على بداهتها بل قد تكون بديهيّة نسبة لشطر من النّاس، ولا تكون كذلك لغيرهم؛ لذا فالبديهيّات قضايا أوليّة ضروريّة قد يُحاول بعضهم استنباط براهين لها؛ ولكنّها من حيثُ الأصل واضحة في ذاتها نسبانويًّا، ووضوحها في ذاتها يتجلّى في كونها تتمظهر وتتكرّر فيما يُسمّى (النّمط المتغيّر)؛ وهو ما يتشابه في العموم ويختلف في التّفاصيل.

إضافةً إلى ذلك فإنّ الضَّرورات في التّضامر ليس لها عدد محدَّد، فيمكن أنْ تختفي ضرورة أو تنبعث ضرورة، حسب المتغيِّرات الحضاريَّة وتأثيرها في نماذج التَّفكير الإنساني؛ لذا فنحن وتماشيًا مع حجم هذه الفقرة المختصرة نُفضِّل الاقتصار على ثلاثة نماذج رئيسة للضَّرورة، وهي: (ضرورة الطبَّيعي اللامتناهي) و (ضرورة العقلي الكلي) و (ضرورة المطلق المفارق)؛ إذ نعتقد أنَّ هذه النّماذج مُجزية -إلى حدّ ما- في التَّعبير عن فكرتنا الّتي تحاول أنْ تناقش ثلاثيَّة (العلم، الفلسفة، الدّين) وكما مبين في الآتي:

أوّلًا: ضرورة الطَّبيعي اللّامتناهي:

هو الفيزيائي الّذي تُدركه الحواس أو القابل لأنْ يخضع للتَّجربة والقياس، وهو لا متناهٍ من حيثيَّة اللّامتناهي في الصِّغر، إذ لم يستقر العلم الطَّبيعي على الجسيمات الأوليَّة للمادة الكونيّة، وهو لا متناهٍ من حيث الكبر، إذ لم يتوصَّل العلم إلى القطع بوجود حدود خارجيَّة للطَّبيعة، بل يرى العلماء أنَّ الكون وإنْ كان في نظرهم محدودًا إلّا أنَّه غير محدَّد، أي نهاياته مفتوحة.

ثانيًا: ضرورة العقلي الكلّي:

هو المفهوم المجرَّد أو المنتزع من الماهيَّة، وهو واحد من حيثيَّة المفهوم، ومتعدِّد من حيثيَّة وجود مصاديق كثيرة مشخصة عنه خارج العقل.

ثالثًا: ضرورة المطلق المفارق:

مصطلح يُراد به الإله، وهو مطلق من حيثيَّة المفهوم الدّيني، وفي هذه الحيثية هو الّلامشروط بغيره، أو الكامل المستغني بذاته عن سواه، أو الّذي لا يتوقَّف وجوده على الذَّات المُدركة له. وهو مفارق من حيثيَّة الوجود، لكونه غيبيًّا، لا تدركه الحواس، ولا تتصوّره العقول، وإنْ كانت تستطيع التَّصديق بوجوده.

(5) مبحث تكميلي: الدّين والبداهة

في هذا المبحث سنُحاول مناقشة بداهة وجود الدّين في الحياة الإنسانيّة، والفرق بين البداهة والضّرورة، والسّؤال المطروح هو: هل يُمكن أن نَعدَّ الدّين موجودًا وجودًا بديهيًّا في الحياة الإنسانيّة أم لا؟ وهل بداهته تلك ضروريّة أم لا؟

بداية علينا أن نعرف البديهيّات (Axioms) وهي: قضايا أوّلية لا برهان عليها وواضحة بذاتها حتّى لكأنما يعرفها الإنسان دائمًا إذا ذُكرت أمامه. قال الجرجاني: «البديهي: هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب، ويرادفه الضروري، كقصور الحرارة والبرودة، وكالتصديق بأن النفي والإثبات لايجتمعان ولا يرتفعان» ([100]). وقيل: البديهي هو الذي يفرض نفسه فرضا على العقل ولا يترك له أدنى مجال للشك. مثل: الأشياء المتطابقة متساوية.

(5-1) هل الدّين بديهي الوجود؟

إنّ ما نريده في حديثنا هنا هو البداهة المعرفيّة (الأبستمولوجية) للدّين وليس البداهة الوجودية (الأنطولوجية)، أي أنّنا هنا نناقش قضيّة: هل الدّين حقيقة معرفيّة (ذاتيّة أو مجتمعيّة) أم لا؟ ولا نناقش قضيّة: هل الدّين حقيقة موضوعيّة أم خرافة مجتمعيّة؟ فذلك مبحث آخر ليس هذا محلّ عرضه وتحليله.

من المعروف لغة أنّ البديهي هو الأمر الواضح بنفسه، الجلي بذاته، الّذي لا يحتاج إلى دليل لإثباته، ومن المعرف أيضًا أنّ إيمان النّاس بالمغيّبات في أثناء التّاريخ الطّويل للبشريّة وإلى يوم النّاس هذا من الوضوح والجلاء بحيث يستحيل معه إنكار وجوده أو حتّى تجاهله؛ لأنّ ذلك سيكون كمحاولة حجب الشّمس بغربال. فقد «برزت أهميّة الدّين منذ نشأة تاريخ الفكر على الأرض في حين برزت أهميّة العلم فجأة في القرن السّادس عشر بعد مُدّة من الوجود المتقطّع عند الإغريق والعرب ليشكل على نحو متزايد الأفكار والمؤسسات الّتي نعيش في ظلها» ([101]).

لو ألقينا نظرة سريعة إلى التّاريخ الّذي نتحدّث عنه لتبيّن لنا أنّ اليونانيين آمنوا بعشرات الآلهة كـ(زيوس) كبير الآلهة، و(أثينا) إلهة الحكمة والمعرفة، و(أبولو) إله النّور والفنون والجمال، و(أبافوس وايو) وغيرها؛ وكان السّومريون يُؤمنون كذلك بعدد من الآلهة مثل: (أبو) إله الخصب، (انليل) إله الجو والمناخ، و(انكيدو) وسوى ذلك؛ والبابليين كانوا قد اشتهروا بعبادة (ابسو) إله العماء قبل الخلق وهو عند العبرانيّين (تيحوم)، وزوجته (تعامة)، وابنهما (ممّو). وأشهر منهم الأشوريّين: والأهتهم الأم الكبرى (عشتار) إلهة الحرب؛ وبجانبهم الفرس وقد عرفوا بعبادة (أتار) رب النّار، و (أجي داهاكا) أيضًا، وهو: ثُعبان بثلاثة رؤوس، وسواها. وكانت (اتارجتيس) آلهة الخصوبة والرّغد وشعارها السّنبلة تُعبد في سوريا، وفي اليَمن كانت نجمة الصّباح (أستار) تعبد. وفي شبه الجزيرة العربيّة: (هبل، اساف، مناة، اللّات، العزى). ولا يخفى على أحد آلهة المصريين وإيمانهم بالمغيبات وفي مقدّمها الإيمان بإله الشّمس (آمن) و (أبو الهول)، واسمه الحقيقي (شبسي عنخ) ومعناه مانح الحياة، و(ابجو) وهو معبود على هيئة سمكة، و(أبوات) وهو رأس ثعلب أو ذئب وهو فاتح الطريق، وغيرها كثير. نعلم أيضًا أنّ الرّومان كانوا يعبدون كثيرًا من الآلهة ومنها: (أبسو) إلهة الثروة، و(ابيونا) إلهة تهدي نحو الصّواب. والفينيق عبدوا (أتلانت)، و(أدونيس) إله الخصب، وعبد الكنعانيين (أثتر)؛ وفي بلاد الأناضول وفرجينيا عُبد (اتيس) رب الانتقام. وفي آسيا الصغرى، آمن الناس بوجود (الوينكاش) وهو الجن الأفعى الخرافي؛ وفي اليابان آمنوا بـ(أبيسو)، و(بارفاتي) ابنة الهملايا؛ وفي الصّين ألهوا الإمبراطور شن ننغ بعد موته؛ وآلهة الهند كثيره كـ (شيفا وكالي وبوشانوتفاشتري). هذا سوى البوذيّة والطاويّة الشنتويّة، والأديان التوحيديّة المعروفة وأشهرها: اليهوديّة والمسيحيّة وآخرها الإسلام ([102]). في عصرنا هذا يوجد من الأديان والمعتقدات والآلهة ما لا يقلّ كمًّا ونوعًا عمّا كان سائدًا في العصور القديمة. إذن، وجود الدّين والجانب الدّيني في حياة النّاس واضح بنفسه ولا يحتاج إلى إثبات أكثر من الملاحظة اليسيرة؛ ولذا فهو بديهي.

(5-2) هل الدّين ضروري الوجود؟

إذا ما انتقلنا إلى النّقطة الأخرى وهي ضرورته، أي هل الدّين ضروري؟ فلنوضّح ما نعنيه بالضّرورة أوّلًا، يقال: إنّ الهواء ضروري ليبقى الإنسان على قيد الحياة، وهذا يعني أنّه بفقده يفقد الإنسان حياته. فالضّرورة هنا تعني: ما يَمنع بذاته تصوّر وجود نقيضه ([103]). فهل الدّين ضرورة؟ وبتعبير أصرح: هل الدّين ضروري للإنسان كضرورة الهواء؟

مع الأخذ في الاعتبار الفارق بين ماديّة الهواء ولا مادية الدّين، إذ المعتبر هنا هو مفهوم الضرورة بحد ذاتها وليست طبيعة الهواء أو الدّين، نقول: لمّا كان المُلحدون واللادينيّون وسواهم من المشككين، موجودين منذ فجر التّاريخ الإنساني وليوم النّاس هذا شأنهم كشأن المؤمنين بالدّين؛ فإنّ هذا -وبالضرورة المنطقيّة- يفضي إلى القول ببداهة وجود اللادين في حياة النّاس أيضًا؛ وعلى هذا فالدّين من حيث بداهة الوجود: بديهي الوجود عند بعضهم وبديهي عدم الوجود عند بعضهم الآخر. ينتجُ عن ذلك أنّه ضروري الوجود عند بعضهم وليس ضروريًّا عند الآخرين.

(5-3) مبدأ (شيء لا شيء):

على هذا يُمكننا الجمع بالقول: إنّ الدّين في الحياة الإنسانيّة (ضروري لا ضروري-نسبانويًّا)، فالضّرورة هنا نسبانويّة، ونسبانويتها مرتبطة بموقف الإنسان من الدّين وليس في الدّين بحدّ ذاته، إذ تلك مسألة لا يُمكن للإنسان أن يبتّ فيها، وأعني بها قضيّة هل الدّين حقيقة أم خرافة؟ لأنّ القائل إنّه حقيقة لا يستطيع أن يُثبت للمنكر أنّ حقيقة الدّين كحقيقة الهواء؛ لأنّ الهواء ملموسة ضرورته من المؤمن وغير المؤمن، وأمّا الدّين فضرورته متحقّقة عند المؤمن دون سواه. في المقابل لا يستطيع المنكر أن يُثبت للمؤمن أنّ الدّين خرافة من باب أنّ الدّين يتحدّث عمّا لا تُدركه الحواس ولا يخضع للقياس، وسبب عدم تمكّن المنكر من ذلك هو أن شرط الإيمان عند المؤمن أن يكون ما يؤمن به قابل للتّصديق لا للتصوّر. من هنا: فلا يملك أي منهما أن يكون حكمًا عادلًا على كليهما، إذ في جميع الحالات سيكون أحدهما الخصم والحكم في الوقتِ نفسه، وذلك يُبطل قابليّة البت أو الحسم لأحدهما ضدّ الآخر.

(5-4) مبدأ (شبه الشّيء):

لربّما يصح أن نصف الدّين لدى الإنسانيّة (مؤمنها وغير مؤمنها) بأنّه (شبه ضروري). نوجز ذلك في الجدول الآتي:

الدّين ديني لا ديني من حيث الإنسان (ذات) من حيث الشّيء (موضوع)
البداهة بديهي غير بديهي بديهي لا بديهي شبه بديهي
الضّرورة ضروري غير ضروري ضروري لا ضروري شبه ضروري

بهذا نحنُ نفترض أنّ لفظة (شُبه) تدلّ على معنى مزدوج لكلمة أو عبارة وفقًا لذاتها أو لمكانتها وتعلقها، وذلك خلافًا لما هو سائد من استخدامها في الأمور الملتبسة أو المبهمة أو الغامضة، وحينئذٍ يكون لها دورٌ ايجابيٌّ مركبٌّ سيقترن بها. لو أخذنا مثال شبه الجزيرة، فنحنُ نعلم أنّ الفكرة العامّة عن شبه الجزيرة هو أنّها جزيرة غير مكتملة؛ لأنّ المياه تحيط بها من ثلاث جهات؛ ولكن من جهة ثانية يُمكن القول: إنّ تلك الأرض المحاطة في أغلبها بالمياه ليست كبقية الأراضي اليابسة أو الّتي تطلّ في أحد جهاتها على الماء؛ ومن ثمّ فإنّ ما كان يشير إلى النّقص حين ننظر إليها من باب خصائص الجزيرة، يُصبح ميزة من باب خصائص الأرض الاعتياديّة. هنا كأنّنا ننتقلُ من المعنى السّلبي حين نقول: توجد نسبة كبيرة من الأميّة في الشّعب الفلاني، إلى المعنى ذاته ولكن بتصوّر إيجابي حين نقول: توجد نسبة صغيرة من التّعليم في ذلك الشّعب، والفرق أنّ الأولى تُوحي بالتوجّه نحو الأميّة على حين تُوحي العبارة الثّانية إلى التوجّه نحو التّعليم. على شاكلة ذلك نحن نفهم من لفظة (شبه) الجانب الإيجابي فيها حين نطلقها على الشّيء في ذاته حين تُواجه ذوات مختلفة.

(5-5) تكامل المبادئ:

إضافةً إلى ذلك، فإنّنا ننطلق إلى بناء تأويل مفهومي لما نريده كأداة معرفيّة نستخدمه في تقرير وشرح آرائنا وقراءاتنا واطروحاتنا؛ وذلك حين نَعدُ بأنّ الشّبه مفهوم يتضمّن شطرين متضامرين: القلّة والكثرة؛ القلّة متمثّلة في الشّطر الأرضي المتواصل مع اليابسة، والكثرة في الشّطر الأكبر المحاط بالمياه، أيّ المحاطة بشيء ليس من جنسها. وهذا رمزيًّا يتواءم عندنا مع مفهومي: المُظهر وهو الأقلّ والمضمر وهو الأكثر، وحين نقرن هذا التصوّر مع ما بين أيدينا من مسألة يتحصل لدينا ما يأتي:

* الدّين بالنّسبة للمؤمن مظهر (أقل) يضمر لا مثيله (أكثر) وهو الإلحاد، فهو شبه.

* اللادين بالنّسبة للملحد مظهر (أقل) يضمر لا مثيله (أكثر) وهو الإيمان، فهو شبه.

وهذا يعني تكافؤ الأضداد، وما ينتج عنه هو المعادلة الصّفريّة، وينبني عليها التّكامل مع ثنائيّة (ضروري لا ضروري) أو (بديهي لا بديهي)، فلو عوضنا بالقيم لتحصلنا على ما يأتي:

* الدّين بالنّسبة للمؤمن ضروري (أقل) يضمر لا مثيله (أكثر) وهو لا ضروري، فهو شبه.

* اللادين بالنّسبة للملحد ضروري (أقل) يضمر لا مثيله (أكثر) وهو لا ضروري، فهو شبه.

وذات الامر ينطبق على مفهوم البديهة:

 * الدّين بالنّسبة للمؤمن بديهي (أقل) يضمر لا مثيله (أكثر) وهو لا بديهي، فهو شبه.

* اللادين بالنّسبة للملحد بديهي (أقل) يضمر لا مثيله (أكثر) وهو لا بديهي، فهو شبه.

وهكذا نصل إلى أن:

شبه ضروري = (ضروري لا ضروري)

شبه بديهي = (بديهي لا بديهي)

الفرق بين هاتين المعادلتين هو: أنّ شقّهما الأوّل يُطلق على الشّيء في ذاته أو في حالته الموضوعيّة أو الوجوديّة (شيء لا شيء = الموضوع). على حين يطلق شقّهما الثّاني على الشّيء في حالته المعرفيّة أو عند دخوله حيّز الذّات الإنسانيّة (شبه الشّيء = الذّات).

ختامًا أقول: تقوم فلسفة التّضامر على عدّ الدّين ووجود الإله ضرورة، وهي تمثّل مرتبة من مراتب التّضامر الخمس، وسبب هذه الضّرورة هو ببساطة: أنّا إذا نظرنا بعقل متجرّد فرأينا -كما سبق- أن رأى (أبيقور) من قبل: أنّ «هناك معتقدًا عامًّا بين النّاس أنّ الآلهة موجودين، ومثل هذا المعتقد العام –الّذي يُمكن أن نلاحظه في جميع الناس عن طريق الملاحظة الحسية تقريبا- من شأن هذا المعتقد أن يجعل له أساسًا من الواقع» ([104]).

ولو أنا تساءلنا: ما هو الامر الّذي يجعل للظّاهرة الطّبيعيّة مصداقيّة علميّة أو ضرورة حتميّة لكانت الإجابة هي: التكرار، وبالمثل يُمكن القول: إنّ تكرار ظهور الظّاهرة الاجتماعيّة: كالدّين –مثلًا- يمنحها مصداقيّة وجوديّة وضرورة حتميّة ولو نسبانويًّا.

 (6) خصائص الضّرورات:

تتميَّز الضّرورات بعددٍ من الخصائص وهي:

1.موجودة بالضَّرورة.

2.متمايزة عن بعضها البعض في الماهيَّة.

3.غير مستقلَّة عن بعضها بعضًا استقلالًا حادًّا.

4.تُفسِّرُ غيرها ولا يستطيع غيرها أن ْيُفسِّرها إلا نسبة لنفسه.

5.غير متفاضلة إلانسبة للمُفاضل أو مقياس التَّفاضل.

6.لا توجد علاقات ممتنعة بينها؛ أي جميع الاحتمالات بالنسبة لها ممكنة.

 (7) ضرورة التّضامر:

لمّا كان كل من المفارق والعقلي والطبيعي مظهرًا.

ولمّا كانت جميعًا لامتماثلة.

إذن هي متضامرة.

ولمّا كان إضمار المُظهر لغيره ضرورة.  ولمّا كان الإضمار يقتضي وجود مفهوم التضامر بالضرورة.  إذن: التضامر ضرورة.

أقول: إن ضرورة التضامر مستفادة من وجود المظهرات المتضامرة التي يستر بعضها بعضًا ويكشف بعضها بعضًا.

(8) حالةالإضمار والضّرورات:

إذا وُجد النمط، دلّ َبوجوده ِعلى وجود الكلّي والطبيعيّ، وهذه الدلالة بدورها تدلُّ على وجود النسبيّ الجزئيّ واللامتناهي. والأمر ذاته يتحقَّق إذا نظرنا من زاوية الكلّي أو الطبيعيّ، إذإن أيًّا منهما إذا وُجد فإنّه يدلُّ بوجودهِ على وجودِ الآخرين.هذا يعني، أنَّ من ينظرُ إلى أيّ ِمظهر من الضروريات، سيرى المعلن من المظهر، وهو دلالته على نفسه من حيث الوجود والمعنى لكنَّه لايرىهذا المضمون أو الماهيَّة فحسب، بل يرى مايتضمَّن هذا المعلن من الدَّلالةِ على المظهرات الأخرى.

بتعبير آخر: كل مُظهر يَحجب أو يَستر أو يُخفي في إعلانهِ عن وجوده الذاتيّ، الوجودات للمظهرات الأخرى. إن حالة الحجب او السَّتر أو الإخفاء هذه نسميها: حالة الإضمار.

(9) الضّرورات واللّاتماثل:

الضّرورات لا متماثلة فيما بينها، بمعنى أن كلٌ من المطلق والكلّي واللانهائي لا يماثل المظهرين الآخرين. ولمّا كانت الضرورات لا متماثلة، فهي إذن غير متوحّدة توحّدًا تامًّا، وغير متنافية تنافيًا تامًّا أيضًا، هي ليست وحدة مطلقة فقط، وليست كثرة حادّة فحسب، إنّها هذه وتلك وفي الآن نفسه وحدة لا وحدة وكثرة لا كثرة، وهي جميع الاحتمالات الممكنة بين الوحدة والكثرة.

 

حول مفهوم التّكامل أو الاكمال

يُطلق التكامل –مجازًا-على ترابط أجزاء الكائن الحيّ، أو ترابط أجزاء المجتمع من جهة ما هي متوقّفة بعضها على بعض، والتّكامل عقلي: كانضمام العناصر الذّهنيّة المتفرّقة بعضها إلى بعض. أو عملي: كانضمام موظّف جديد إلى الجهاز الإداري. فالتكامل: هو جمع أو ضمّ عدّة عمليّات لوقائع منفصلة في عمليّة أو مجموعة واحدة ([105]).

في التّضامر، إذا تضّامر علمان -في الأقل- حول واقعين مختلفين؛ فإنّهما يتكاملان في ذلك التّضامر. فالتّكامل يحصل أكثر ما يحصل في التّضامرات الموضوعيّة أو اللّاذاتيّة ([106])، ويُمكن صياغة مفهوم التّكامل أو الإكمال بالصّيغة:

«إذا كان (أ، ب) مظهرين لواقعين هما (س، سَ)، وإذا تضامرا بدلالةٍ (د)، فإنّهما يتكاملان نسبانويًّا وفقًا لتلك الدّلالة».  

المصادرات الضّروريّة

تركن هذه الفلسفة إلى ثلاثة مصادرات ([107]) رئيسة، وهي:

الأولى: لزوم التّكامليّة أو الإكماليّة

 هي متأتيّة من فكرة «التعدّد الأبستمولوجي في التكثّف الأنطولوجي»، وهي تعني: أنّ الأنطولوجيا بطبيعتها مكثّفة، تنطوي على أكثر من قابليّة، وهي تضمر التعدّد الأبستمولوجي حتميًّا، ومعنى ذلك أنّه ما من شيء أنطولوجي إلّا ويحتمل في ذاته أكثر من نمط للتّفسير أو التّأويل. كما يبدو في صورة المثال الآتية:


بتعبيرٍ آخر: لما كان الشّيء من حيث كونه موجود أنطولوجي يتّسم بالتكثّف الذّاتي؛ فهو إذن يتّسم بامتلاكه لقابلية أن يُفهم بأكثر من وجه، ولمّا كانت المعرفة تتّسم بالتعدّد في ذاتها، فإنّهما عندما يتقابلان، يعطياننا التصوّر التّكاملي أو الإكمالي للمعرفة.

الثّانية: لزوم النّسبانويّة

تتأسّس هذه المصادرة على السّابقة، ومضمونها: إنّ كلّ شيء بدلالةٍ الذّاتموضوع ([108])، نسبانوي بالضّرورة.

الثّالثة: لزوم كسر التّعميم

هي بدورها تتأسّس على السّابقة؛ إذ لمّا كان كلّ شيء نسبانوي، فلا يعمّ التّعميم إلّا في مستوى أعمّ العموم، وما سوى ذلك فالتّعميم نسبانوي.

بيان ذلك: لو افترضنا أنّ لدينا خمس نظرات، إحداها النّظرة العلميّة، فإنّ نسبانويتها جميعًا، لا يمنح الحقّ للنّظرة العلميّة بأن تلغي النّظرات الأربعة الأخرى؛ ليس لأنّ النّظرات الأخرى صحيحة ويجب أخذها في الاعتبار، فالفكرة لا تتعلّق بصحّة أيّ من النّظرات الخمس، بل لأنّ سمة النّسبانويّة في جميع النّظرات تُلغي أو تعطل إطلاق التّعميم من نظرة على جميع النّظرات.

على سبيل المثال: ما تفسير حدوث البرق وسقوط الأمطار؟ يُوجد تفسير علمي وآخر ديني، وهما تفسيران مُختلفان تمامًا. وبحسب هذه المصادرة، فإنّ التفسير العلمي صحيح نسبة للعقلانيّة العلميّة؛ ولكن التّفسير الدّيني صحيح نسبة العقيدة الدّينيّة أيضًا، ولسنا هنا للحكم على أيّهما أصح، بل نتحدث عن بيان مفهوم نسبانويّة الأنماط التّفكيريّة، ولبيان فكرة أنّ التّفسير العلمي لا يحقّ له أن يُلغي التّفسير الدّيني أيضًا، والعكس صحيح؛ لا يحقّ للتّفسير الدّيني أن يُلغي التّفسير العلمي إلّا نسبانويًّا. المقصود بذلك: أنّه إن صحّ التّعميم على الذّات أو الذّاتموضوع فلا يصحّ ذلك على ذات أو ذاتموضوع الآخر، وهذا هو المراد بمفهوم (كسر التّعميم)، إذ التّعميم هو: مفهوم بطبيعته «يُجَمِّد الفكر» ([109]).

بالرّجوع إلى صورة العدد المرسوم على الأرض في الصّورة السّابقة، سنرى أنّ كلا الشّخصين يتفقان على وجود عدد مكتوب على الأرض، وهذا هو العموم، أي: العدد، وهو متّفق عليه، وما أن يبدأ السّؤال: ما هذا العدد؟ أو ما قيمته؟ حتّى ينتهي أعمّ العموم ليبدأ مفهوم النّسبانويّة الذي يقتضي طرح التّعميم أو كسره حسب هذه المصادرة.

سؤال: هل يشمل كسر التّعميم مبدأ التّضامر نفسه؟

الجواب: نعم، يشمل التّضامر، لماذا؟ لأنّ التّضامر ينطلق من مسلّمات ومصادرات ومفهومات خاصّة به، قد لا يتّفق معها كثيرون، أو تكون وجهات نظرهم لا مُماثلة لما يقول به، وعلى هذا فتعميم التّضامر وإن بدأ أنّه مطلق؛ إلّا إنّه في حقيقة الحال صحيح نسبانويًّا في حدود دلالاته الّتي يرتكز عليها.

 

قراءة في منشأ مصادرات التّضامر: 

نشأت مصادرات التّضامر من تقابل خمس قابليّات مُتناظرة بين الذّات والموضوع، وهي:

قابليّة التفرّد:

وهي الفهم بالاستناد إلى جهةٍ وحيدة، وقد نرمز له بالأعداد (2، 3، 4، 5، 7). وهذا الفهم لا يحصل فيه اختلاف لأنّه يكون متّفق عليه أو متواضع بشأنه بين النّاس. من أمثلة ذلك: النّخلة، الجبل، الفيل، الكتاب، النّفط، …وما إلى ذلك، كلّ واحده من هذه الأشياء تُعطي دلالة متفرّدة، تميّزها من الأخريات وتفصلها عنها، وهو ما يُعرِّفهُ بعضهم بالتّمايز الحاد بين الأشياء. فالوجود الأنطولوجي له القابليّة على إعطاء هذه التمظهرات المتفردنة.

قبليّة الاشتراك:

هي الفهم من الجهات المتعاكسة بوجهٍ متناظر، وقد نرمز له بـ (1، 8)؛ إذ لا تتغيّر قيمة الواحد إن نظرنا إليه من الجهات الأربع، وفي هذا الفهم يُمكن أن يعطي الشّيء القابليّة على الاشتراك في محتواه، فمثلًا: الأعراق البشريّة المختلفة؛ على الرغم من إدراك الاختلاف في اللّون واللّغة والمعتقد والسّمات فإنّ كلّ عرق من الأعراق يشترك مع البقية في مفهوم الإنسانيّة، فالإنسان هو الإنسان شرقيًّا كان أو غربيًّا، شماليًّا كان أو جنوبيًّا. الأمر ذاته ينطبق على العناصر الكيمائيّة، على الرّغم من اختلاف كلّ عنصر عن الآخر، فإنّها تشترك بمواصفات تميزها عن سواها.

قابليّة الاختلاف:

هي الفهم بالاستناد لجهتين مُتعاكستين، وفي هذا الفهم يحصل الاختلاف لأنّه يُعطي دلالتين مختلفتين أو متضادتين، وقد نرمز له بـ (9، 6)، إذ كلّ رقم منهما يُعطي قيمة مختلفة عند النّظر من الجهة المعاكسة. ومثاله: النّار، والحديد، والمطر، والكهرباء، والسّيارة، … إلخ. جميع هذه الأشياء وغيرها يُمكن أن تكون نافعة ويمكن أن تكون ضارّة. لا يوجد شيء يمنع النّار من أن تدفئ أو تحرق، أو يمنع الحديد من أن يمنع أو يقطع، أو المطر من أن يسقي أو يغرق، …وهكذا. كلّ هذه الأشياء لها القابليّة على إعطاء التّأثير وما يُعاكسه.

قابليّة الحياد:

هي الفهم من جميع الجهات فهمًا متساوٍ، وقد نرمز له بـ(0). ومثاله: وجود أي موجود، الفيل هو نفسه وليس شيئًا آخر غير نفسه، دورة الحياة في الطّبيعة، …وأمثال ذلك. إذ أيّ شيء أنطولوجي لا بد من أن يكون موجودًا، وهو في وجوده ذاك لا يختلف حوله اثنان، إضافةً إلى أنّ وجود أي شيء لا يكسبه صفة يتفرّد بها عمّا سواه، فكلّ شيء موجود بذات القيمة من معنى الوجود. فالأنطولوجيا تُعطي هذه القابليّة الحياديّة.  

قابليّات التّكامل:

هي تعلق أو تعالق القابليّات الأربع لتُعطي جميع الاحتمالات الممكنة، وقد نرمز له
بـ (0 – 9). بمعنى أنّ هذه القابليّة تتحدّث عن إمكانيّة اشتمال الموجود الأنطولوجي على أكثر من قابليّة إن لم تكن جميعها. إذ من النّادر أن يوجد شيء ليس فيه تفرّد واشتراك واختلاف وحياد، بنسب مُتفاوتة.

* * *

لمّا كان الإنسان بمعنى ما هو موجود أنطولوجي، فهو إذن يشتمل على تلك القابليّات الخمس أيضًا، فكلّ إنسان يتكامل فيه التفرّد والاشتراك والاختلاف والحياد. غير أنّ هناك فارقًا جوهريًّا بين أنطولوجيّة الإنسان وأنطولوجيّة الأشياء الأخرى وهي: أنّ الإنسان يتمتّع بقدرٍ نسبي من حريّة الإرادة، فيستطيع أن يفكر ويقدر وأن يفعل ما يُريد ويختار.

نقول: بسبب حريّة الإرادة النّسبيّة هذه حصل نشاط حراكي في الذّوات الإنسانيّة، تمكّن من نقل القابليات الخمس من حالتها السّكونية المكثّفة في الكون إلى حالة حراكيّة في الإنسان، وهكذا وبعد أن كانت القابليات في الكون مكثّفة فحسب انتقلت إلى حالات من التفرّقة، تمظهرت في الواقع الاجتماعي بما نراه من اختلاف واشتراك وحياد وتفرّد وما يتخصّص ببحثه بشكل رئيس علم الاجتماع.

بتعبيرٍ آخر: قابليّة الإنسان على إدراك أهميّة التّشارك جعلته يتفاعل مع نظيراتها في الطّبيعة ليتّفق على أشياء بعينها. وقابليته على التفرّد، جعلته يستفيد ممّا هو موجود من نظير لها في الطّبيعة فيفرد الأشياء بما يناسبها، فابتكر مناهج التّصنيف والتّقسيم، ليميّز الأشياء بعضها عن بعضها الآخر. بالمثل؛ فقابليّته على الاختلاف جعلته يتناغم مع ما هو موجود في الطّبيعة من قابليّة للاختلاف، فظهرت الشّعوب والأمم، والمِلل والنّحل، والتّدابر والتّناحر، والتّخاصم والتّشاجر؛ ولمّا كانت هناك قابليّة الحياد في الوجود الأنطولوجي، ففي الوجود الإنساني أثر لذلك، وميل نحو النّأي بالنّفس حين يجد الإنسان نفسه على مسافة متساوية من جميع الأطراف المتنازعة.

من هنا، وعندما يُقابل الإنسان بما فيه من قابليّات مجتمعة حراكيّة، الواقع الكوني بما فيه قابليات نظيرة مكثّفة سكونية، فإنّ الاختلافات النّسبانويّة بين التّمظهرين الوجوديين تُؤدّي إلى ظهور كلّ ما نعرفه في العالم الإنساني من التعدّد الأبستمولوجي. من هنا ذهبنا في المصادرة الأولى إلى نسبة التعدّد للأبستمولوجيا، في حين قَرَنّا التكثّف بالأنطولوجيا.

قراءة في حسيّة أبيقور:

كان أبيقور (341-270 ق. م) يُدرِّس في أثينا وذلك في حديقة منزله نحو ستّ وثلاثين سنة، حتّى اشتهرت باسم (حديقة أبيقور). كان ممّا يعلمه لتلاميذه هو أنّ الأصل في كلّ معرفة هو الحسّ؛ إذ لولا الحسّ لما كانت هناك معرفة، وأنّ الحسّ لا يخطئ أبدًا. فإذا سأله سائل عن حالات يظهر منها أنّ الحواس تخطئ، فالمريض قد يتذوّق الشّراب الحلو مرًّا، والنّاظر من بُعد قد يرى الكبير صغيرًا، وأمثال ذلك؛ فإنّه يردّ قائلًا: الحسّ لا يخطئ وإنّما الّذي يحدث هو أنّه تأتي إلى الحواس صور متعدّدة عن الشّيء الواحد، والنّاس تختلف في التقاطها لهذه الصّور؛ مع أنّ الموضوع واحد باستمرار، ومن هنا ينشأ الاختلاف فيما بين النّاس بعضهم وبعض.

ثمّ يجري تلخيص ذلك بالقول: إنّ المعرفة يجب أن ينظر إليها على أساس اختلاف مدلولات الحسّ لدى الموضوعات؛ أي: أنّ التعدّد ينشأ من اختلاف الصّور الصّادرة عن الموضوعات الواحدة بعضها مع بعض بحسب إدراكات الأفراد، وعلى هذا فالمعرفة الممكنة هي المعرفة الظنيّة لا غير، إذ لا يقين مطلق، ما دام احتمال التعدّد والنسبيّة قائم ([110]).

من جهتنا فإنّنا وإن كنّا نتّفق مع أبيقور في عموم المعنى إلّا أنّ لنا عليه الملاحظات الآتية:

* قوله: الحسّ لا يخطئ أبدًا، فهذا قول مطلق، والمطلق غير مطروح التّعميم، وإذا ما طرحنا التّعميم؛ فإنّنا سنحصل على عدد من الاحتمالات الممكنة، ومنها:

ح1: الحسّ يخطئ.

ح2: الحسّ لا يخطئ بنسبة (س%) ويخطئ بنسبة (ص%) مثلا.

ح3: الحسّ يخطئ لا يخطئ نسبانويًّا. ولهذا الاحتمال عدد من التّأويلات.

ح4: +1، وهو أيّ احتمال ممكن آخر.

لهذا فالأصح من وجهة نظرنا القول: «الحسّ قد لا يخطئ أبدًا»، إذ هذه الـ (قد) تبقي باب الاحتمال مفتوحًا على جميع وجهات النّظر الممكنة، الأمر الّذي لا يتعارض مع المصادرات في التّضامر.

* قوله: إنّ تعدّد وجهات النّظر متأتي من تعدّد الصّور المرسلة من الواقع عن الشّيء الواحد، فهذا فيه قَصْر، والقصر تعميم مقلوب، فينطبق عليه مبدأ (طرح التّعميم)، وما يتحصّل من ذلك:

ح1: متأتٍّ من تعدّد وجهات النّظر من تعدّد النّاظرين وثبات المنظور.

ح2: متأتٍّ من التّقابل بين تعدديّة النّاظرين وتعددية الصّور المنظورة.

ح3: متأتٍّ من تعدّد الصّور المرسلة ولا تعدّدها نسبانويًّا.

ح4: +1.

لهذا فالأصح عندنا القول: إنّ تعدّد وجهات النّظر قد يكون متأتّي من تعدّد الصّور المرسلة من الواقع عن الشّيء الواحد.

* قوله: المعرفة الممكنة هي المعرفة الظنيّة فقط. ونحن عندما نطرح التّعميم نحصل على:

ح1: المعرفة يقينيّة.

ح2: المعرفة ظنيّة حياديًّا (نيوتروسوفيا).

ح3: المعرفة ظنيّة لا ظنيّة نسبانويًّا.

ح4: +1.

ولو أنّا أخذنا ظنيّة أبيقور على إطلاقها؛ لأمكننا أن نُجادل بأنّ تلك الظنيّة من حيث كثرة الذّوات لا من حيث حكم الذّات الفردة، بمعنى أنّ كلّ فرد يرى معرفته يقينيّة، وبسبب الاختلاف في اليقينيّات ينتشر ضباب الظّن على الجميع؛ ولكنّه ظنّ آتٍ من خارج الذّات، من الذّوات الأخرى لا من الذّات نفسها الّتي تثق بحواسها. هنا يُمكن أن ننظر إلى الأمر بالمقلوب فنقول: إنّ تعدّد اليقينيّات يُمكن جمعه للوصول إلى يقين كلّي مشترك.

إذن، المعرفة ظنيّة نسبة للآخرين لا ظنيّة نسبة للذّات العارفة، فهي (ظنيّة لا ظنيّة) ويُمكن القول أيضًا: (يقينيّة لا يقينيّة). الخلاصة المتحصّلة من مناقشة أبيقور هي:

  1. لا يُمكن الحكم على الحسّ بأحد وجهي الصّحة والخطأ، فقد يخطئ وقد لا يخطئ، وعلى هذا فالأحكام المترتبة على الحسّ، (خاطئة لا خاطئة -نسبانويًّا).
  2. منشأ الاختلاف ليس مقتصرًا على قابليّة الموضوع على إعطاء صور متعدّدة، بل على إمكانيّة الحسّ للاستقبال السّليم والسّقيم على حدّ سواء.
  3. المعرفة بشيء معيّن يقينيّة عند بعضهم لا يقينية عند بعضهم الآخر، ولهذا فهي نسبانويّة وليست ظنيّة فحسب. وفقًا لكلّ ذلك يجب أن يشتق لكلّ قضيّة أكثر من حُكم.

 

قراءة في حتميّة ستيفن هوكنغ المعتمدة على النّموذج:

في مدينة مونزا الإيطالية مُنع أصحابَ الحيوانات المدللة من حفظ الأسماك الذهبيّة في الأحواض السّمكيّة المقعّرة. يُردُّ ذلك وفقًا لمقدّمي اقتراح هذا الإجراء، إلى أنّه من القساوة بمكان حفظِ سمكة في حوض من هذه الأحواض لأنّ جوانبه المقوّسة تزوِّد السّمكة بِمنظر مشَوَّه عن الواقع. إنّ هذه القصّة تُثير سؤالًا فلسفيًّا جديرًا بالاهتمام ألا وهو: كيف نعلم أنّ الواقع الّذي ندركه هو حقيقي؟

كان هذا مدخلًا انطلق منه (هوكنغ) لتوضيح وجهة نظره الّتي استنتجها من معطيات الفيزياء الحديثة، إذ قادته -كما يقول- إلى تبنّي ما أطلق عليه اسم «الحتمية المعتمدة على النّموذج أو واقعيّة قائمة على نموذج model-dependent realism ». وخلاصة هذه الفكرة هي أن كل نظرية فيزيائية أو تمثيل للعالَم ليست سوى نموذج (ذي طبيعة رياضياتية على الأغلب) مع مجموعة قواعد تربط عناصر النموذج بمشاهدات أو أرصاد. وتبعا للواقعية القائمة على نموذج، من العبث التساؤل فيما إذا كان نموذجٌ حقيقيا أم لا، بل فقط فيما إذا كان متفقا مع مشاهدات أم لا. وفي حالة اتفاق نموذج ينمع مشاهدات معينة، لا يمكن اعتبار أحدهما حقيقيا أكثر من الآخر. ويمكن استعمال أي منهما لِما هو أنسب في الموقف قيد النظر.

على سبيل المثال: إنّ نظرة الأسماك الذهبية في حوضها ليست نظرتنا نفسها خارجه، فنحن خارج حوضهم المقعّر؛ ولكنها مع ذلك، قادرة على صياغة قوانين علمية تتحكم في حركة الأجسام التي تشاهدها في الخارج. فمثلا، نحن نشاهد جسما في حركة حُرة يسلك مسارا على خط مستقيم، ولكـن الأسماك الذهبية تشاهده يتحرك على امتداد مسار مقوّس، وذلك بسبب انحراف الضوء عند انتقاله من الهواء إلى الماء وتستطيع الأسماك الذهبية وهي في إطارها الإسنادي  (frame of reference) المشوّه من صياغةَ قوانين علمية تصح دائما وتمكنها من إجراء تنبؤات مستقبلية حول حركة الأجسام خارج الحوض. صحيح أن قوانينَها (الأسماك) ستكون أكثر تعقيدا من نظيراتها في إطارنا، ولكن البساطةَ موضوعٌ يتعلق بالذوق. فإذا صاغتْ الأسماك الذهبـية نظرية كهذه، فعلينا الإقرار بِنظرتها على أنها صورةٌ صحيحة عن الواقع.

يزودنا التباينُ بين نموذج كون پطليموس (الأرضيِّ–المَركز) ونظيـرها لكوپرنيكسي (الشمسيِّ-المَركز) بمثال مشهور من العالَم الحقيقي لصور ذهنية مختلفة عن الواقع. ومع أنه من الشائع أن يقول الناس إن كوپرنيكس قد برهن على خطأ پطليموس، ولكـن هذا غير صحيح. إذ يمكن للمرء–كما في حالة نظرتنا مقابل نظرة الأسماك الذهبية–أن يستعمل أيا مـن الصورتين كنموذج للكون، ذلك بسبب استطاعتنا تفسير مشاهداتنا للسماء بافتراض ثبات إما الأرض أو الشمس. وعلى الرغم من أهمية هذا الموضوع في مناظـرات فلسفية حول طبـيعة كوننا، فإنّ الميزة الحقيقية للنظام الكوپرنيكسي تكمـن في أن معادلات الحركة فيه أبسط بكثير في إطار إسنادي تكون فيه الشمس ثابتة.

إن الواقعية القائمة على نموذج لا تُطـبّق فقط على النماذج العلمية، وإنما أيضا على النماذج الذهنية الواعية ودون الواعية subconscio  التي ينشئوها كل واحد من الِتفسير ولِفهم عالَم حياته اليومي. فمثلا يعالج الدماغُ البشري البيانات الخام المستلَمة من العصب البصري بتركيبه البيانات المُدخلة من العينين كلتيهما وبتقويته دقة التحليل وبملئه فجوات كتلك الموجودة عند البقعة العمياء للشبكية. إضافة إلى ذلك، يكوِّن الدماغُ الانطباع بالفضاء الثلاثي الأبعاد مـن البيانات ذات البعدين للشبكية. فعندما ترى كرسيا، فإنّك استعملت فقط الضوء المُبددّ بِالكرسي لإنشاء صورة ذهنية أو نموذج للكرسي. فالدماغ من البراعة في النمذجة إلى درجة أنه إذا جُهِّـز المرء بعدسات تقلب الصور في عينيه رأسا على عقب، فدماغه يُبدِّل النموذج بحيث يعود إلىرؤيـة الأشياء بوضعها الصحيح ربما قبل محاولته الجلوس على ذلك الكرسي.

وكلما اكتشفنا نموذج اللعالَم–كما يقول هوكنغ-ووَجدناه ناجحا، ننحو إلى أن تُعزى إليه صفة الواقعية أو الحقيقة المطلقة. ولكـن على غرار مثال الأسماك الذهبية، يتُبين أيضا أن بالإمكان نمذجة أية حالة واحدة بأساليب مختلفة يستخدِم كل واحد منها عناصر ومفاهيم أساسية مختلفة. فقد يـبدو أنه من أجل وصف الكون يتعين علينا استخدام نظـريات مختلفة في مواقف أو حالات مختلفة. ولكل نظرية منها صيغة ُواقعية خاصة بها؛ ولكن تُعتبر تلك التنوعات مقبولة وفق «الواقـعـية القائمة على نموذج». ولا يمكن أن تُنعت أيٌ مـن هذه الصيغ بأنها أكثـر ُأصالة من أيِ صيغة أُخـرى. وهذه الأفكار لا تمثل توقعات الفيزيائيين التقليدية لسمات نظرية عـن الطبيعة، كما أنها ليست منسجمة مع فكرتنا الاعتيادية عن الواقع (الحقيقة)، ولكـن مـن الجائـز أن يكون الكونِ كذلك ([111]).

كما هو واضح فإنّ هذه النّظرة العلميّة تبدو على توافق تام مع طبيعة التعدّد والتكثّف والنسبانويّة وكسر التّعميم في المصادرات الفلسفيّة الّتي نقولها.

 قراءة في تكامليّة سسكند للثّقوب السّوداء:

(1) ليونارد سسكند: Leonard Susskind

فيزيائي نظري، من جامعة ستانفورد، عُرف بريادته في نظريّة الأوتار الفائقة وفيزياء الثّقوب السّوداء والكون المتعدّد، واهتمامه البحثي يتمحور عن الطّبيعة العميقة للحقيقة الفيزيائيّة. ما يهمّنا من نتاجه العلمي ممّا له صلة بتوضيح فكرتنا هو مبدأه في (تكامليّة الثّقوب السّوداء).

(2) التعريف بأفق الحدث:

هو مصطلح فلكي يراد به منطقة موجودة في الزمكان تحيط بالثقب الأسود، وهذه المنطقة لا يمكن ملاحظتها من الخارج بسبب أن الجاذبية القوية للثقب الأسود تمنع من خروج حتى الضوء لما هو بالخارج، وأحياناً تسمى منطقة أفق الحدث بنقطة اللاعودة–أي أنها النقطة التي من المستحيل أن يفلت أي جسيم من جاذبيتها.

(2) مبدأ تكامليّة الثّقب الأسود:

لو افترضنا أنّ جسمًا ما، وليكن رائد فضاء مثلًا، دخل إلى منطقة أفق الحدث، فإنّ ما سيترتّب على الرّؤية لذلك الرّائد منظوران: من منظور رائد الفضاء لا شيء غريب سيحدث له، سيستمر بالانجذاب نحو مركز الثّقب وهناك يتحطّم؛ ولكن من منظور المراقب الخارجي الّذي لم يدخل إلى أفق الحدث، فإنّ جسم رائد الفضاء سيتوقّف عند منطقة أفق الحدث ولن يتحرّك بل يجمد، ثمّ يتحوّل إلى اللّون الأحمر ويشف بالتّدريج حتّى يختفي. بتعبيرٍ آخر: يتحطّم في أفق الحدث.

السّؤال الّذي حيّر العلماء: ما الّذي يحدث بالفعل؟ أي منظور يمثّل الحقيقة وأيّهما وهمي؟ هل إنّ رائد الفضاء توقّف أم استمرّ في الحركة والانجذاب نحو مركز الثّقب الاسود؟

وفقًا لـ (مبدأ تكامليّة الثّقب الاسود The principle of black hole complementarity) لا معنى لهذا السّؤال؛ لأنّه سؤال يفترض ضرورة اختيار أحد المنظورين، والحقيقة أنّ كلا المنظورين صحيحان! بتعبيرٍ أصرح: رائد الفضاء توقّف في أفق الحدث، واستمر بالتحرّك نحو المركز في الوقت نفسه!

(3) الحقيقة العلميّة بين التّناقض واللاتناقض:

إنّ هذا يظهر لنا تناقض صريح في المنطق الفيزيائي. لكن من وجهة نظر (سسكند) إنّ هذا التّناقض سببه أنّنا نحكم على الأشياء بطريقة التّفكير التقليديّة، وهي طريقة -كما يرى- قد خذلت العلماء، لهذا يصرح بلا مواربة قائلًا: «إنّ الرّياضيّات الّتي يُمكن أن نكون قد أوجدناها أصبحت ببساطة فاشلة»، ولا يتوقّف عند هذا الحدّ بل يستمرّ في زعزعة الموقف من رسوخ القواعد العلميّة فيقول مؤكدًا: «إنّ النّاس لديهم تصور أنّ للعلم قواعد واضحة وجاهزة، تُجري التّجارب فتحصل على النّتائج ثمّ تفسّرها، وفي النّهاية لديك شيء؛ إلّا أنّ العمليّة الفعلية للعلم هي: إنسانيّة وشواشيّة Chaotis وقابلة للجدل كأي شيء آخر».

(4) الحقيقة العلميّة في المنظور الجديد:

إنّ التوجّه العلمي لـ(سسكند) ومن هُم على شاكلته من الفيزيائيين، يجنح نحو عمليّة تصحيح لفهمنا لمضمون الحقيقة؛ إذ النّظرة التقليديّة المتأسّسة على الخبرة الاعتياديّة تفترض أنّه شيئًا ما لا يُمكن أن يكون ساكن ومتحرك في الوقتِ نفسه، فهو إمّا هذه وإمّا تلك، وهي خبرة صحيحة ملموسة ولا يُمكن التّشكيك بها، لكن السّؤال: هل يصحّ تعميمها بحيث يجب أن نفهم أن كلّ ما في الكون ينصاع وفقًا لها؟ أو أن ننفي وجود ما يخالفها لأنّنا لم نسبق أن اختبرنا شيئًا مماثلًا مماسًّا لحياتنا؟!

 ما يقترحه (سسكند) هو أن نتجاوز هذا الفهم الضّيق لمفهوم الحقيقة، إلى مفهوم أوسع يكون قابلًا لتقبّل وجود احتمالات لا تماثل ما نألف. الحقيقة في منظور ما يُمكن أن تكون (أمّا .. أو)؛ ولكنّها في منظور آخر يُمكن أن تكون (أمّا .. و)؛ لذا علينا أن لا نذوت مفهوم الحقيقة أو نموضعه وَفْقَ مألوفاتنا، بل ننفتح مع ما يستوعب من احتمالات ممكنة.

في الحقيقة، إنّ المنظورين لرائد الفضاء صحيحان، ولا تناقض فيهما، ويمكن توضيح عدم التّناقض بينهما بواسطةِ مثالٍ تقريبي ربّما يكون قد اختبره معظمنا، وهو أنّه قد يحصل أنّ شخصًا يُشاهد التلفاز، ويحصل خلل ما في جهاز التلفاز، فتجمد الصّورة، في حين يستمرّ البث خلفها. يُدركُ الشّخص هنا أنّ البثّ مستمر ومتحرّك، وإن كان يرى الصّورة ساكنة. في مثل هذه الحالة يستطيع أيّ شخص –وبسهولة- أن يستوعب الحقيقة بمنظوريها: السّاكن والمتحرّك في آن.

إنّ الوسط بين البثّ وعين الرّائي وهو جهاز التلفاز؛ هو ما سبّب توليد هذه الثنائيّة. بالمثل، فإنّ أفق الحدث ولكونه يتّصف بخواص فيزيائيّة تجعل الضّوء لا يفلت منه، فإنّ ذلك يجعل النّاظر يراه ساكنًا؛ ولكن لمّا كان ما بعد هذا الأفق أو النّاظر ممّا وراء هذا الأفق من الدّاخل لا تنطبق عليه خواص النّاظر من خارجه، فإنّه يرى أمرًا الصّورة أو رائد الفضاء يتحرك.

نلاحظ هنا أنّه ولوجود مثال من الخبرة الحياتيّة ولو مقارب، سهّل عمليّة تقبّل ما كان يظهر أنّه غير مُتقبل؛ ولكن ماذا لو لم يوجد مثال ليقرّب الفكرة؟ وماذا لو كان هذا المثال يتضمّن مغالطة غير مقصودة أو غير محسوبة؟ هل سيعيدنا ذلك إلى المربّع الأوّل الّذي يفترض وجود التناقض؟ أم أنّ علينا أن نمضي قدمًا في طريق تحديث فهمنا لمفهوم الحقيقة على أنّها ما يحتمل النّظر من أكثر من منظور؟ في الواقع إنّ ما يذهب إليه (سسكند) في تكامليّته هو: التّشديد على ضرورة التّحديث؛ لأنّ الحقيقة لا تكون حقيقة إلّا بتكامل المنظورين ([112]).

(5) الحقيقة العلميّة والمصادرات التّضامريّة:

نحن نجد أنّ ذلك يتّسق تمامًا مع مذهبنا الّذي يرى (التعدّد الأبستمولوجي في التكثّف الأنطولوجي)، الامر الّذي يجعلنا ننظر إلى هذا المبدأ على أنّه برهان يستند إلى أسس علميّة فيزيائيّة الّذي يطلق مفهوم الحقيقة من إطار ثنائيّة (أمّا .. أو) دون أن ينفيها، بل يثبت نسبانويتها.

ولو أنّا أعدنا قراءة مثال رائد الفضاء وتواجده في أفق الحدث، وَفْقَ التّضامر لحصلنا على:

حركة رائد الفضاء ı| لا حركة رائد الفضاء ← أفق الحدث

ولأمكن استنتاج الاحتمالات الآتية:

* لا يتحرّك (نسبة للرّاصد الخارجي)

* يتحرّك (نسبة للرّاصد الدّاخلي)

* يتحرّك لا يتحرّك (نسبانويًّا)

وجميع الاحتمالات صحيحة كما هو واضح ولا تناقض بينها، وهذه هي الطّريقة الّتي ينبغي التّعامل وفقًا لها مع مفهوم الحقيقة. أو هذه هي الاحتمالات الّتي يفترض أن نتوقع أنّنا سنحصل عليها عندما نسأل عن حقيقة شيء ما أو ظاهرة ما. إذن: الحقيقة أمر منظوري؛ لأنّها متضامرة في ذاتها.

مصادرات تكميليّة

للتضامر مصادرات أخرى نسميها تكميليّة، وهي:

الأولى: مصادرة الزّوجيّة

 «كلّ شيءٍ عبارةٌ عن مُظهر ومضمر بالضَّرورة» ([113]).

الثّانية: مصادرة الأوليّة

«المُظهر هو الأصل الأوّل في التّضامر دائمًا».

المُظهر هو الأساسُ في صياغةِ علاقة التّضامر سواء أكانَ ذلك المُظهر شيئًا وجوديًّا أم فكريًّا نظريّة أم اعتقادًا دينيًّا أم غير ذلك. ولتحديد المُظهر من المضمر في العلاقات ينبغي الأخذ بتصنيف العلوم حسب المراتب، وفيه يكون المُظهر هو العلم الموجود في المرتبة (أ) على حساب العلم المُضمر الّذي يكون في المرتبة (ب) ([114]).

الثّالثة: مصادرة التّلازم

«لا مُظهر بلا مُضمر ولا مُضمر بلا مُظهر»

إنّ المُضمر ملازم للمظهر بالضّرورة، فهو إمّا قائمًا فيه قيام الصّفة بالموصوف أو متعلّقًا به تعلّقًا ذاتيًّا أو متعالقًا معه تعالقًا لا ذاتيًّا.

الرّابعة: مصادرة الإثبات

«إذا كان المظهر مثبتًا، فالمضمر مثبت أيضًا وبالعكس».

الخامسة: مصادرة الاحتواء

(1) «المظهر دائمًا يشتمل في دلالاته على المضمر حسيًّا أو اعتباريًّا ولا يصحّ العكس».

(2) «المظهر دائمًا أصغر من المضمر وأخص، والعكس صحيح».

السّادسة: مصادرة الانكسار

 (1) اللاتناظر: «المظهر لا يناظر المضمر فلا يصحّ الانعكاس».

أيّ: أنّ شقّي علاقة التّضامر غير متساويين كيفًا وكمًّا؛ وذلك لأنّ المُظهر مقيّد باحتمال وحيد دائمًا، على حين المضمر لا يُمكن أن يكون غير عدد مفتوح من الاحتمالات الممكنة.

(2) اللاانقلاب: «التّضامر لا ينقلب لأنّه غير متناظر».

لمّا كان التّضامر غير متناظر فهو لا ينقلب. الأمر هنا يُشبه ما يذهب إليه قانون الترموديناميك الثّاني الّذي يسمح بانتقال الحرارة من الجسم الحاّر إلى الجسم البارد تلقائيًّا ولا يسمح بالعكس.


[1]– التّعريفات (Definitions): عبارات تشرح معاني الألفاظ أو الحدود الأساسية في النسق، ولا يقال عنها صادقة أو كاذبة وإنّما يراد الاتفاق على وضعها والبدء بها. مثل: النّقطة ما ليس له بُعد.

[2]– من الواضح أنّنا نميّز بين (كلّ) من دون (ال التّعريف) وبين (الكل). وللمزيد حول ذلك في اللّغة والاصطلاح الفلسفي راجع: المعجم العربي الأساسي، ص1051.د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2 ص233.

[3]– للمزيد في اللّغة الاصطلاح انظر: محمد بن محمد الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، مجموعة من المحققين، دار الهداية، ج1 ص293.ابن سينا، الشفاء، تصدير الدكتور طه حسين باشا، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، تحقيق الأب قنواتي وآخرون، نشر وتوزيع وزارة المعارف العمومية، المطبعة الأميرة، القاهرة، ج2 ص295.د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج1ص 712 – 713.الإمام الغزالي، المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، دراسة وتحقيق محمد عثمان الخشت، مكتبة القرآن، القاهرة، ص 28. أ/د. سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، ص 668.

[4]– للمزيد انظر: القسم الثاني – الفصل الأول –مفهومات أساسيّة– حول مفهوم الضّرورة.

[5]– انظر: المعجم العربي الاساسي، ص 1118. أحمد بن فارس القزويني، معجم مقاييس اللّغة، تحقيق عبد السّلام محمد هارون، دار الفكر، 1979، ج5 ص296.

[6]– محمد بن محمد الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، ج30 ص380.

[7]– د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج1 ص338.

[8]– للمزيد: انظر بعض التّفصيلات في: القسم الثّاني –الفصل الأول– مفهومات أساسيّة.

[9]– المعجمُ العربيِّ الأساسيِّ، جامعة الدّول العربيّة، المنظمة العربيّة للتَّربية والثَّقافة والعلوم، لاروس، 1988م، ص 776.

[10]– أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفيَّة، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت-باريس، ط2، 2001م، ص550.

[11]– د. عبد الفتاح الديدي، فلسفة هيجل، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1970، ص86.

[12]– المعجم العربي الاساسي، ص461.

[13]– موسوعة لالند الفلسفية، مصدر سابق، ص 216.

[14]– د. طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثّقافي العربي، 2006، ص151.

[15]– المعجم العربي الاساسي، ص298.

[16]– د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ص355.

[17] – للمزيد: انظر القسم الثّاني: الفصل الأول -مفهومات أساسيّة– حول مفهوم الدّلالة المحددة.

[18]– للمزيد: انظر بعض التّفصيلات في (المفهومات التكميليّة).

[19]– للمزيد: انظر بعض التّفصيلات في (المفهومات التكميليّة).

[20]– زينون من إيليا (زينون الإيلى)، أحد فلاسفة ما قبل سقراط عاش زينون في القرن الخامس قبل الميلاد (490– 430 ق.م)، من إيليا وهي مدينة يونانية على الساحلِ الجنوبيِ لإيطاليا. طرح زينو الفكرة بشكل منطقي قائم على نفي الكثرة الّتي ترى الكون كله شيء واحد لا يقبل التجزئة، وله نظريات عديدة منها نفيه للحركة.

[21]– انظر على سبيل المثال: أينشتاين والنّظريّة النسبيّة، د. محمد عبد الرّحمن مرحبا، دار القلم، بيروت، ط7، 1974م، ص77 والّتي تليها.

[22]– عيسى بشارة، مقال السّفسطائيّة، الموسوعة العربيّة، ج11ص312، إنترنت، رابط: www.arab-ency.com

[23]– حاتم محمد ياسين، محاضرات في الفكر اليوناني، مطبعة دار الفكر المعاصر، سنه النّشر غير معروفة، ص79،80،84، 85.

على سبيل الطرافة قصّة حول طريقة استخدام الحقيقة الواحدة لإثبات الامر وضده، وهي: قام أحد السّفسطائيين بتعليم أحد التلاميذ أصول السّفسطة، وبعد أنّ تعلّم التلميذ رفض أن يدفع الأجرة لمعلّمه، فاشتكى المعلّم في المحكمة، وكان الأستاذ يُطالب بأن يدفع التّلميذ مالًا سواء فاز بالقضيّة أو خسرها. على اعتبار أنّه إذا فاز بالقضيّة فإنّ التّلميذ يدفع بحكم المحكمة، وإذا فاز التلميذ فعليه أن يدفع لأنّ فوزه دليل على أنّه تعلم السّفسطة وصار لديه إمكانيّة في قوّة الإقناع. وكان ردّ التلميذ خلاف ذلك (سفسطائيًّا) إذ أنّه طالب بألّا يدفع سواء أفاز أو خسر، على اعتبار أنّه لو خسر أمام المعلم فهذا دليل أنّه لم يتعلم السّفسطة (لم يصبح ذو حجّة قويّة وقدرة على الإقناع، فلا يدفع. وإن فاز على المعلم فهو لا يدفع ايضًا بحكم المحكمة.

[24]-عيسى بشارة، المصدر نفسه، ج11ص312.

[25]– سقراط: فيلسوف يوناني كلاسيكي، (399-469ق.م) يُعدّ أحد مؤسسي الفلسفة الغربيّة، لم يترك سقراط كتابات وجل ما نعرفه عنه مستقى من روايات تلامذته عنه. ومن بين ما تبقّى لنا من العصور القديمة، تُعدّ حوارات أفلاطون من أكثر الرّوايات شموليّةً.

[26]– أفلاطون، ولد في أثينا (427-428 ق.م \ 347-348 ق.م) فيلسوف يوناني كلاسيكي، رياضيّاتي، كاتب عدد من الحوارات الفلسفيّة، ويُعدّ مؤسس لأكاديمية أثينا الّتي هي أوّل معهد للتّعليم العالي في العالم الغربي، معلّمه سقراط وتلميذه أرسطو، وضع أفلاطون الأسس الأولى للفلسفة الغربيّة والعلوم.

[27]– أرسطوطاليس، (384-322ق.م)، فيلسوف إغريقي، تلميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر. كتب في العديد من الموضوعات، بما في ذلك علوم الفيزياء والميتافيزيقا، الشّعر، المسرح، الموسيقى، والمنطق والبلاغة والسّياسة والحكومة، والأخلاق، والبيولوجيا، وعلم الحيوان. جنبًا إلى جنب مع أفلاطون وسقراط (معلم أفلاطون)، أرسطو واحد من أهم الشّخصيّات في تأسيس الفلسفة الغربيّة. كان أوّل من أنشأ نظام شامل للفلسفة الغربيّة، ويشمل الأخلاق وعلم الجمال والمنطق والعلم والسّياسة والميتافيزيقا.

[28]– من محاضرات على الشّنوفي حول ديكارت والدّيكارتيّة، موقع حكمة في النّت، محاضرة بتاريخ 3/11/2010.

[29]– جورجفيلهلمفريدريشهيغل، (1770ـ 1831) فيلسوف ألماني ولد في شتوتغارت، فورتيمبيرغ، في المنطقة الجنوبية الغربيةِ من ألمانيا.يُعدّ (هيغل) أحد أهم الفلاسفة الألمان حيثُ يُعدّ أهم مؤسّسي حركة الفلسفة المثاليّة الألمانيّة في أوائل القرن التّاسع عشر الميلادي.

[30]– د. عبد الفتاح الدّيدي، القضايا المعاصرة للفلسفة، الملحوظة الثّانية، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1967، ص188

[31]– مقال: ضد هيغل، العودة إلى الأرض، لشايع بن هذال الوقيان، صحيفة عكاظ، العدد 3836، 18 ديسمبر 1011م، الأحد، نت.

[32]– كارل ماركس (1818 -1883)، فيلسوف ألماني، سياسي، وصحفي، ومنظّر اجتماعي ولد لعائله يهوديّة. ألّفَ عددًا من المؤلّفات إلّا أنّ نظريّته المتعلّقة بالرّأس مالية وتعارضها مع مبدأ أجور العمال هو ما أكسبه شهرة عالمية؛ لذلك يُعدّ مؤسّس الفلسفة الماركسيّة، ويُعدّ مع صديقه فريد ريك إنجلز المنظرين الرّسميين الأساسيين للفكر الشّيوعي.

[33]– فريدرك إنغلز (1820 -1895) هو فيلسوف ورجل صناعة ألماني يُلقّب بـ «أبو النّظرية الماركسية» إلى جانب كارل ماركس. اشتغل بالصّناعة وعلم الاجتماع وكان كاتبًا ومنظرًا سياسيًّا وفيلسوفًا.

[34]– د. عبد الفتاح الديدي، فلسفة هيجل، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1970، ص86.

[35]– د. إمام عبد الفتاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل (دراسة لمنطق هيغل)، دار التّنوير للطّباعة والنّشر، بيروت، 2007، ص18.

[36]– هيبوليت، المنطق والوجود، ص218. نقلًا عن المنهج الجدلي عند هيجل، د. إمام عبد الفتاح إمام، ص18.

[37]– للمزيد انظر: علي حرب، الماهية والعلاقة (نحو منطق تحويلي) المركز الثّقافي العربي، بيروت، ط1، 1998، ص13-16.

[38]– د. إمام عبد الفتاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل، ص16.

[39]– المصدر نفسه، ص16.

[40]– المصدر نفسه، ص22.

[41]– المصدر نفسه، ص22.

[42]– أنظر: القسم الثّاني – الفصل الأوّل –مصادرات تكميليّة– مصادرة الانكسار.

[43]– المصدر نفسه، ص135.

[44]– المصدر نفسه، ص135 -136.

[45]– المصدر نفسه، ص136.

[46]– للمزيد انظر: القسم الأول –القراءات التراكبيّة– قراءة في النّطاق البيولوجي: تشاركيّة الجينوم.

[47]– انظر مثلًا: فاسيلي بودوستنيك وأوفيشي ياخوت، ألف باء المادية الجدليّة، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطّليعة، بيروت، ط1، 1979م، ص64 – 69.

[48]– د. عبد الفتاح الدّيدي، فلسفة هيجل، ص87.

[49]– د. إمام عبد الفتاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل، ص157.

[50]– د. عبد الفتاح الدّيدي، فلسفة هيجل، ص86.

[51]– ولد فلورنتن سمارندكه بمدينة بالسيستي Balcesti في مقاطعة فولسيا Valcea في رومانيا عام 1954، تخرج في قسم الرّياضيّات وعلم الحاسوب بجامعة كريوفا Craiova عام 1979. حصل على الدكتوراه في الرّياضيّات من جامعة كيشينيف Kishinev. هاجر إلى الولايات المتّحدة عام 1990 حيثُ واصل دراسات ما بعد الدّكتوراه بجامعات أمريكيّة مختلفة، كجامعة فونكس وتكساس. نشر أكثر من 90 كتابًا في مختلف المجالات. عُرف كزعيم لمدرسة أدبيّة تحمل اسم الباردوكسيزم Paradoxism تعتمد على المفارقات وتوظيفها في الأعمال الإبداعيّة المختلفة. رُشّح لجائزة نوبل في الآداب عام 1999. أمّا في مجال الرّياضيّات فقد قدم مفهوم درجة النّفي لأي بديهيّة أو مبرهنة في الهندسة فيما عرف بهندسة سمارندكه. نظّم المؤتمر الدّولي الأوّل عن أنساق النيوروسوفية بجامعة نيومكسيكو عام 2001. في الفيزياء اكتشف سلسلة من المفارقات في مجال الكمّ، وصاغ الفرض القائل: «ليس ثمة حد أقصى للسّرعة في الكون»، وفي الفلسفة قدّم نظريته في النيوتروسوفيا كتعميم لديالكتيك هيجل. للمزيد حول هذه الفلسفة انظر: د. صلاح عثمان ود. فلورنتن سمارندكه، الفلسفة العربيّة من منظور نيوتروسوفي، منشأة المعارف، الإسكندريّة، ط1، 2007، ص23 والّتي تليها.  

[52]– أطلس الفلسفة، مصدر سابق، ص35.

[53]– للمزيد انظر: يحيى محمد، منهج العلم والفهم الدّيني، ص42.

[54] – جون جريبين، البحث عن قطّة شرودنجر، ترجمة فتح الله الشّيخ وأحمد عبد الله السّماحي، كلمة وكلمات عربية للنّشر، الطّبعة الثّانية، 1431هـ، 2010م، ص16.

[55] – د. يُمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين (الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبليّة)، المجلس الثّقافي الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، 2000، ص 349.

[56]– انظر: جواو ماكيويجو، أسرع من سرعة الضّوء (قصة نظريّة علمية مفترضة)، تعريب: سعيد محمد الأسعد، النّاشر: الحوار الثقافي، لبنان، 2005، ص 293 – 294، 300.

[57] – يحيى محمد، منهج العلم والفهم الدّيني، ص 153.

[58] – انظر: جيمس جينز، الفيزياء والفلسفة، ترجمة: جعفر رجب، دار المعارف، ص224-225، 230، 239، 271-272.

[59] – مبدأ الرّيبة، مصدر سابق، ص284 – 249.

[60] – فريتجوفكابرا، التصوف الشرقي والفيزياء الحديثة، ترجمة: عدنان حسن، دارالحوار، سوريا، ط1،2006، ص78.

[61]– دونالد جيليز، فلسفة العلم في القرن العشرين (أربع موضوعات رئيسة)، ترجمة ودراسة: د. حسين علي، مراجعة وتقديم: أ.د. إمام عبد الفتّاح، التّنوير، بيروت، ط1، 2009، ص275، 280-281، 283.

[62] – جون ليتشه، خمسون مفكرا أساسيا معاصرا، ترجمة فاتن البستاني، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت، ط1، 2008م، ص88.

[63]– محمّد بن محمّد الزّبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، مجموعة من المحقّقين، دار الهداية، ج28 ص33.

[64]– انظر: برايان غرين، الكون الأنيق (الأوتار الفائقة، والأبعاد الفينة، والبحث عن النّظرية النهائيّة)، ترجمة: د. فتح الله الشّيخ، المنظمة العربيّة، 2005 ص399. وريتشارد موريس، حافَة العلم (عبور الحد من الفيزياء إلى الميتافيزيقيا، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمي، ص186. وبول ديفيز، الجائزة الكونيّة الكبرى (لماذا الكون مناسب للحياة)، ترجمة: د. سعد الدّين خرفان، الهيئة السّورية للكتاب، دمشق، 2011، ص114 – 116.

[65]– د. سعاد الحكيم، المعجم الصّوفي، ص987.

[66]– إنترنت، ويكيبيديا.

[67] – للمزيد: راجع القسم الأول من هذا الكتاب، قراءة في النّطاق السيكولوجي، الوعي واللّاوعي.

[68]– كما في الأشكال الفركتالية مثل: مثلّث كوخ. للمزيد انظر: جيمس جلايك، الهيوليّة تصنع عالمًا جديدًا، ترجمة: علي يوسف علي، المشروع القومي للترجمة، 2000، ص 161 والّتي تليها.

[69] – المعجم العربي الأساسي، ص1224.

[70] – د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2 ص349.

[71] – ليون م. ليدرمان وكريستوفر ت. هيل، التّناظر والكون الجميل، ترجمة نضال شمعون، ص361  

[72] – راجع: القسم الثّاني – الفصل الأول -مفهومات أساسيّة– حول مفهوم الـ(لا) في التّضامر.

[73] – فيرنر هايزنبرغ، فيزياء وفلسفة، مصدر سابق، ص83.

[74] – للمزيد راجع: القسم الثّاني –الفصل الأوّل– مصادرات تكميليّة.

[75] – المعجم العربي الأساسي، مصدر سابق، ص857.

[76] – المعجم الفلسفي، مصدر سابق، ج2ص92-93.

[77] – موسوعة لالند الفلسفيّة، مصدر سابق، ص706.

[78] – الرَّازي، مختار الصِّحاح، ترتيب محمود خاطر، الهيئة العامّة للكتاب، القاهرة، 1976، ص379. وانظر أيضًا: المعجم العربي الأساسيّ، جامعة الدّول العربيّة، المنظّمة العربيّة للتربية والثّقافة والعلوم، لاروس، (1988م)، ص 769.

[79]– المعجم الفلسفي، مصدر سابق، ص757.

[80]– تعريف قاموس بولدين الفلسفي، مأخوذ من كتاب الحتم والحريَّة في العلم، أحمد الشّريف، الهيئة العامّة للكتاب، القاهرة، 1972، ص10.

[81]– السَّيد نفادي، الضّرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم، دار التنوير، 2009، ص 11.

[82]– د. سالم مرشان، الجانب الإلهي عند ابن سينا، دار قتيبة، بيروت، ط1، 1992، ص75.

[83]– Leibniz. G.W. The Monalogy and other Philosophical Writing Trans. With introduction and Notes by RebertLatta. At the Clarendon Press. 1889. P: 339.

[84]– راجع: رينيه ديكارت، تأمّلات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة: د. كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت، ط4، 1988، التّأمل الثّالث. 

[85]– د. حسين علي حسن، الأسس الميتافيزيقيّة للعلم، دار قباء للطّباعة والنّشر، القاهرة، 2002، ص44.

[86]– كانط، مقدّمة لكل ميتافيزيقيا مقبلة يمكن أنْ تصير علمًا، ترجمة: د. نازلي إسماعيل حسين، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967، ص24.

[87]– مقال لفاطمة درويش، الموسوعة العربيّة، مصطلح الضّرورة، إنترنت، رابط: http://www.arab-ency.com

[88]– المنهج الجدلي عند هيغل، مصدر سابق، ص 21.

[89]– انظر: مقال جان – ميشال راي، الأصوليات النيتشوية، منشورات هاشيت، باريس، 1973، ج6.

[90]– راجع بهذا الصّدد كتاب جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، بالفرنسيّة، منشورات سوي، 1973.

[91]– راجع كتاب ريتشارد رورتي، الأمل بدلًا من المعرفة، مقدّمة إلى الذرائعيّة، بالفرنسيّة، منشورات ألبان ميشال، باريس، 1955.

[92]– راجع كتاب جياني فاتيمو، خلفيات التّأويل، بالفرنسيّة، منشورات لادي كوفرت، 1993.

[93]– مارتن هيدغر، مقدّمة إلى الماورائيّات، بالفرنسيّة، غاليما، 1967.

[94]– علي حرب، الماهيّة والعلاقة -نحو منطق تحويليّ، المركز الثّقافي العربي، بيروت، 1998، ص17-18، 42.

[95]– مقال علم الرّياضيّات ورحلة البحث عن الحقيقة، محمد زكريا توفيق، إنترنت، موقع الحوار المتمدن.

[96]– الطّوبولوجيا كلمة يونانيّة (من   toposو تعني مكان وlogos تعني دراسة) تعني دراسة المجموعات المتغيرة الّتي لا تتغيّر طبيعة محتوياتها. موسوعة ويكيبيديا. إنترنت.

[97]– Stroud, Barry: Hume. Routled and Kegan Paul, London and Boston, 1977, P:3.

[98]– Hume, D. An Enquiery Concerning Hume Understanding. Edi, D.C, Yalden –Thomson. Univ. of Virginia 1951. P:64. 

[99]– انظر: د. إبراهيم زكريا، كانط أو الفلسفة النّقديّة، القاهرة، ط2، 1972، ص94.

[100]– علي بن محمدالسيد الشريف الجرجاني، التعريفات، تحقيق: د. عبد المنعم الحنفي، القاهرة، دارالرشاد، ص53.

[101]– برتراند راسل، الدّين والعلم، ترجمة: رمسيس عوض، دار الهلال، ص3.

[102]– للاستزادة حول الأديان والآلهة انظر: أ. س. ميغوليفسكس، أسرار الآلهة والدّيانات، ترجمة: د. حسّان ميخائيل إسحق، دار علاء الدّين الدّين، دمشق، ط4، 2009. د. هوستن سميث، أديان العالم، تعريب وتقديم: سعد رستم، دار الجسور الثّقافيّة، حلب، ط3، 2007. المعتقدات الدّينيّة لدى الشّعوب، مشرف التّحرير: جفري بارندر، ترجمة: د. إمام عبد الفتّاح إمام، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب الكويت، 1993. فراس السّواح، دين الإنسان (بحث في ماهيّة الدّين ومنشأة الدّافع الدّيني، دار علاء الدّين، دمشق، ط4، 2002.

[103]– المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، ج1ص349.

[104]– للمزيد راجع: د. عبد الرّحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، ط1، 1984، ج1 ص85.

[105]– أنظر: د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج1 ص332.

[106] – انظر: الفصل الثّاني -أنواع التّضامر.

[107]– المصادرات (Postulates): هي قضايا أولية لامبهنة، تعد أقل وضوحا من البديهيات، ولذا قد يعاند العقل في قبول هاثمي صادرعليها متسامحا حتى تتضح له فيما بعد مثل: كل الزوايا القائمة متساوية.

[108]– راجع مفهوم الأبستمولوجيا في القسم الأول.

[109]– غاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ترجمة: د. خليل ابراهيم، المؤسّسة الجامعية للدّراسات والنّشر والتّوزيع، ط2، 1982، ص49.

[110]– للمزيد راجع: د. عبد الرّحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ج1 ص82.

[111]–  للمزيد انظر مقال: نظريّة كلّ شيء اللامدركة، ستيفن هوكنغ و ليوناردو ملودينو، مجلة العلوم، التّرجمة العربيّة لمجلة ساينتفك أمريكان، تصدر شهريًّا في دولة الكويت عن مؤسّسة الكويت للتقدّم العلمي، المجلد27، العددان 1/2، يناير/فبراير، 2011، ص36-39.

[112]– للمزيد انظر مقال: فتى الفيزياء المشاكس، مجلة العلوم، التّرجمة العربيّة لمجلة ساينتفك أمريكان، تصدر شهريًّا في دولة الكويت عن مؤسّسة الكويت للتقدّم العلمي، المجلد 28، العددان1/2، يناير/فبراير، 2012، ص12.

[113]– لايوجد شيء سواء أكان حسيا أومعنويا، وجوديا أو معرفيا، عقليا أو ماديا…الخ، إلا وكان متصفا بوجه من وجوه الزوجيّة. وهذه الزوجية في نظرتنا هو ثنائية: المُظهروالمُضمر. للمزيد: راجع تعريف (شيء) ضمن التّعريفات الإجرائيّة.

[114]– للمزيد أنظر: القسم الثّاني -الفصل الرابع -منهج التّضامر -جدول تصنيف العلوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *