التّضامر والمنطق

ما دَخَلَ التّضامر على شيء إلّا وقرأه بطريقته الخاصّة، أو وفقًا لمنطقه الخاص الباحث عمّا هو مضمر في كلّ ما هو مظهر. وهذا المنطق لا يستثني شيئًا حتّى نفسه؛ غير أنّنا ابتداءً علينا التّمييز بين منطق التّضامر في نفسه لنفسه، وقراءة التّضامر لأنواع المنطق الأخرى، إذ منطق التّضامر الذّاتي، هو المنهج الدّاخلي الّذي ينضم مبادئه وقوانينه وقواعده في نظم متسق متماسك منسجم مع نفسه، ومع المحيط الخارج عنه. ونحن نستخدم هذا المنطق لقراءة أنواع المنطق الأخرى لنستنبط به مبادئ وقضايا منطقيّة ليست متعلّقة بالتّضامر نفسه، بل بمضمر المنطق الّذي نقرأه ونُحلّله.  

وفقًا لذلك نقول: إذا كان المنطق بمختلف صنوفه وأنواعه ([1]) يبحث في القضايا والعلاقات المظهرة سواء أكانت بين الشّيء ونفسه أو الشّيء وغيره؛ فإنّ منطق التّضامر يبحث في لا مثيل تلك الأنواع، أي في القضايا والعلاقات المضمرة لها، سواء أكانت تلك العلاقات بين الشّيء ونفسه أو بين الشّيء وغيره.

فيما يأتي من قراءة سنتعرض لشيء مختصر من مفهومات منطق التّضامر، ولنموذج مختصر من أسلوب التّضامر في استنطاق عدد من مبادئ وقواعد المنطق الصّوري، وعلى شاكلة النّموذج المبيّن هنا، يُمكن للباحث أو المهتم أن يتوسّع في أبحاث متخصّصة بهذا الخصوص ([2]).

مقدّمات تأسيسيّة:

(1) مبدأ التلازم بين (أ) و (لا أ) ([3]) .

إذا كان (أ) فلا بد من (لا أ) لزوما.

وإذا لم يكن (أ) فلا بد من ألّا يكون (لا أ) لزومًا.

حيث إنّ (لا أ) هو رمز لا مثيل (أ).

(2) جزئيّة (أ) وكليّة (لا أ) ([4]).

لمّا كان (لا أ) أكبر من (أ) لزومًا.

فإن كلّ (أ) لا يدل على كلّ (لا أ) بل بعضه.

على حين يدلّ (لا أ) على كلّ (أ) وأكثر.

أي أن: 

المظهر (ككل) يدلّ على بعض المضمر.

على حين يدل المضمر على أكثر من المظهر.

(3) التسلسل والتفرّع والتشعب.

لمّا كان (لا أ) عدد غير محدّد من الاحتمالات الممكنة (ب، ت، ث….).

ولمّا كان أيّ احتمال ممكن من (ب، ت، ث….) هو في نفسه (أ).

فإنّ أي من (ب، ت، ث….) يضمر (لا ب، لا ت، لا ث….لا).

وعلى هذا:

(لا ب) = (ب 1، ب 2، ب 3….)

(لا ت) = (ت1، ت2، ت3….)

(لا ث) = (ث1، ث2، ث3….) … إلخ.

ثمّ كلّ فرد من أفراد هذه المجموعات المتفرّعة من المجموعة الأصليّة يتشعّب إلى عدد آخر من الاحتمالات الممكنة، وهكذا تستمرّ العمليّة في تشعّبات، قد تستمر في التفرّع والتشعّب، وقد تنغلق على نفسها في دوائر، وقد تبقى مفتوحة على ما هو عائم أو مجهول. مثال ذلك:

المادّة ı| اللامادّة

ولو فرضنا أنّ اللامادّة هنا هي (الطّاقة) فإنّ التّضامر سيلزمنا بالقول إنّ:

الطّاقة ı| اللاطاقة

 ولو حدّدنا مثلًا المقصود باللاطاقة بالرّمز (س) مثلًا، فذلك يلزم القول بـ:

س ı| لا س، وإذا كانت لا س = ع فهذا يلزم القول بـ

ع ı| لا ع وهكذا دواليك في تسلسل يبدو أنّه لا نهائي.

هذا من جهة ومن جهة أخرى، لو فرضنا في مثالنا:

 أنّ اللامادّة = الطّاقة فيزيائيًّا، الهيولي فلسفيًّا، الرّوح صوفيا… إلخ.

فإنّ تشعيبًا تضامريًّا سيظهر لنا وهو:

الطّاقة ı| اللاطاقة، الهيولي ı| اللاهيولي، الرّوح ı| اللاروح …. إلخ.

فإذا كانت:

اللاطاقة = س، ص

اللاهيولي = ع

اللاروح = هـ، و، ي  فإنّ ذلك يُؤدّي إلى:

س ı| لا س، ص ı| لاص، ع ı| لا ع، هـ ı| لا هـ، و ı| لا و، ي ı| لا ي

وهكذا نجد أنفسنا إزاء تسلسل وتشعيب، قد يتداخل أو يتشابك أو يتقاطع… إلخ.

إنّ إمكانيّة الانفتاح هذه هي في واقع الأمر من السّمات الجوهريّة في مفهوم التّضامر القابل لاستيعاب التكوثر؛ وذلك لأنهّ في الأصل يعبّر عن الأشياء والمفهومات في جميع حالاتها: توحّدها، كثرتها المتمايزة، توحّدها في كثرتها، كثرتها في توحّدها… إلخ، وعلى هذا فمن المنطقي أن تكون صياغة التّضامر النّظريّة قابلة لأن تنفتح على تشعّبات وتداخلات وتسلسلات من شتّى الأشكال والأنواع. وما يتحصّل من هذا الأمر هو النّتائج الآتية:

نتيجة 1: التّسلسل

«كلّ سؤال يضمر عدد غير محدّد من الأسئلة اللامتماثلة»([5]).

نتيجة 2: التفرّع

 «كلّ سؤال يضمر عدد غير محدّد من الإجابات اللامتماثلة».

نتيجة 3: التشعّب

 «كلّ إجابة لسؤال، تضّمر عدد غير محدّد من الإجابات الّتي لا تُماثلها».

(3-1) حالات التكوثر (التسلسل والتفرّع والتشعّب):

حالة التكوثر ([6]): هي الحالة الّتي تنفتح فيها الأشياء تضامريًّا على الاحتمالات الممكنة لما تتضمنه من خاصيّة التسلسل والتفرّع والتشعّب. ويمكن إجمال حالات التكوثر بالاحتمالات الآتية:

حالة التكوثر المفتوحة: وهي علاقة التّضامر الّتي يمكن أن تستمرّ في التسلسل إلى ما لا نهاية.

حالة التكوثر المنقطعة: وهي العلاقة الّتي يصل فيها التّضامر إلى حدَّ معيّن فينقطع إذا ما لزم أنّ يكون له دلالة غير ممكنة.

حالة التكوثر المغلقة: وهي العلاقة الّتي يدور التسلسل فيها؛ ليجد نفسه قد انتهى بما بدأ منه مكوّنًا حلقة مغلقة على نفسها.

حالة التكوثر الكليّة: وهي العلاقة الّتي يصل فيها التّسلسل إلى حالة من الإطلاق اللامتناهي.

حول قوانين أرسطو في الهوية:

(1) لنفترض أنّ لدينا القضيّة القائلة: أحمد طويل. بلا شكّ أنّ طول أحمد يخضع لمبدأ النّسبيّة، أي: هو طويل نسبة لما هو أقصر منه؛ ولكنّه قصير نسبة لمن هو أطول منه، وهذا يعني أنّ قولنا: أحمد طويل، يضمر قولنا: أحمد ليس بطويل.

واضح هنا أنّ قولنا: أحمد ليس بطويل نسبة لمن هو أطول منه، لا ينفي عنه الطّول، فهو لم يزلْ طويلًا؛ ولكن طوله اقترن بمفهوم النّسبويّة، ولا طوله اقترن بالنسبويّة أيضًا، ومن هنا:

فإذا كان المُظهر مثبتًا: أحمد طويل، فإن المُضمر مثبتًا أيضًا: أحمد ليس بطويل.

ولا تناقض هنا، لأنّنا لا نقول: أحمد من حيث المُظهر طويل غير طويل في الوقت نفسه، بل نقول: دلالة المُظهر ثابتة في المستوى المُظهر، ودلالة اللاتماثل ثابتة أيضًا ولكن ليس في مستوى المُظهر بل في مستوى المُضمر.

إضافةً إلى أنّه لا تركيب في قولنا: أحمد طويل لا طويل؛ لأنّ التّركيب يكون من حيث الوجه الواحد، الّذي يشتمل على نقيضين، ينتج عنهما مركب يختلف عن المكونين له. والحال هنا، هو إثبات التمايز النّسبوي بين الوجهين اللامتماثلين، فلا مركب منهما، بل وصف لهما. وهذا يميّز التّكامل التضامري عن التّناقض الجدلي.

اذن: الحكم التضامري في أيّ قضيّة يُثبت مظهرها كما ويثبت مضمرها في الوقتِ نفسه. وهذا يمكن التّعبير عنه بالرّموز:

ض = أ لا أ   حيثُ إنّ: (ض) رمز التّضامر     

تبعًا لما تقدّم:

ض = ظ لا ظ

حيثُ إنّ: (ض) رمز التّضامر، (ظ) رمز المُظهر، (لا ظ) رمز اللامثيل المُضمر 

وبيان ذلك:

التّضامر = المُظهر + المُضمر

ولما كان المُضمر = لا المُظهر

إذن:

التّضامر = المُظهر لا المُظهر

وهو ما يعني أن:

ض = ظ لا ظ

وأيضا:

لمّا كان:    أ ı| لا أ

فهذا يعني:  ı| = أ لا أ

ولمّا كان   ı| رمز التّضامر

إذن:      ض = أ لا أ

(2) حول قانون الهوية:

ينصّ قانون الهويّة في المنطق الصوري على أن:أ = أ.

أي أنّ (أ) في الطرفين هي بالنّسبة للتّضامر عبارة عن المُظهر ذاته. فإذا رمزنا –للسهولة- لهذا القانون بالرّمز (ق) مثلًا. فإنّ هذا القانون الّذي يُعبّر عن الوجه المُظهر فقط بحسب التّضامر يضمر لا مثيله، أي أنّ:

ق ı| لا ق

ولمّا كان:  ض = أ لا أ

فإنّ:       ض ق = ق لا ق

حيثُ إنّ (ض ق) رمز لتضامر قانون الهوية.

وهذا يعني أنّ قانون الهوية الصّوري يقرأ في التّضامر بالصّيغة:

ض(أ = أ) = (أ = أ) لا (أ = أ)

(2-1) ممّا يترتّب على تضامر قانون الهوية، هو أنّ هوية أيّ شيء هي من جانب تطابق نفسها، ولكنّها في الوقت نفسه ومن جانب آخر تتشابك مع غيرها تعلّقًا أو تعالقًا. وهذا هو ما يفتح الباب إزاء نشأة العلاقات، والاختلاف، والتنوّع، والتعدّد، والتّكاثر، والتكوثر، والقيم المتعدّدة، والغائمة… وما إلى ذلك.

(2-2): بالاستناد إلى المنطق التضامري، هل حكم قانون الهويّة في المنطق التقليدي صادق أم كاذب؟ في الحقيقة، قانون الهويّة صادق بنسبة (100%) نسبة لدلالة المنطق الصّوري، وهو صادق بنسبة (100%) نسبة لدلالة منطق التّضامر؛ مع أنّ الوجه التّقليدي يتحدّث عن تطابق الهويّة مع ذاتها، على حين يتحدّث التّضامري عن تجاوز الهويّة لذاتها إلى ما ورائها. ولا تناقض هنا؛ لأنّ الهويّة ذات متضامرة، لها من حيثيّة كلّ وجه حكم مطلق يتعامل معها بوجهٍ كامل.

للتّوضيح نعود لمثالنا: أحمد طويل لا طويل

أحمد نسبة لمن هو أقصر منه يعدّ طويلًا 100%

وأحمد نسبة لمن هو أطول منه يعدّ قصيرًا 100%

من ثمّ: أحمد طويل 100% لا طويل 100%

أيضًا قانون الهويّة هو صادق بنسبة 100% في جميع حالاته نسبانويًّا.

نعم، إن رُفِعَ مفهوم التّضامر؛ فإنّ التّناقض يظهر بوجهٍ مباشر، فلا يعود بالإمكان القول: إنّ قانون الهويّة صحيح وغير صحيح في الوقتِ نفسه. فعندنا إنّ ثابت التّضامر هو المانع لحضور التّناقض.

(3) حول قانون عدم التّناقض:

نصّ قانون عدم التّناقض هو: لا يُمكن وجود قضيّة صادقة وكاذبة في آن معًا. وصيغته الرّمزيّة:

~ ( أ & ~ أ)

غير إنّ منطق التّضامر يرى أنّ ما انطبق على قانون الهويّة ينطبق هنا، إذ إذا كانت الهوية هي هي فقط، فهذا يعني عدم التّناقض؛ لأنّه لا يُمكن أن يصحّ القول: الهويّة غيرها.

أ = أ    صادقة

أ = ب   كاذبة

لكن من جهة أخرى، يُمكن للهويّة أن تتشارك مع سواها بنسبة ش%، وعندئذٍ تُصبح:

أ ≠ أ  صادقة

وهنا نلاحظ أنّ (أ) لم تطابق (ب) بل إنّها لم تعد من هذا الوجه مطابقة لنفسها.

لهذا اللاتطابق فإنّ نسبة معيّنة – والّتي رمزنا لها ش%- من عدم التّناقض لم تعد فاعلة؛ وعلى هذا فقد أصبح [ ليس ~ ( أ & ~ أ) ].

واستنادًا لذلك فإنّ عدم التّناقض المثبت كليًّا يصبح نسبانويًّا، وهو يضمر لا مثيله الّذي هو ليس (عدم تناقض) كامل، بل نسبة منه. وبذا تصبح صيغة قانون عدم التّناقض في منطق التّضامر هي:

  ~ (أ & ~ أ) لا ~ (أ & ~ أ)

حيثُ إنّ: [ليس ~ (ق & ~ ق)] تنضوي ضمن الاحتمالات الممكنة الّذي يتضمّنه مفهوم (لا التضامرية)؛ ليتكّون بذلك قانون (التناقض التضامري)، وهو الّذي يكون مظهره قاطع بإثبات عدم التّناقض ومضمره يتضمّن احتمال التّناقض.   

(3-1): ما يترتّب على تضامر قانون عدم التّناقض: إنّ القضيّة تضامريًّا لا يُمكن أن تكون صادقة وكاذبة في آن معًا. ويمكن أن تكون في الوقتِ نفسه شبه صادقة أو شبه كاذبة.

مثال ذلك: أحمد طويل، هذه القضيّة:

هي مبدئيًّا لا يُمكن أن تكون صادقة وكاذبة معًا، أي لا يُمكن أن يكون أحمد طويل وليس بطويل في الوقتِ نفسه، فإمّا هذه أو تلك؛ ولكنّها يُمكن أن تكون شبه صادقة وشبه كاذبة، وذلك لأنّ الطّول نسبي أصلًا.

فإذا افترضنا الصّدق، فإنّ القضية: صادقة لا صادقة

وإن افترضنا الكذب فإنّها: كاذبة لا كاذبة

وفي كلتا الحالتين، لم يجتمع النّقيضين في آن.

فالمنطق التّضامري لا يُبطل أو يتعارض مع المنطق التّقليدي بل يُثبته ويمتدّ إلى ما ورائه. وهو في ذلك، يجعله نسبانويًّا في إطلاقه، ويفتح المجال أمام احتمالات أخرى، هي المضمرة فيما هو مظهر.

(4) قانون الثّالث المرفوع:

  يقرّر قانون الثّالث المرفوع في المنطق التّقليدي بأنّ أي قضيّة إمّا أن تكون صادقة أو كاذبة ولا ثالث بينهما. والصّيغة الرّمزيّة لهذا القانون هي:

(أ ˅ ~ أ)

ولما تبيّن في قانون عدم التّناقض، إنّ القضيّة يُمكن أن تكون شبه صادقة، أو تكون شبه كاذبة. أو كما يُعبّر عن ذلك (نيتروسوفيا): ص%، ك%؛ أي صادقة نسبيًّا، وفي الوقتِ نفسه كاذبة نسبيًّا. فهذا يعني بالضّرورة أنّ القضيّة يُمكن أن تكون في الوقت نفسه:

لا صادقة ولا كاذبة [ ~ ( أ ) & ~ ( ~أ ) ]

أو

صادقة وكاذبة  ( أ & ~ أ)

وفي كلتا الحالتين سيعني ذلك:

~ (أ ˅ ~ أ)

أي ارتفاع الثّالث المرفوع، أو نفيه.

ولكن ووفق منطق التضامر فإنّ فهم الأمر بهذه الطّريقة قاصر أو مشوّه؛ وذلك لأنّ التّضامر لا يثبت المُضمر على حساب نفي المُظهر، بل هو يثبتهما معًا (بحسب مبدأ التلازم)؛ لذا فمن غير الدّقيق الذّهاب إلى أنّ المنطق التضامري يؤدّي إلى تقويض قانون الثّالث المرفوع، بل الصّحيح القول:

إنّ الثّالث المرفوع صحيح في المستوى المُظهر.

وفي الوقت نفسه فإنّ لا مثيله صحيح في المستوى المُضمر.

أي أنّ الثّالث المرفوع ليس بصحيح في المستوى المُضمر.

ومنهما معًا يتكوّن قانون (الثّالث التضامري) وصياغته:

( أ ˅ ~ أ) لا ( أ ˅ ~ أ)

حيثُ إنّ لا (أ ˅ ~ أ) يتضمّن ~ (أ ˅ ~ أ) كواحد من احتمالاته الممكنة.

(4-1) ممّا يترتب على الثّالث التّضامري، هو أنّه ما من قضيّة كان يُظن أنّ ثالثها مرفوع، إلّا ويفترض إعادة النّظر فيها لاستنباط ما تضمره من احتمالات حين نضيف إمكانيّة (لا الثّالث المرفوع).    

لتوضيح ذلك نعود لمثالنا عن طول أحمد. هو حسب الثّالث المرفوع إمّا طويل وإمّا قصير؛ ولكنّه حسب الثّالث التضامري:

طويل أو قصير + أطول من وأقصر من

بمعنى أنّ قولنا:

طويل، لا ينفي أنّه (أطول من) و (أقصر من).

قصير، لا ينفي أنّه (أقصر من) و (أطول من).

حول المحاكمات المنطقيّة:    

(1) تكامليّة المنطق التّضامري:

تخضع القضيّة الأحاديّة في التّضامر لمنطق ثنائي يُكامل بين الأحاديّة من جهة والتّعدديّة من جهة أخرى. فهو إجمالًا: أحادي (مطلق) ثنائي (حيادي) تعدّدي (نسبانوي) في الوقتِ نفسه. وفي هذا المنطق تكون:   

  1. كلّ قضية مُظهرة، إمّا صادقة وإمّا كاذبة، بحسب المنطق الصّوري (أرسطو).
  2. كلّ قضيّة مُضمرة، هي صادقة بنسبة (ص%)، ومُحايدة بنسبة (ح%)، وكاذبة بنسبة (ك%)، حسب المنطق النيوتروسوفي ([7]).

ويُمكن التّعبير عن ذلك بأسلوب آخر وذلك بالقول:

كلّ قضيّة تتكوّن من حقّ مُظهر وحقيقية مضمرة. وهي من حيث (الحق) إمّا صائبة (100%) وإمّا كاذبة (100%) ولا تحتمل الحالة الرّماديّة بينهما. ومن حيث (الحقيقة) هي تحتمل جميع النّسب الممكنة إلّا (100%). وهذا المعنى يُمكن التّعبير عن بالشّكل الآتي:

(2) القضايا ومراجع محاكماتها

في التّضامر يوجد ثلاثة مراجع إسناد رئيسة، يُمكن أن تحاكم وفقًا لها القضايا هي: 

أوّلًا: المرجع المُظهر أو مرجع الحق، وهنا تحاكم القضيّة وفقًا لمبدأ أُحادية (إما – أو)، فإمّا أن تكون صادقة وإمّا كاذبة، إمّا صائبة وإمّا خاطئة، لا تحتمل أي تأويل اطلاقًا، بل هي مفسّرة تفسيرًا ظاهراتيًّا، حسيًّا، تجريبيًّا، واقعيًّا، بحتًا، مقيّدًا بالمنطق الصّوري.

ثانيًا: المرجع المضمر أو الحقيقة، ويتضمن الأحكام الآتية:

  1. تحاكم القضية وفقًا لمبدأ ثنائيّة (إمّا – و)، فهي تكون: إمّا صادقة (صائبة) وتحتمل الكذب (الخطأ)، وإمّا تكون: كاذبة (خاطئة) وتحتمل الصّدق (الصّواب).
  2. تحاكم القضيّة وفقًا لمبدأ ثنائيّة (لا – ولا)، فهي لا صادقة ولا كاذبة، بل حيادية. حسب قوانين النيوتروسوفيا.
  3. تحاكم القضيّة وفقًا لمبدأ ثنائيّة (نعم – ونعم)، فهي صادقة وكاذبة في الوقتِ نفسه، حسب قوانين الجدل الدّيالكتيكي في وحدة الأضداد.

ثالثًا: المرجع التّضامري، وفيه تحاكم القضيّة وفقًا لمبدأ تعدّد مراجع الإسناد (إما– أو- و- لا- ولا- نعم- ونعم)، وبحسب هذه المبدأ المتعدّد يكون للقضيّة عدد من الأحكام وليس حكمًا وحيدًا أو حكمين، ويمكن الاستفادة من كلّ حكم في المجال الفكري أو الموضوعي الّذي يناسبه.                    

على هذا: فإن حوكمت القضيّة بمنطق الحق (المُظهر) ستكون إما يمينيّة وإمّا يساريّة، إمّا عقلانيّة وإمّا لا عقلانيّة، إمّا حق وإمّا باطل، إمّا صح وإمّا خطأ، إمّا مع وإمّا ضد، إمّا إيمان وإمّا كفر، إمّا شرق وإمّا غرب، إمّا صديق وإمّا عدو… فهي لا تقبل التّأويل بل التّفسير الأحادي، القاطع، الجازم، الحدي، المطلق.

وإن حوكمت بمنطق الحقيقة (المُضمر) فستحتمل نسبة من اليمين ونسبة من اليسار، نسبة من العقلانيّة ونسبة من اللاعقلانيّة، نسبة من الإيمان ونسبة من الكفر، نسبة من الشّرق ونسبة من الغرب، نسبة من الصّداقة ونسبة من العداوة… إلخ. فهي تقبل التّأويل المتعدّد، غير القاطع أو الجازم أو الحدي، بل النّسبانوي.

ثمّ إن حُوكمت بمنطق التّضامر (مُظهر + مُضمر) فستحتمل الحقّ فقط، وتحتمل الحقيقة فقط، وتحتملهما معًا نسبة لكلّ منهما دون خلط أو لبس.


[1]– للمنطق أنواع عديدة، راجع بهذا الصّدد المنطق المتعدّد القيم، د. صلاح عثمان، مصدر سابق. وأيضًا كتاب: الماهيّة والعلاقة، علي حرب، مصدر سابق.

[2] – تنويه: نود الإشارة الى ان بعض المعلومات سبق ان شرحت في غير ما مكان، تطلبت الضرورة تكرار ذكرها، لذا اقتضى التنويه.

[3]– راجع: القسم الثّاني – الفصل الأول -المصادرات التكميليّة – المصادرة الثّالثة، مصادرة التّلازم.

[4]– راجع: القسم الثّاني -المصادرات التكميليّة – المصادرة الخامسة، مصادرة الاحتواء.

[5] – راجع: القسم الثّاني – الفصل الثّالث -قوانين التّضامر -القانون الثّالث.

[6] – تكوثر الشّيء: كثر كثرة بالغة. وفلسفيًّا: الكثرة الممكنة تحت الوحدة الظّاهرة. انظر: اللّسان والميزان أو التكوثر العقلي، مصدر سابق، ص11.

[7]– راجع: القسم الثّاني – الفصل الأوّل – مفهومات أساسيّة – مفهوم النيوتروسوفيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *