كلمة أخيرة وما بعد الكلمة الأخيرة

الّذي تطلّعنا اليه في هذا الكتاب هو محاولة النّحو نحو تحديث قراءة الإشكاليّة المتعلقة بأسباب تغيّر الطرح المعرفي، إنّ في النّموذج المعرفي نفسه أو في النّماذج المعرفيّة المختلفة من حيث ما يقرأ على أنّه انقطاع أو تقاطع أو ما إلى ذلك فيما بينها. وقد انتهينا إلى عدّة أفكار بهذا الشّأن، لعل أهمها:

* القصور الذّاتي حقيقة أصيلة في طبيعة الوجود على المستوى الوجودي (الأنطولوجي)، وهي تُلقي بظلالها الغامضة على المستوى المعرفي (الأبستمولوجي). واللااعتراف بهذه الحقيقة أو تجاهلها، هو العامل الأساسي في تشكيل تقوقعات المعرفة البشريّة على ما هي عليه الآن، من شدٍّ وجذب، بين عباقرة العلم وحكماء الفلسفة وأئمة الدّين. القصور الذّاتي حوّل متخصصي هذه النّماذج الثّلاثة إلى ما يُشبه سدنة الهياكل، كلّ يزعم أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة والنّاطق الرّسمي الوحيد عنها، إلّا قليلًا من بين كلّ من هؤلاء. وما ميّز هذا القليل هو أنّهم بين واعي أو لامح لحقيقة هذا القصور؛ ما جعلهم أكثر مرونة في فَهم الذات، وأقلّ تصلّبًا في تفهّم الآخر.

لو طرحنا السّؤال: إذا كان التصلّب ناتج عن القصور الذّاتي بوصفه حقيقة اأصيلة في طبيعة الوجود ومن ثمّ المعرفة البشريّة، فمن أين أتت المرونة إذن؟ ولماذا؟ فإن ما يتراءى لنا، أنّه ما دام هذا موجود وهذا موجود، فإنّ القصور الذّاتي ذاته يُعاني من قصور، وهذا أشبه ما يكون بمبدأ نفي النّفي؛ الأمر الّذي يُنتج لا مثيل القصور الذّاتي. ما يبقي منافذ مشرعة نحو الطّموح بهامش من التّكامل بين وعي القصور ووعي إمكانيّة تجاوز القصور. والأمر أشبه بالوعي بأنّ الجاذبيّة قانون طبيعي لا يُمكن إنكاره أو تغييره؛ ولكن يُمكن إضافة وعي آخر بإمكانيّة التغلّب عليه بواسطة الأدوات المناسبة لذلك الاختراق، فإنّ كانت الجاذبيّة بمنزلة القصور الذّاتي، فإن اختراقها من القلّة بمنزلة الوجه الآخر لذلك القصور.

* النسبانويّة هي: الحقيقة الأصيلة الأخرى من حقائق الوجود والمعرفة، وعدم إيلاء هذه الحقيقة حقّها ومستحقّها بالقدر الّذي تستحق–بسبب القصور الذّاتي- هو ما خلق أنماط التفرد في واقع الحياة البشريّة وبجميع المجالات كالسّياسة والاقتصاد والاجتماع، هذا فضلًا عن مجالات العلوم والفلسفات والأديان، فظهرت الأيدولوجيّات والدوغمائيات بشتّى أصنافها ودرجاتها؛ الأمر الّذي جعل الصّراع أصلًا والانسجام فرعًا… كيف ذلك؟

إنّني إن كنت أعي بأن ما أقوله ليس الحقيقة المطلقة الشّاملة الملزمة للجميع، بل مُطلقة وشاملة وملزمة لي ولمن يقولها معي؛ فإنّ هذا يترك فسحة لتفهّم أو تقبّل أن يكون للآخر الحقّ في أن يزعم ما يشاء لنفسه من حقيقة مطلقة وشاملة وملزمة له ولمن يقولها معه. في تلك الفسحة (أعنى فسحة قبولنا بإمكانيّة أن نكون لا متماثلين وكل يحمل حقيقته المطلقة الملزمة له) سيكون الوعي النّسبانوي دافعًا للتّكامل في بعض التّفصيلات بصيغة تناظر المتوازيات. وتلك الصّيغة تتمثّل في أنّ الذّات تُحاول أن تجد في نفسها ما يُناظر ما هو موجود في الآخر. فلو افترضنا –مثلًا- أنّ المؤسّسة العلميّة وَعت نسبانويّتها بالكيفيّة الّتي وصفناها، فهذا يعني أنّها تقف مستقلّة بذاتها نعم؛ ولكنّها لا تنكر على النّظر الفلسفي أو الوحي الدّيني وجودهما واستقلاليتهما، وإن كانت لا تقول بما يقولان، فإن لم تنكر ذلك الحقّ للآخر في مجاله، فإنّها إن نظرت بعض الأفكار الفلسفيّة أو النّصوص الدّينية على أنّها مقبولة في مجالاتها، فإنّ هذا يخلق فضاء التّوازي فيما بينها، وبواسطة هذا الفضاء يُمكن أن ينظر العلم –مثلًا- إلى شيء في الدّين ويُحاول إيجاد نظيره في ذاته من دون شرط الإيمان بالدّين. على سبيل المثال: في النّصوص الدّينيّة هناك كثيرٌ من قصص المعجزات والخوارق، كقصّة النّار الّتي أُلقيَ فيها النّبي إبراهيم فحرقت كلّ شيءٍ إلّا هو كانت عليه بردًا وسلاما. أو كقصص فهم منطق الطّير أو النّمل أو سواها، أو غير ذلك من المعجزات أو حتّى الكرامات لدى الأولياء. وفقًا لصيغة التّوازي المطروحة ليس مطلوبًا من العلم أن يؤمن بتلك القصص أو حتّى يصدقها، بل المطلوب ان تُطرح تساؤلات على سبيل الافتراض من قبيل: لمّا كان ذلك قد ورد في القصص الدّيني، فهل هذا يُضمر الدّلالة على إمكانيّة وصولنا لتقنية نستطيع معها التحكّم بالنّار بحيث تحرق أو تسخن الأشياء الّتي نبرمجها عليه ولا تفعل ذلك مع سواه، كنظير لما جاء في الدّين؟ وبالمثل، هل يضمر ذلك الدّلالة على إمكانيّة أن نصل إلى آليّة ما، بحيث نستطيع أن نقرأ ما تريده الحيوانات ضمن برمجيّات أو تقنيات تكنوحيويّة؟

كما هو واضح هنا، ليس المطلوب من العلم أن يصدّق المعجزات الدّينيّة، ولا أن يبحث في الآليّة الّتي تحدث فيها المعجزات بالمفهوم الدّيني، بل عليه أن يلتقط الفكرة ثمّ يطرح تساؤلاته حولها، وأن يبحث فيها وَفق مناهجه هو. من حيث فلسفة التّضامر، إنّ التّناظر الفائق قائم بين النّموذجين اللامتماثلين، فإن وُجد شيء في أحدهما بخواص مُعيّنة، فإنّ نظيره موجود أو سيوجد في خواص النّظير.

بخلاف احتضان النّسبانويّة كأصل أصيل في منظومات المعرفة الإنسانيّة، فإنّ البديل هو ما تتعايش معه البشريّة من تنافر أو تناكر قبل أمد بعيد. لو ألقينا نظرة سريعة إلى تاريخ أيّ منظومة حاولت أن تتزعّم المعرفة بوجهٍ مُطلقٍ لوحدها؛ لوجدنا أنّها ما تلبث بعد مُدَّةٍ -قد تطول أو تقصر- تُصاب صلابتها بالتصدّع. على سبيل المثال: ما حصل من انهيار للمنظومة الدّينيّة في الحضارة الغربيّة بعد عصور ازدهارها وعلو كعب أمجادها، وفي المنظومة الإسلاميّة أيضًا. فلمّا أمسك العلم بزمام الأمور ظنّت العقول –بسبب قصورها الذّاتي- أنّ الحقيقة كلّ الحقيقة لا يُمكن أن تُعرف إلّا من طريق هذه المنظومة، وإنّ صلابتها لا يُمكن أن تُدانيها صلابة، لما أعطته من نتائج يقينيّة في ذلك – من القرن السّابع عشر وحتى أواخر القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين- إلى أن تبيّن لاحقًا أنّ تلك الصّلابة تزلزلت إزاء ضربات نسبيّة أينشتاين وميكانيكا الكم، وما تلاها من نظريّاتٍ تجاوزت تخوم الفيزياء إلى الميتافيزياء حين بدأت توضع نظريّات وبالمنطق العلمي، كنظريّة: الانفجار العظيم، ونظريّة متعدّد الأكوان، وسواهما. بين المنظورين الدّيني والعلمي تراوحت الفلسفة بين الأوج والحضيض، ترقى حينًا وتهبط حينًا آخر؛ ما يُعطينا التصوّر الواضح، عن أنّ أي نموذج يظنّ بنفسه أنّه الكلي أو المطلق أو الشّامل أو النّهائي؛ فإنّ ظنّه ذلك ناتج عن عدم الوعي بنسبانويته تلك الّتي لا تمنع تلك اليقينيّات في المنظومات المختلفة؛ ولكنّها تحصر تعميمها في حدود تلك المنظومة، فلا يحكم قانون علمي على قضيّة غيبيّة؛ لأنّها خارج حيطة حكمه، ولا يفسّر نص ديني أو يحكم على نظريّة علميّة لأنّه خارج حيطته أيضًا. من جانب آخر: لا يُعطي تصوّر فلسفي حكمًا عقليًّا على نصٍّ ديني أو نظريّة علميّة، بل حكمه في حيّز منهجيّته العقليّة الّتي يُمكن أن تناظر ما في المنظومتين؛ فالجميع يخضع لمبدأ النسبانويّة. وهي سبيل مُعتبر فيما نرى للتّكامل.

* في المستوى المعرفي (الأبستمولوجي)، لا تتوقّف هذه النّظرة عند حدود الأخذ بالإجابة أحاديّة الجانب، لاعتقادها أنّه لا توجد إجابة تستطيع أن تستغرق جميع جوانب السّؤال المطروح، بل لا بدّ من أجوبة متعدّدة، وكلّ إجابة يُمكن أن تُغطّي جانبًا مُحدّدًا من جوانب السّؤال. ينسحبُ هذا على المدى الأوسع، فلا يُمكن القول إنّها تصطف مع الأيدولوجيّات الدّينيّة ولا الدّوغمائيّات الفكريّة، بل تعدّ أيّ إجابتين وإن كانتا متناقضتين على أنّ كلّ منهما نسبانويّة تبعًا لدلالتها. بتعبيرٍ آخر: تتّجه هذه الفلسفة نحو تعدديّة الأجوبة للقضيّة الواحدة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ كلّ إجابة مقترنة بشرطها وشروطها.

* * *

إذا أردنا لوي عنان القلم عن الاسترسال في ذكر عددٍ من أصول هذه النّظرة، خشية التّكرار؛ فإنّ ما نوّد أن نُثبته في خاتمة هذا المطاف هو ضرورة التوجّه إلى إنتاج فلسفاتٍ مُعاصرة تتبنّى الأسئلة الّتي تتعلق بثلاثيّة: الدّين والفلسفة والعلم، على خلفيّة المشتركات أو التّقاطعات الّتي من شأنها رفدِ الحضارة الإنسانيّة بالمعطياتِ المعرفيّة الدّاعمة للتقدّم المتكامل والرّقي المتوائم، في جميع المجالات وعلى الأصعدة كافّة، والمستويات المعرفيّة والأخلاقيّة.

ما بعد الكلمة الأخيرة

كان ما طرحناه هنا هو خلاصة ما قدمناه في أطروحتنا في الدكتوراه والمعنونة (العلاقة بين العلوم اللامتماثلة، الفيزياء الحديثة والتصوف الإسلامي أنموذجا). بالإضافة الى ما تلاها من استكمال لمسيرتنا البحثية في هذا المضمار. ولئن انتهينا الى ما قدمناه مجملاً ومفصلاَ، فإن مما لا شك فيه أن هذا العمل ليس الا خطوة في طريق طويل، سيتطلب منا -ومن غيرنا- الجهد الجهيد لتحديثه وتطويره، إذ نحن نثبت على أنفسنا قبل غيرنا القصور الذاتي الذي لا مفر لنا منه، وهو مدعاة لمواصلة التطلع قُدما الى الأمام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *